François Déroche, \"Les emplois du Coran, le livre manuscrit\" (translated into Arabic)

June 19, 2017 | Autor: Said El Bousklaoui | Categoría: Quranic Studies, Islamic Studies
Share Embed


Descripción

‫العدد‬

‫(‪1 )6‬‬

‫العدد‬

‫(‪2 )6‬‬

‫العدد السادس‬ ‫صيف ‪2015‬‬

‫مجلة فصلية محكّمة تعنى بالدين والسياسة واألخالق‬ ‫تصدر عن مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‬ ‫رئيس التحرير‪:‬‬ ‫األستاذ الدكتور عبد الله السيد ولد أباه‬ ‫سكرتري التحرير‪:‬‬ ‫الحممي‬ ‫الدكتور نادر ّ‬ ‫مستشار التحرير‪:‬‬ ‫يونس قنديل‬

‫الهيئة االستشارية‪:‬‬ ‫األستاذ الدكتور عبد املجيد الرشيف‬ ‫األستاذ الدكتور رضوان السيد‬ ‫األستاذ الدكتور فتحي املسكيني‬ ‫األستاذ الدكتور أحمد برقاوي‬ ‫الدكتور فيصل دراج‬ ‫الدكتور محمد شوقي الزين‬

‫اآلراء الواردة يف املجلة ال متثل بالرضورة مؤسسة «مؤمنون بال حدود»‪،‬‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن رأي أي من العاملني فيها‪.‬‬

‫املحتويـــات‬

‫‪6‬‬ ‫‪8‬‬

‫كلمة رئيس التحرير‬ ‫كلمة سكرتري التحرير‬

‫‪12‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتاباً مخطوطاً‬ ‫تأليف‪ :‬فرانسوا ديروش‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬سعيد البوسكالوي‬ ‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬ ‫تأليف‪ :‬مهدي عز ّيز‬ ‫ترجمة‪ :‬عبد العزيز بومسهويل‬ ‫نظرة عامة عىل القرآن وتفسريه‬ ‫تأليف‪ :‬يوهانس جانسن‬ ‫ترجمة وتعليق‪ :‬حازم زكريا محي الدين‬ ‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬ ‫عبد الله هداري‬ ‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬ ‫أرشف حسن منصور‬ ‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬ ‫متسك‬ ‫مصطفى بن ّ‬

‫‪33‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪75‬‬ ‫‪84‬‬ ‫‪107‬‬

‫‪ 127‬ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫تأليف‪ :‬جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬ ‫ترجمة‪ :‬فيصل سعد‬

‫ألباب الكتب‪:‬‬

‫‪« 161‬التلمذة الفلسفية» لغادامري‬ ‫خالد طحطح‬ ‫‪« 178‬الرجولة املتخ ّيلة» ملي غصوب وإميا سنكلري‬ ‫هاجر خنفري‬

‫العدد‬

‫(‪7 )6‬‬

‫كلمة رئيس التحرير‬ ‫عرفت الدراسات القرآن ّية يف الغرب يف السنوات األخرية من ّوا نوعيا باللغات األورب ّية الرئيس ّية‬ ‫(االنجليزية واألملانية والفرنسية)‪ ،‬سواء من حيث الك ّم‪ ‬واملضمون أو من حيث املناهج واملقاربات‪،‬‬ ‫يف الوقت الذي مل يواكب هذا املجهود تط ّور مامثل يف الحقل العريب اإلسالمي الذي ال يزال يرت ّدد‬ ‫بني املنظور الكالسييك واألبحاث االسترشاقيّة التقليديّة املتجاوزة‪.‬‬ ‫تاريخي استلهم‬ ‫نقدي‬ ‫وقد ات ّجهت الدراسات القرآنيّة يف الغرب بني ات ّجاهني بارزين ‪ :‬ات ّجاه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالغي تأرجح بني‬ ‫لغوي‬ ‫النص املق ّدس اليهودي – املسيحي‪ ،‬واتّجاه‬ ‫املناهج التي طبقت عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مباحث البيان السامي التّي طبقت عىل نصوص العهدين القديم والجديد والدراسات اللسانية‬ ‫واألسلوب ّية املعارصة ‪.‬‬ ‫وال ب ّد أن نن ّبه إىل رهانات ثالثة متاميزة اكتنفت الدراسات القرآن ّية يف الغرب وطبعت أثرها يف‬ ‫السياق اإلسالمي ‪:‬‬ ‫نصا‬ ‫أ ّوال‪ :‬االنطالق من وحدة املد ّونة الكتابيّة التوحيديّة يف النظر إىل القرآن الكريم بوصفه ّ‬ ‫يستجيب من حيث البنيات الرتكيب ّية والدالل ّية واألفق القيمي والرمزي إىل نفس أدوات وآل ّيات‬ ‫النص اليهودي ‪ -‬املسيحي‪ ،‬ولذا اقتىض الحال أن تسلّط عليه نفس املسالك النقديّة التاريخيّة يف‬ ‫ّ‬ ‫النص وتقنينه‪ .‬هذا التو ّجه الذي بدأ منذ كتاب ‪ « ‬تاريخ القرآن» للمسترشق‬ ‫النظر ملسار تشكّل ّ‬ ‫األملاين «ثيودور نولدكة» ( صدرت صيغته األوىل عام ‪ )1860‬وأخذ منعرجا جديدا مع أعامل‬ ‫الشك يف الرواية اإلسالم ّية التقليديّة إىل ح ّد‬ ‫ّ‬ ‫«املراجعني الجدد» الذين ذهبوا بعيدا يف نزوعهم‬ ‫رفض املسلّامت املألوفة يف الدراسات القرآنيّة الكالسيكية‪ ،‬وقد شكّلت أعامل املسترشق األمرييك‬ ‫«جون واسنربو» حول القرآن التي بدأ نرشها منذ نهاية سبعينيات القرن املايض نقطة تح ّول كربى‬ ‫يف هذا املسلك‪ ،‬وتبعه فيه تالميذه « مايكل كوك « و» باتريشيا كرون» التي توفيّت مؤ ّخرا ً‪ .‬بيد أ ّن‬ ‫هذه املدرسة التي غالت يف نظريّاتها التفكيك ّية النقديّة تعرضّ ت المتحان عسري إثر تفنيد األبحاث‬ ‫الحفريّة والنقوش والنصوص املكتوبة ألغلب أطروحاتها املثرية‪ ،‬يف حني برز ات ّجاه جديد مغاير‬ ‫يذهب إىل النظر للحدث القرآين يف سياق «العرص الكالسييك املتأخّر» بربطه بالنصوص الدين ّية‬ ‫العدد‬

‫(‪8 )6‬‬

‫عبد الله السيد ولد أباه‬

‫اليهوديّة املسيحيّة املعارصة لظهور اإلسالم أو القريبة من نشأته ( اشتهرت يف هذا الباب أعامل‬ ‫الباحثة األملان ّية أنجليكا نويفرت التي أث ّرت تأثريا واسعا يف الدراسات القرآن ّية املعارصة يف الغرب)‪.‬‬ ‫ومع أ ّن لهذا النقاش جوانبه العلمية والبحثية‪ ،‬إالّ أنّه ال ميكن فصله عن سياق الجدل الديني‬ ‫حول عالقة اإلسالم بالتقليد اليهودي املسيحي الذي يق ّدم نفسه امتدادا له ومص ّححا ناسخا له‪،‬‬ ‫يف حني يوظّف خطاب اإلسالموفوبيا السائد جوانب من هذا الجدل يف رصد ما يطلق عليه يف‬ ‫بعض األدبياّت « االستثناء اإلسالمي «بإرجاع ظواهر راهنة مثل اإلرهاب والتط ّرف الديني بالبنيات‬ ‫العقدية والتمثلية يف اإلسالم‪ .‬‬ ‫ثانيا‪ :‬كانت لهذه األبحاث والدراسات النقديّة جوانب إيجاب ّية يف دفع وتوطيد العمل التوثيقي‬ ‫املا ّدي الدقيق حول تاريخ املخطوطات القرآنيّة (عرث إىل ح ّد اآلن عىل آالف األوراق من القرن‬ ‫الهجري األ ّول ) والنقوش والحفريات القرآن ّية‪ ،‬مبا شكّل بالفعل يف السنوات األخرية ثورة كربى يف‬ ‫املختصة يف‬ ‫الدراسات املتعلّقة بتاريخ تدوين وتقنني القرآن من خالل جهود املختربات والكرايس‬ ‫ّ‬ ‫كربيات الجامعات األورب ّية (من آخر االكتشافات يف هذا املجال مخطوط برمنغهام الذي ال يزال‬ ‫الجدل حوله قامئا بعد اإلعالن أنّه أقدم مخطوط قرآ ّين ويعود للعرص النبوي وقد سبقه االهتامم‬ ‫الكبري مبخطوطات صنعاء املكتشفة يف سبعينيات القرن املايض)‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬مل تؤث ّر الدراسات القرآن ّية يف الغرب تأثريا نوعيا يف الحقل اإلسالمي باستثناء بعض املحاوالت‬ ‫األكادمييّة املحدودة‪ ،‬وقد ات ّجهت يف املقابل الدراسات القرآنيّة يف العامل اإلسالمي يف ات ّجاه املباحث‬ ‫التأويل ّية يف ات ّجاهيها ‪ :‬التأويل ّية النقديّة من خلفيات تنويريّة تحديث ّية‪ ،‬والتأويل ّية التجديديّة‬ ‫النص املق ّدس من منظور مقاصدي يراعي القيم الناظمة‬ ‫اإلصالحيّة التي سعت إىل إعادة قراءة ّ‬ ‫واملعاين الروحية الثابتة بقدر ما يراعي تبدل السياقات الفكريّة واملجتمع ّية‪.‬‬ ‫وسيظل هذا‬ ‫ّ‬ ‫ملف جامع‪،‬‬ ‫لقد حاولنا يف هذا العدد تت ّبع هذه املباحث والدراسات من خالل ّ‬ ‫املوضوع من املشاغل الدامئة للمجلة يف أعدادها القادمة ‪.‬‬

‫‪ ‬عبد الله السيد ولد أباه‬

‫العدد‬

‫(‪9 )6‬‬

‫كلمة سكرتري التحرير‬ ‫عم عهده القارئ‬ ‫ّ‬ ‫يطل العدد السادس من مجلّة ألباب الفصل ّية املحكّمة برتتيب مختلف نسب ًّيا ّ‬ ‫يف األعداد السابقة‪ ،‬متخلّيًّا عن تبويب املوا ّد املنشورة إىل دراسات‪ ،‬فرتجامت‪ ،‬ث ّم قراءات يف الكتب‪.‬‬ ‫التخل اعتباط ًّيا نظ ًرا لوصول عدد من األعامل العلم ّية املتعلّقة مبا أصبح معروفًا‬ ‫ومل يكن هذا ّ‬ ‫باسم «الدراسات القرآنيّة»؛ ذلك املجال املعر ّيف الذي ما فتئ يتط ّور ويتّسع منذ القرن التاسع عرش‬ ‫خاصة بعد ظهور إنجيل هذه الدراسات ونعني كتاب «تاريخ القرآن» لتيودور نولدكه (‪Theodor‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ )Nöldeke‬سنة ‪.1860‬‬ ‫األقل يصعب‪ ،‬يف‬ ‫وتتداخل ضمن «الدراسات القرآنيّة» اليوم خمسة مباحث أساسيّة عىل ّ‬ ‫الحقيقة‪ ،‬الفصل بينها لتشابكها‪ ،‬ونقصد التاريخ‪ ،‬واألديان املقارنة‪ ،‬والفكر الديني‪ ،‬واللغة والتفسري‪.‬‬ ‫وضمن هذه املباحث مجتمعة تتن ّزل األعامل األربعة األوىل املنشورة يف هذا العدد من ألباب‬ ‫وتتمثّل يف ثالث ترجامت وقراءة يف كتاب ذي عالقة مبارشة بالدراسات القرآن ّية‪ ،‬والغاية من ذلك‬ ‫تقريب هذه الدراسات من القارئ العريب وفتح باب النقاش حول أطروحات مل يعد من املمكن‬ ‫وغض النظر عنها‪ ،‬إذ أنّها أصبحت مركزيّة يف دوائر املجموعة العلم ّية بصورة عا ّمة‪.‬‬ ‫اليوم تجاهلها ّ‬ ‫البحث األ ّول يف هذا العدد ترجمة ق ّدمها سعيد البوسكالوي تحت عنوان «استعامالت القرآن‬ ‫املختصني يف املخطوطات القرآنيّة‬ ‫بوصفه كتابًا مخطوطًا» عن األصل الفرنيس لواحد من أبرز‬ ‫ّ‬ ‫فرنسوا ديروش (‪ )François Déroche‬وبقطع النظر عن تفاصيل العمل الذي نرتك للقارئ فرصة‬ ‫جوهري ضمن الدراسات القرآنيّة ويتعلّق‬ ‫االطّالع املبارش عليه‪ ،‬فمن الواضح أ ّن األمر يتعلّق مبشغل‬ ‫ّ‬ ‫نصا» (‪The Qur’an‬‬ ‫بتاريخ املصحف وتشكّله‪ ،‬وهو مشغل غدا معروفًا اليوم تحت عنوان «القرآن ًّ‬ ‫الشفوي إىل املكتوب وما‬ ‫بكل ما يحيل عليه ذلك من إشكاليّات تتعلّق باالنتقال من‬ ‫‪ّ )as a text‬‬ ‫ّ‬ ‫مم يتعلّق بعلوم القرآن‪.‬‬ ‫يستتبعه من مباحث الرتتيب والقراءات وغري ذلك ّ‬ ‫وغري بعيد عن هذا املشغل تتن ّزل ترجمة ثانية أنجزها عبد العزيز بومسهويل ملق ّدمة مهدي‬ ‫عزيّز التي وضعها لكتاب جامعي أرشف عىل نرشه؛ كتاب شارك فيه باحثون متميّزون يف مجال‬ ‫الدراسات القرآن ّية من أمثال فرنسوا ديروش‪ ،‬وجاكلني الشايب (‪ ،)Jacqueline Chabbi‬وكلود‬ ‫العدد‬

‫(‪10 )6‬‬

‫الحممي‬ ‫نادر ّ‬

‫جيليو (‪ ،)Claude Gilliot‬وأنجيليكا نويفرت (‪ )Angelika Neuwirth‬وفريديريك ملبار‪ ،‬ومحمد‬ ‫عيل أمري مع ّزي‪ ،‬وآن ماري بوازيفلو‪ ،‬وبيار الرشار‪ ،‬وجونياف جوبيلو‪ ،‬وميشال قيبارس‪ .‬وتأيت أهم ّية‬ ‫هذه املق ّدمة من النظرة العا ّمة التي ق ّدمتها حول املنعرجات الحاسمة التي عرفها تاريخ الدراسات‬ ‫النص أعامالً تنتمي‬ ‫القرآن ّية ومجاالت مقاربة القرآن تاريخًا وتش ّكالً وقراءةً‪ ،‬وعىل هذا األساس يق ّدم ّ‬ ‫إىل مجاالت متقاطعة صلب الدراسات القرآنيّة تتعلّق بتاريخ القرآن‪ ،‬فسياق ظهوره التاريخي‪ ،‬ث ّم‬ ‫النص مقاربات أدب ّي ًة وبالغ ّيةً‪  ‬مستندة إىل نظريّات مختلفة من أه ّمها‬ ‫الدراسات املهت ّمة مبقاربة ّ‬ ‫نظريّة التقبّل‪.‬‬ ‫ونجد ملثل هذه الدراسات األساسيّة واملقاربات املتج ّددة وفق تط ّور املناهج وأدوات البحث‬ ‫أصوالً ضمن بحوث سابقة‪ ،‬وهو ما نقف عليه مثالً من خالل االطّالع عىل ترجمة حاتم زكريّا‬ ‫محيي الدين ملق ّدمة كتاب يوهانس جانسن الذي نرش سنة ‪ 1974‬حول «تفسري القرآن يف مرص‬ ‫الحديثة‪ .»1970 1900- :‬وهذه املق ّدمة مه ّمة ال بالنظر إىل محتواها فحسب‪ ،‬وإنّ ا أيضً ا ألنّها‬ ‫تكشف جوانب من مشاغل االسترشاق يف دراسته للقرآن يف فرتة مه ّمة ج ًّدا بالنسبة إىل الدراسات‬ ‫القرآن ّية‪ ،‬ونقصد فرتة السبعينات من القرن العرشين التي ستشهد تح ّوالً جذريًّا يف تلك الدراسات‬ ‫بربوز املدرسة األنجلوسكسونيّة ممثّل ًة بالخصوص يف أعامل جون إدوارد وانزبرو (‪John Edward‬‬ ‫‪ )Wansbrough‬ومايكل كوك (‪ )Michael Cook‬وباتريسيا كرون (‪ ،)Patricia Crone‬وقد ال‬ ‫محل‬ ‫نبالغ إ ّن مثل هذه املدرسة سيكون لها األثر العميق يف الدراسات الالحقة عنها‪ ،‬وستكون ّ‬ ‫ربا ستكون نوا ًة ألعامل كثرية ظهرت يف بداية القرن‬ ‫جدل بني مت ّنب ملقوالتها ورافض لها‪ ،‬بل ّ‬ ‫الحادي والعرشين أكرثها شهر ًة كتاب كريستوف لوكسمبورغ (‪« :)Christoph Luxenberg‬قراءة‬ ‫حل شفرة لغة القرآن»‪Die Syro-Aramäische Lesart des‬‬ ‫رسيان ّية ـ آرام ّية للقرآن‪ :‬مساهمة يف ّ‬ ‫‪ Koran: : Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache‬ذلك الكتاب الذي سيكون‬ ‫له أثر يف دراسات عديدة أخرى تهت ّم ال بالدراسات القرآن ّية فحسب وإنّ ا أيضً ا بنشأة اإلسالم‬ ‫والسرية والنب ّوة والوحي‪ ،‬ونحسب أ ّن دراسات كلود جيليو (‪ )Claude Gilliot‬التالية لهذا الكتاب‬ ‫وألفريد لويس دي برميار (‪ )Alfred-Louis de Prémare‬واقعة تحت تأثريه عىل الرغم من أ ّن‬ ‫كتاب لوكسمبورغ كان بدوره امتدا ًدا لدراسات كالسيكيّة قدمية مثل دراسات ألفونس مينجانا‬ ‫(‪ )Alphonse Mingana‬وغونتار لولينغ (‪.)Günther Lüling‬‬ ‫للنص القرآن مل تكن حك ًرا عىل هذا التو ّجه يف البحث‬ ‫غري أ ّن املقاربات اللغويّة والفيلولوج ّية ّ‬ ‫نص القرآن من خالل علم الداللة القائم لدى‬ ‫وإنّ ا نقف عىل زوايا نظر أخرى من قبيل تقليب ّ‬ ‫املهت ّمني به عىل تحليل املصطلحات األساس ّية التي تستعملها لغة ما بغاية الوقوف عىل رؤية للعامل‬ ‫العدد‬

‫(‪11 )6‬‬

‫النظري الّذي‬ ‫النص‪ ،‬وهذا هو املنطلق‬ ‫(‪ )Weltanschauungs‬ميكن اكتشاف مالمحها من خالل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ميكن من خالله قراءة ما ق ّدم به عبد الله اله ّداري وجهة نظر توشيهيكو إيزوتسو (‪Toshihiko‬‬ ‫‪ )Isutzu‬من خالل كتابه «الله واإلنسان يف القرآن‪ :‬علم داللة الرؤية القرآنيّة للعامل» ذلك الكتاب‬ ‫الذي ال ميكن عزله عن مرشوع كامل للباحث الياباين من بني عالماته إىل جانب الكتاب املذكور‬ ‫بكل ما يعنيه ذلك من محاولة النظر يف رؤية الكون‬ ‫بحثه يف «مفهوم اإلميان يف العقيدة اإلسالميّة» ّ‬ ‫انطالقًا من اللغة‪ ،‬فتنفتح املفاهيم بابًا شار ًعا ميكّن من تحديد رؤية مخصوصة للكون بر ّمته‪ .‬إ ّن‬ ‫نظري لتحديد رؤية العامل‪ ،‬ونحسب أ ّن ذلك التحديد ال يت ّم إالّ باملقارنة‬ ‫علم الداللة إذن مدخل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتصوف والطاويّة‪.‬‬ ‫وهو ما سار فيه إيزوتسو يف بحوث أخرى من قبيل بحثه يف البوذيّة‬ ‫تبي‬ ‫إ ّن املقارنة يف ح ّد ذاتها منهج ميكّن الباحث من تدقيق أوجه االئتالف واالختالف‪ ،‬ومن ّ‬ ‫مظاهر الخصوصيّة والكونيّة يف مجال معر ّيف ما‪ ،‬ونحسب أ ّن دراسة أرشف حسن منصور حول‬ ‫«أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهوديّة»‪ ،‬مه ّمة‬ ‫يف هذا السياق‪ ،‬وهي دراسة تتقاطع ضمنها يف تقديرنا الفلسفة بعلم العقائد والتاريخ وتاريخ‬ ‫األديان وعلم األديان املقارنة من خالل النظر يف مصادر موىس بن ميمون واضع األصول االعتقاديّة‬ ‫كل من أيب نرص الفارايب وأيب الوليد بن رشد يف تحديد تلك األصول‪ .‬لقد‬ ‫اليهوديّة ومدى أثر ّ‬ ‫تلفيقي بني فلسفتني متعارضتني؛ الفلسفة املشائ ّية من جهة‬ ‫أ ّدى هذا األثر املزدوج إىل جمع‬ ‫ّ‬ ‫واألفالطونيّة من جهة ثانية‪ ،‬فكان ذلك أحد جوانب قصور تقعيد ابن ميمون لألصول االعتقاديّة‬ ‫اليهوديّة وهو يحاول عقلنتها‪.‬‬ ‫غري أ ّن منهج ّية الجمع و»التوفيق» قد تكون يف اآلن نفسه مفرزة لفلسفة ثالثة تفرض نفسها‬ ‫بديالً‪ ،‬وهو ما ميكن الوقوف عليه يف الفرتة املعارصة مع أحد أقطاب الفلسفة املعارصة بول ريكور‬ ‫األنجلوسكسونسة وذلك عرب‬ ‫(‪ )Paul Ricœur‬الجامع بني الفلسفة األورب ّية القاريّة والفلسفة‬ ‫ّ‬ ‫مم جعل فلسفة‬ ‫الجمع بني الفينيمينولوجيا التأويليّة والرباغامتيّة واالستناد إىل األنرثوبولوجيا ّ‬ ‫ريكور يف أحد جوانبها بحثًا يف الذات يف إطار وحدتها وتع ّددها‪ .‬ويف هذا السياق تحدي ًدا يتن ّزل‬ ‫متسك «الذات املتع ّددة لدى بول ريكور»‪.‬‬ ‫بحث مصطفى بن ّ‬ ‫ومن أه ّم مجاالت األنرثوبولوجيا التي كان لريكور نظر فيها يتص ّدر مبحث الرمز والرمزيّة‬ ‫خاصة‬ ‫مهم‪ ،‬إذ أصبح البحث يف ذلك يف فروع متع ّددة من العلوم اإلنسان ّية واالجتامع ّية ّ‬ ‫مكانًا ًّ‬ ‫احم الوضعانيّة و»العقالنيّة» بل‬ ‫بعد أن خرج املتخيّل عمو ًما من منزلة االحتقار والتهميش مز ً‬ ‫خاصة بالرموز من‬ ‫الخاصة‪ .‬وكان من نتائج ذلك التح ّول وضع معاجم وقواميس ّ‬ ‫واكتسب معقوليته ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪12 )6‬‬

‫الحممي‬ ‫نادر ّ‬

‫كل من جون شوفالييه (‪ )Jean Chevalier‬وأالن قريبرانت‬ ‫أه ّمها «معجم الرموز» الذي أصدره ّ‬ ‫(‪ )Alain Gheerbrant‬مص ّد ًرا مبق ّدمة مه ّمة ج ًّدا حول الرمز تعريفًا وتص ّور ٍ‬ ‫ات وطبيع ًة ووظائف‬ ‫محل نظر‬ ‫كل هذه املواضيع املتداخلة كانت ّ‬ ‫وتصنيفات إضافة إىل تحديد منطقي املتخيّل والعقل‪ّ .‬‬ ‫يف مق ّدمة املعجم التي كتبها جون شوفالييه ويق ّدمها فيصل سعد مع ّربة‪.‬‬ ‫وس ًريا عىل ما دأبت عليه مجلّة ألباب تق ّدم يف عددها الحايل قراءتني يف كتابني‪ .‬القراءة األوىل‬ ‫يق ّدمها خالد طحطح لكتاب غادامري (‪« )Gadamer‬التلمذة الفلسفيّة» ذلك الكتاب املمثّل لوجه‬ ‫من وجوه البيوغرافيات التاريخ ّية التي ميكن اعتبارها أحد الحلول لرصاع التاريخ االجتامعي‬ ‫والتاريخ الثقايف الذي ميكن اعتباره فر ًعا ما فتئ يتط ّور يف إطار املعرفة التاريخيّة‪.‬‬ ‫غصوب وإميا سنكلري «الرجولة املتخيّلة‪:‬‬ ‫أ ّما القراءة الثانية فق ّدمتها هاجر خنفري لكتاب مي ّ‬ ‫الهويّة الذكريّة والثقاف ّية يف الرشق األوسط»‪ ،‬وبقطع النظر عن أه ّم محاور الكتاب وإإلشكال ّيات‬ ‫التي يطرحها وتع ّرضت لها الباحثة يف قراءتها‪ ،‬فإنّه من امله ّم‪ ،‬يف تقديرنا اإلشارة‪ ،‬إىل أه ّميّة‬ ‫خصوصا‪ ،‬وإنّ ا أيضً ا يف كشفها يف كثري من األحيان‬ ‫الدراسات الجندريّة ال يف مستوى تعلّقها باملرأة‬ ‫ً‬ ‫عن البنى الذهنيّة والفكريّة يف مجتمع ما‪ ،‬إضافة إىل أنّها دراسات تبني رصا ًعا قيميًّا باألساس بني‬ ‫خاصة‪.‬‬ ‫دعاة الكون ّية ودعاة الخصوص ّية يف املجتمعات العرب ّية واإلسالم ّية ّ‬

‫الحممي‬ ‫نادر ّ‬

‫العدد‬

‫(‪13 )6‬‬

‫‪François Déroche, «les emplois du coran, le livre manuscrit», Revue de‬‬ ‫‪l’histoire des religions, tome 218, N. 1 (Les usages du livre saint dans l’Islam et‬‬ ‫‪le Christianisme), 2001, pp. 43-63.‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫تأليف‪ :‬فرانسوا ديروش‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬سعيد البوسكالوي‬

‫‪3‬‬

‫تقديم‬

‫نق ّدم إىل القارئ العر ّيب دراسة مه ّمة يف حقل الدراسات القرآنيّة الغربيّة؛ وهي مثال جيّد عن‬ ‫وخاصة ما‬ ‫البحث املتواصل الذي ينجز‪ ،‬مبا له وما عليه‪ ،‬يف الجامعات الغرب ّية عن القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتعلّق مبوضوع املصاحف وتاريخها‪ .‬فقد شكّل املخطوط القرآ ّين موضوع دراسات عديدة ومتباينة‬ ‫يف منطلقاتها وغاياتها‪ ،‬ومن ث ّم يف نتائجها بني من رأى أ ّن نسخة املصحف الحالية تشكّلت يف‬ ‫عصور متأخّرة عن عهد عثامن مستبعدا‪ ،‬من ث ّم‪ ،‬ص ّحة الروايات اإلسالميّة التقليديّة املعروفة؛‬ ‫ومن يرى أ ّن القرآن تشكّل قبل ذلك بكثري‪ ،‬بل ال يعدو أن يكون جمعا لنصوص وقصص قدمية‪،‬‬ ‫من الرسيانيّة باألساس‪ ،‬مل تكن معروفة كثريا ومن ث ّم شكّل نرشها بالعربيّة دعام لقبول فكرة‬ ‫‪ - 1‬املرتجم‪ :‬أتقدّم بالشكر الجزيل إىل األستاذ محمد بلسعل‪ ،‬الكاتب والباحث يف اللغة العرب ّية‪ ‬والدراسات القرآن ّية‪ ،‬الذي تفضّ ل بقراءة‬ ‫هذه الرتجمة‪ ،‬فأبدى مالحظات أفدت منها يف ضبط بعض مواضع العبارة العرب ّية كام بعض املصطلحات املتعلقّة بالدراسات القرآن ّية؛ غري‬ ‫ّأن وحدي أتح ّمل مسؤولية ما قد يبقى من نواقص يف ترجمة هذا العمل‪.‬‬ ‫فرنيس ولد يف ميتز ‪ Metz‬عام ‪ ،1952‬خريج املدرسة العليا لألساتذة‪ ،‬م ّربز يف‬ ‫‪ - 2‬املرتجم‪ :‬فرانسوا ديروش ‪ François Déroche‬دارس‬ ‫ّ‬ ‫ومتخصص يف اإلسالم كام يف علم املخطوطات وعلم الكتابات القدمية تحديدا‪ ،‬ويشتغل عىل انتقال املخطوط القرآ ّين بشكل‬ ‫اآلداب القدمية‬ ‫ّ‬ ‫وخاصة مخطوطات القرآن‪ .‬زاول التدريس والبحث‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫العرب‬ ‫املخطوطات‬ ‫اسة‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫عىل‬ ‫انكب‬ ‫حيث‬ ‫باريس‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫الوطن‬ ‫باملكتبة‬ ‫أخص‪ .‬اشتغل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف إستانبول وسويرسا وفرنسا واستق ّر به املقام يف املدرسة التطبيق ّية للدراسات العليا ‪ ،l’École pratique des hautes études ‬ويف عام‬ ‫‪ 2015‬حصل عىل كريس القرآن يف كوليج دو فرانس‪ .‬أصدر أعامال كثرية جلّها يدور حول املخطوطات العرب ّية وقضايا اإلسالم‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬ ‫العبايس‪ ،‬القرآن فيام بني القرنني‬ ‫فهرس املخطوطات العرب ّية‪ 1 ،‬و‪ ،2‬املكتبة الوطن ّية (فرنسا)‪ ،‬قسم املخطوطات العرب ّية‪1983 ،‬؛ التقليد‬ ‫ّ‬ ‫الثامن والعارش‪ ،‬لندن‪1992 ،‬؛ دليل كوديكولوجيا املخطوطات العرب ّية‪ ،‬املكتبة الوطنية لفرنسا‪2000 ،‬؛ الكتاب العر ّيب املخطوط‪ ،‬مقدّمات‬ ‫يف التاريخ‪ ،‬املكتبة الوطن ّية‪ ،‬فرنسا‪2004 ،‬؛ القرآن‪ ،‬سلسلة ‪ ،?Que sais-je‬املنشورات الجامع ّية‪ ،‬فرنسا‪.PUF، 2014 ،‬‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬جامعة زايد‪ ،‬اإلمارات العرب ّية املتّحدة‪/‬كلّية اآلداب والعلوم اإلنسان ّية‪ ،‬جامعة مح ّمد األ ّول‪ ،‬املغرب‪.‬‬ ‫‪ - 3‬معهد دراسات العامل‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪14 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫الوحي؛ وبني هذا وذاك مث ّة من ات ّخذ مواقف وسطا‪ ‬وأكرث علميّة غري رافضة للروايات اإلسالميّة‬ ‫ويف اآلن نفسه فإنّها تد ّعمها بشواهد نقديّة وتفصيالت علم ّية مفيدة‪ .‬وإىل هذا الصنف األخري‬ ‫من الدراسات التوثيقيّة ينتمي العمل الذي نق ّدم له هنا لصاحبه فرانسوا ديروش‪ ،‬وهو دارس‬ ‫متخصص يف علم املخطوطات واملخطوط القرآ ّين تحديدا‪ ،‬رغم ما قد يؤاخذ عليه يف هذه‬ ‫فرنيس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املادي يف القرآن الكريم ودوره‬ ‫النص يسلّط الضوء باألساس عىل الجانب‬ ‫املسألة أو تلك‪ .‬فهذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ويحفل مبعطيات تاريخ ّية ذات أه ّمية كبرية‪ ،‬وذلك بعني علم ّية حذرة يف‬ ‫يف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫النص الكتا ّيب‬ ‫إطالق األحكام‪ .‬وقد رام الدارس إبراز كيف حدث االنتقال من الوحي‬ ‫الشفهي إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫املادي كان لها دور مه ّم يف ترسيخ اإلميان بالدين الجديد‬ ‫من جهة‪ ،‬وكيف أ ّن املصاحف يف جانبها‬ ‫ّ‬ ‫داخل الجامعة اإلسالميّة من جهة أخرى‪ .‬ومن النافل التذكري بأ ّن هذا العمل‪ ،‬وغريه من األعامل‬ ‫التي أنجزها املؤلّف يف هذا الصدد‪ ،‬يع ّد استمرارا للتقليد الذي بدأه بعض الدارسني الر ّواد يف هذا‬ ‫املجال؛ فقد ت ّم جمع أوراق ونقوش وألواح قدمية ج ّدا للقرآن الكريم سمحت بإعادة النظر يف‬ ‫النص القرآين ت ّم تدوينه يف مرحلة متأخّرة‪ ،‬كام تيضء جوانب‬ ‫األطروحات التي كانت تزعم أ ّن ّ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬واستنادا إىل‬ ‫ظلّت غري معروفة يف تاريخ املصاحف وأحجامها وأدوارها يف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫معطيات تاريخ ّية مستقاة من املصادر اإلسالم ّية الرتاث ّية باألساس‪ ،‬تت ّبع ديروش تط ّور املصحف‬ ‫والنساخ‬ ‫الكريم يف موا ّده وأحجامه وأمكنته وأزمنته‪ ،‬واألشخاص الذين اعتنوا به من الخلفاء‬ ‫ّ‬ ‫والخطّاطني وغريهم واملساجد التي حوت النسخ القدمية املحتفظ بها وغري ذلك‪ .‬وقد تب ّنى املؤلّف‬ ‫أطروحة مخالفة ملن رأى من املسترشقني أ ّن الوحي كتب يف مرحلة الحقة مستثمرا بق ّوة الروايات‬ ‫اإلسالم ّية التي تتّفق عىل أ ّن القرآن جمع يف عهد عثامن‪ .‬وأكرث من ذلك‪ ،‬فإنّه دافع عن فكرة‬ ‫كون املسلمني قد حرصوا منذ البداية عىل كتابة الوحي ّأيا حرص‪ ،‬وقد أفادوا يف الجانب املا ّدي‬ ‫للمصحف من منوذج األديان التوحيديّة األخرى‪.‬‬ ‫الشفهي للوحي‬ ‫وقد انطلق الدارس من الداللة اللغوية للقرآن‪ ،‬من جذر قرأ‪ ،‬التي تكشف الطابع‬ ‫ّ‬ ‫إىل الكتاب‪ ،‬ومن مرحلة ما قبل لفظ ‹القرآن›‪ ،‬وهي مرحلة قصرية‪ ،‬إىل لفظ «القرآن»‪ ،‬الذي استعمل‬ ‫أكرث يف مكّة وبداية االستقرار يف املدينة‪ ،‬انتهاء إىل لفظ «الكتاب»‪ ،‬الذي بدأ يستعمل أكرث منذ‬ ‫غزوة بدر‪ ،‬حسب تصنيف ر‪ .‬بيل (‪ .)R. Bell‬وقد ربط استعامل لفظ الكتاب بالعالقة بالتقليدين‬ ‫اليهودي والنرصا ّين حيث إ ّن عمل ّية تدوين الوحي قد انطلقت يف املدينة‪ ،‬يف نظره‪ ،‬مشريا إىل املوا ّد‬ ‫ّ‬ ‫الكتفي وسيقان‬ ‫التي كانت تستعمل يف ذلك كام توردها املصادر اإلسالميّة التقليديّة من العظم‬ ‫ّ‬ ‫النخل وورق الربدي والحجارة وغريها‪ ،‬مستنتجا أ ّن تدوين الوحي ّربا كانت بدايته يف وقت قريب‬ ‫من عرص الدعوة؛ لكن اليشء يؤكّد‪ ،‬يف نظره‪ ،‬أ ّن الرسول أرشف بنفسه عىل تدوين نسخة كاملة؛‬ ‫تغيت‬ ‫النبي أصال‪ ،‬أل ّن الوحي كان مفتوحا‪ .‬غري أ ّن الظروف ّ‬ ‫بل مل تكن مث ّة حاجة إىل ذلك يف حياة ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪15 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫النبي‪ ،‬وت ّم التعبري عن الخوف من هالك الحفّاظ‪ ،‬وإن كان أه ّم سبب دعا إىل اإلرساع يف‬ ‫بعد وفاة ّ‬ ‫تدوين القرآن‪ ،‬يف نظره‪ ،‬هو ما لوحظ من وجود اختالفات يف تالوة القرآن؛ فانربى عثامن إىل جمع‬ ‫القرآن وضبطه يف صورة كتاب أرسل نسخا منه إىل الحوارض الكربى‪ .‬غري أ ّن نسخ عثامن تطرح بعض‬ ‫الصعوبات‪ :‬فهي تفتقد إىل نقاط اإلعجام وحركات اإلعراب‪ .‬ولذلك‪ ،‬فهي تستدعي من القارئ حفظ‬ ‫القرآن عن ظهر قلب‪ ،‬فلم تقض عىل تش ّعب القراءات املختلفة كام الحظ بالشري‪ . Blachère‬وقد‬ ‫الحظ املؤلّف أ ّن تفادي ذلك كان ممكنا‪ ،‬غري أنّه مل يكن هو الغاية املقصودة بالدرجة األوىل؛ فام‬ ‫رامه الخليفة ومحيطه هو ضبط ما يف القرآن (ومن ث ّم ملا ليس فيه) عالوة عىل ترتيب سوره ال‬ ‫أكرث‪ .‬هذا مع وجود نسخ أخرى‪ ،‬ويبدو أنّه كان مث ّة فائدة مقصودة من ترك شكل الكتابة مفتوحا‪،‬‬ ‫يف نظره‪ ،‬مبا يعنيه ذلك من «ترك إمكانات القراءات املختلفة مفتوحة ومن ث ّم ربح انخراط عدد‬ ‫النص» بتعبري املؤلّف‪ .‬وقد تكاثرت املصاحف مع مرور الوقت‪،‬‬ ‫أكرب من املسلمني يف اعتامد هذا ّ‬ ‫وتط ّورت زخرفتها وتزيينها وأحجامها‪ .‬وقد ق ّدم ديروش مناذج تاريخيّة من مصاحف كبرية الحجم‬ ‫اإلسالمي‪ .‬كام أبرز مامرسات واستعامالت‬ ‫أنجزت برعاية خلفاء يف مناطق وأزمنة مختلفة من العامل‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي؛ وخلص إىل أ ّن املخطوط القرآ ّين بوصفه شيئا ماديّا مرئيّا مزخرفا ذا‬ ‫املصحف يف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫حجم كبري يعكس املنزلة التي كان يحتلّها يف حياة الجامعة والوظيفة الرمزيّة والسياس ّية التي كان‬ ‫يضطلع بها‪.‬‬ ‫أي دراسة غريها‪،‬‬ ‫ولعلّه من املفيد التذكري بأ ّن فرضيات هذه الدراسة ومناهجها ونتائجها‪ ،‬مثل ّ‬ ‫قابلة للنقاش؛ وال سبيل إىل ذلك سوى مبزيد بحث وإتيان فرضيات ومناهج ونتائج بديلة‪ ،‬تفيد‬ ‫من مجهود السابقني وأخطائهم يف آن واحد؛ وتلك هي متعة البحث وفائدته‪ .‬وإذا وجدت‬ ‫بعض املؤاخذات عىل هذه الدراسة‪ ،‬بل هي موجودة وليس هاهنا مجال عرضها ومناقشتها‪ ،‬فإ ّن‬ ‫علمي يف دراسة املخطوط القرآ ّين من حيث موا ّده وتنقّله‬ ‫جوانبها اإليجابيّة ال تضاهى يف انخراط ّ‬ ‫وأحجامه وأشكاله ونساخّه وغري ذلك‪ .‬وإذا كان من فائدة مرج ّوة من نقل هذا العمل إىل اللغة‬ ‫اإلسالمي الحايل‪ ،‬فهي املساهمة يف فتح باب التفاعل مع ما ينجز من‬ ‫العربيّة‪ ،‬يف سياقنا الثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫دراسات يف الغرب واستثامر نتائجها وطرائقها ونقد نتائجها ومقارباتها؛ واألمر ال يكون من دون‬ ‫مؤسساتنا األكادمييّة يف أبسط مستوياتها وأصولها‪ .‬وال ميكن‬ ‫تكريس تقاليد البحث‬ ‫العلمي يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫تطوير البحث يف مجال الدراسات القرآن ّية‪ ،‬وغريها من مجاالت البحث‪ ،‬سوى مبناقشة األعامل‬ ‫العلمي ال من خارجه؛ هذه هي امله ّمة الصعبة التي‬ ‫املتخصصة والتفاعل معها من داخل التقليد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤسسات ّية كربى‪ .‬وبتحايش العلم والنقد‬ ‫يتحاشاها عموم املسلمني اليوم‪ ،‬يف غياب مشاريع بحث ّية ّ‬ ‫نفقد فرصة اللحاق بالركب واستثامر األدوات واملناهج العلميّة واستنباتها يف محيطنا من أجل‬ ‫التصالح مع الذات والتاريخ‪ ،‬ومن ث ّم بناء الحضارة‪ .‬فاأل ّمة اإلسالم ّية جزء من التاريخ ال متعالية‬ ‫العدد‬

‫(‪16 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫عليه‪ ،‬تخضع للتط ّور مثل باقي األمم‪ .‬والقرآن الكريم نفسه‪ ،‬مع تعايل مصدره‪ ،‬مل يتشكّل م ّرة‬ ‫النبي محمد صىل‬ ‫واحدة‪ ،‬ومن ث ّم فهو يعطينا منوذجا ح ّيا عن هذا التط ّور؛ فقد نزل الوحي عىل ّ‬ ‫الله عليه وسلم آية آية وسورة سورة؛ رت ّبت اآليات يف سور ورتبت السور يف كتاب‪ .‬والتط ّور ال‬ ‫النص القرآ ّين‬ ‫يعني االنحراف والتحريف بقدر ما يعني مزيد ضبط وترتيب‪ .‬فال أحد يقول بأ ّن ّ‬ ‫نزل كتابا مكتمال؛ لقد خضع الوحي ملنطق التد ّرج والجمع والرتتيب والضبط‪ ،‬من ت ّم فإنّه‬ ‫خضع ملنطق التاريخ وأسباب النزول ودواعي الرتتيب وتقن ّيات الضبط‪ ،‬وال ميكن أن يفهم إال‬ ‫يف هذا اإلطار‪ ،‬لذلك شكّل مبحث أسباب النزول مبحثا أساسيّا يف علم التفسري؛ ويف هذا إقران‬ ‫التاريخي‪ .‬وإن كان هذا‬ ‫النص وسياقه‬ ‫التأويل بالتاريخ حتّى ال يجمح التأويل بعيدا عن مقتىض ّ‬ ‫ّ‬ ‫املفسين القدامى بق ّوة‪ ،‬فإنّه ال يحرض اليوم إال نادرا لدى املؤ ّولني‬ ‫البعد‬ ‫التاريخي حارضا لدى ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلمي الذي‬ ‫والتاريخي‪ .‬من هنا يبدأ الفكر‬ ‫النيص‬ ‫املعارصين آليات غالبا ما تعزل عن سياقها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ميكن إال أن يكون نقديّا وتاريخيّا‪ .‬وهذا ال يجعل من الوحي ق ّط خطابا برشيّا وليس من‬ ‫العلمي التنقيص من قيمة الكتب املق ّدسة‪ ،‬وال أن يجعل من كتاب الله كتابا من‬ ‫وظيفة البحث‬ ‫ّ‬ ‫تأليف مح ّمد كام قد يذهب الزعم ببعضهم عن قصد أو غري قصد؛ بل هو سبيل إىل تاريخانيّة‬ ‫كل‬ ‫ال تعارض الوحي وإىل وحي ال يعارض التاريخان ّية‪ .‬فالعلم ال يعارض العلم‪ .‬صحيح‪ ،‬ليس ّ‬ ‫خطاب يزعم العلميّة هو كذلك‪ ،‬وليس للعلم البرشي وجه واحد ألنّه ليس مطلقا وال ميكن أن‬ ‫يكون كذلك؛ لكن ال بديل عن استنبات الثقافة العلم ّية يف جامعاتنا‪ ،‬ومن خاللها يف مجتمعاتنا؛‬ ‫واألبحاث األكادميّية مهام غالت يف غاياتها ومنطلقاتها ال تواجه إال بأبحاث أكادمييّة أكرث رصانة‬ ‫ودقّة وموضوعية وليس بالوقوف دونها‪.‬‬

‫ملخّص‬

‫تدريجي‪ :‬كان لنموذج األديان السامويّة األخرى أثر كبري يف هذا‬ ‫أصبح القرآن كتابا عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫املادي‪ .‬إ ّن املقارنة بني ما روي عن كيف حدث التح ّول من‬ ‫التط ّور‪ ،‬سواء من حيث فكرته أو تحقّقه‬ ‫ّ‬ ‫الوحي إىل الكتاب وبني املقاطع القرآنيّة القدمية تسمح بالتع ّرف بشكل أفضل عىل الظروف التي‬ ‫حصل فيها هذا االنتقال‪ .‬ومبج ّرد تشكّله‪ ،‬وجد الكتاب‪-‬القرآن مكانه تدريج ّيا يف املدينة اإلسالم ّية؛‬ ‫الخاص الذي قامت به بعض املخطوطات االستثنائيّة يربز كيف أفاد اإلسالم من املصاحف‬ ‫والدور‬ ‫ّ‬ ‫حتّى يف جانبها املا ّدي‪.‬‬

‫النص‬ ‫ّ‬

‫للنص‬ ‫الحظ أ‪ .‬ويلتش (‪ )A. Welch‬أ ّن االسترشاق مل يكن ّربا يدرك متاما أه ّمية النقل‬ ‫الشفهي ّ‬ ‫ّ‬ ‫القرآ ّين‪ :‬إنّه ألمر ذو داللة عندما قامت السلطات املرصيّة يف سنوات ‪1920‬م بإعداد طبعة منوذج ّية للقرآن‬ ‫العدد‬

‫(‪17 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫الكريم‪ ،4‬جلبوا املوا ّد الرضوريّة يف بناء هذا املرشوع من أعامل يف علم القراءات‪ ،‬ومن التفاسري‪ ،‬ال من أقدم‬ ‫املتخصصني الغرب ّيني قد أثبتوا لتاريخ القرآن‪،‬‬ ‫مخطوطات القرآن بأيّة حال‪ .5‬فهل ميكن القول‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬إ ّن‬ ‫ّ‬ ‫بوصفه كتابا‪ ،‬تط ّورا جديرا بالذكر؟ فالجوانب املتعلّقة بتاريخ الف ّن درست بشكل دقيق أحيانا‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫املثال‪ ،‬ولك ّنها ليست سوى جزء من ّ‬ ‫وتظل مسائل عديدة‬ ‫الكل‪ .6‬إ ّن مجال االستكشاف أكرب من ذلك بكثري‪ّ ،‬‬ ‫النص‪ ،‬أن نحيط‬ ‫متعلّقة باستعامل الكتاب غري واضحة‪ .‬كام أنّه ليس من املمكن‪ ،‬يف حدود ما يسمح به هذا ّ‬ ‫تظل جزئ ّية ج ّدا‪ .‬وعليه‪ ،‬فإنّنا سنقف‪،‬‬ ‫بجميع جوانب هذا املوضوع‪ ،‬ألنّها كثرية كام أ ّن معطيات كثرية ّ‬ ‫اعتباطي إىل ح ّد ما‪ ،‬عند أمرين فقط‪ ،‬يوضّ حان كيف أخذ القرآن مكانه بوصفه موضوعا يف العامل‬ ‫وبشكل‬ ‫ّ‬ ‫‪7‬‬ ‫اإلسالمي‪ :‬أ ّولهام‪ ،‬بدايات تاريخ املخطوط القرآ ّين؛ وثانيهام‪ ،‬ما ميكن تسم ّيته تقليد املصاحف الكبرية الحجم ‪.‬‬

‫من «القرآن» إىل «الكتاب»‬

‫‪8‬‬

‫فعل أمر «اقرأ»‪ ،‬الذي يفتتح سورة ‪( 96‬العلق) التي تع ّد األقدم عادة‪ ،‬ترجم عىل مدى زمن طويل‬ ‫إىل الفرنس ّية‪ 9‬بـ (‪ ) Lis ‬بدال من (‪ )Récite‬أو (‪( :)Psalmodie‬اقْ َرأْ ب ِْاسمِ َربِّ َك)‪ .‬وإىل هذا الجذر نفسه‬ ‫«قرأ»‪ ،‬تعود كلمة قرآن‪ ،‬التي صارت يف الفرنسيّة (‪ ،)coran‬وهي تربز الطابع‬ ‫الشفهي يف الوحي‪ .10‬غري‬ ‫ّ‬ ‫النص ولن ننبّه عىل ذلك م ّرة أخرى‪.‬‬ ‫‪ - 4‬املرتجم‪ :‬صفة 'الكريم' من إضافتنا؛ واملالحظة ترسي عىل مختلف املواضع التي ترد فيها يف هذا ّ‬ ‫‪5 - El2, t. V, p. 428 (s. v. Kur'ân).‬‬ ‫انظر أيضا مالحظات ج‪ .‬ج‪ .‬فيتكام؛‬ ‫‪J. J. Witkam, «Establishing the stemma : Fact or fiction ?», Manuscripts of the Middle East 3 (1988), p. 89-90‬‬ ‫‪ - 6‬املعارض واملؤلّفات التي تفرد للمخطوطات القرآنيّة ال تنقصنا؛ نذكر عىل سبيل املثال املعرض الذي نظّم بلندن عام ‪ .1976‬انظر‬ ‫‪(M. Lings et Y. H. Safadi, The Qur'ân, Londres, 1976) ou celle, toute récente, de Munich (voir n. 31).‬‬ ‫النص الذي قدّمناه يف الربريسل ‪ L’Arbresle‬ومل نحتفظ سوى بالجانبني املذكورين ألسباب متعلّقة بالحيّز‪.‬‬ ‫‪ - 7‬لقد قمنا مبراجعة ّ‬ ‫‪- 8‬املرتجم‪( :‬العلق) من إضافتنا‪.‬‬ ‫يل؛ وهو أمر كان املؤلّف يف غنى عنه‪.‬‬ ‫النص‬ ‫‪ - 9‬املرتجم‪ :‬أضفنا عبارة "إىل الفرنسيّة" من أجل تحديد اللغة املقصودة خارج ّ‬ ‫الفرنيس األص ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪10 - Th. Nôldeke, Geschichte des Qorâns, bearbeitet von F. Schwally, I, Leipzig, 1909, p. 31-34 (citée : GdQ 2); R.‬‬ ‫‪Blachère, Introduction au Coran, Paris, 1959, p. 14-15.‬‬ ‫ربط ف‪ .‬شوايل ‪ F. Schwally‬كلمة القرآن بكلمة قرييانا ‪ qeryânâ‬الرسيانيّة‪ ،‬وهو مصطلح قد يعني القراءة‪ ،‬كام قد يعني الكتاب‬ ‫املخصص للقراءة الطقوسيّة الجامعيّة ‪  un lectionnaire‬أيضا؛ (انظر أيضا‬ ‫ّ‬ ‫‪A. Neuwirth, «Koran», Grundrifider Arabischen Philologie, II, Wiesbaden, 1987, p. 102‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإنّه ليس من املؤكّد أ ّن اآلثار املادّية لنسخة من هذا النوع كانت منظورة عىل نحو كامل يف اإلسالم الناشئ‪ :‬لو كان الحال كذلك‪،‬‬ ‫لكان قد ت ّم إدخال القراءة العموميّة ملقاطع من الوحي يف طقوس العبادة التي كانت يف طور التشكّل‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪18 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫النص القرآ ّين يستعمل أيضا مفردات أخرى تحيل عىل رسالة الوحي‪ .‬ويف ضوء تحليل دقيق‪ ،‬أوضح ر‪.‬‬ ‫أ ّن ّ‬ ‫بيل (‪ )R. Bell‬أنّه ميكن متييز ثالث مراحل رئيسة‪ ،‬اثنتان منها تح ّددها الطريقة التي س ّمي بها القرآن‬ ‫الكريم‪ .11‬أوىل هذه املراحل (أو املرحلة املبكّرة‪ )12‬قصرية ج ّدا؛ تليها مرحلة هيمنت فيها كلمة قرآن (أو‬ ‫املرحلة القرآن ّية‪ )13‬وتغطّي‪ ،‬حسب ر‪ .‬بيل‪ ،‬السنوات األخرية يف مكّة وبداية اإلقامة يف املدينة املن ّورة‪-14‬‬ ‫إىل حدود عام ‪624‬م‪ ،‬تاريخ غزوة بدر‪ .‬ويف هذا الوقت بدأت املرحلة الثالثة (أو مرحلة الكتاب‪)15‬‬ ‫وخاللها أصبح استعامل كلمة «قرآن» أكرث ندرة‪ ،‬ويف املقابل تضاعفت اإلحاالت عىل ‹الكتاب› الذي‬ ‫ميثّل استمرار الوحي‪.‬‬ ‫لعل فرضيّة ر‪ .‬بيل تحتاج إىل بعض التدقيقات؛ ميكن التساؤل حول معيار هذا التقسيم إىل‬ ‫ّ‬ ‫‪16‬‬ ‫مراحل مح ّددة ج ّدا ‪ .‬لكن يبدو أنّها تطابق يف الجوهر التط ّور الذي نسعى إىل رصد خطوطه‬ ‫العريضة والذي يقود تعاليم الوحي إىل الكتابة‪ .‬لعلّه ينبغي أن نضع هذا التط ّور يف عالقة‬ ‫مع الطابع املح ّدد أكرث لصورة الكتب املق ّدسة األخرى املعروفة‪ ،‬لدى اليهود والنصارى‪ :‬يف سور‬ ‫املرحلة األخرية (املرق ّمة من ‪ 89‬إىل ‪ 113‬يف النرشة املرصيّة للقرآن الكريم‪ ،‬ومن ‪ 94‬إىل ‪ 114‬عند‬

‫‪11 -W. M. Watt, Bell's Introduction to the Qur'ân, completely revised and enlarged by..., Edinburgh, 1970, p.‬‬ ‫‪135-144.‬‬ ‫‪12 - (Early period).‬‬ ‫النص (‪.))the. Qur'ân period‬‬ ‫‪ - 13‬املرتجم‪ :‬ترد باإلنجلييزيّة يف ّ‬ ‫النص مكانه‬ ‫‪ - 14‬املرتجم‪ :‬وصف 'املن ّورة' من إضافتنا؛ واألمر ينطبق عىل مختلف األوصاف التقليديّة يف الثقافة اإلسالميّة ليك يأخذ هذا ّ‬ ‫عادي‪.‬‬ ‫يف هذا السياق بشكل ّ‬ ‫النص (‪.)Book Period‬‬ ‫‪ - 15‬املرتجم‪ :‬باإلنجليزيّة يف ّ‬ ‫‪16 - W. M. Watt, op. cit., p. 139-140.‬‬ ‫نقد جاك بريك ‪ J. Berque‬يف كتابه‬ ‫‪(«The Koranic text: From revelation to compilation», The Book in the Islamic World,The Written Word and Com‬‬‫)‪munication in the Middle East,G. N. Atiyeh éd., Albany, 1995, p. 18-19‬‬ ‫ينطلق من مالحظة مناسبتني يرتبط فيهام لفظا الكتاب والقرآن (القرآن الكريم ‪ 1 ،15‬و‪ .)1 ،27‬يلتزم املؤلّف برتتيب السور الوحيد يف‬ ‫النرشة املرصيّة ويتجاهل املالحظات التي اقرتحها ر‪ .‬بيل يف ترجمته القرآن الكريم وإعادة ترتيب نقديّة للسور‪ ،‬أدنربة‪1937-1939 ،‬؛‬ ‫)‪(The Qur'ân, transl. with a critical re-arrangement of the Surahs, Edinburgh,1937-1939‬‬ ‫وهذا الرتابط مثري لالهتامم عىل وجه التحديد ألنّه ميثّل لحظة حاسمة يف عملية االنتقال من مفهوم إىل آخر‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪19 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫ثيودور نولدييك ‪ ،Th. Nôldeke17‬باستثناء سورة ‪( 7‬األعراف‪ ،)18‬آية ‪ 147‬من القرآن الكريم)‪،19‬‬ ‫متّت اإلحالة عليهام مبصطلحات ‹تقن ّية›‪ ،‬التوراة واإلنجيل‪ ،‬وهام مصطلحان يفرتضان أ ّن الجامعة‬ ‫معتادة عىل هذه النصوص‪ ،‬مبا فيه مظهرها‬ ‫املادي‪ .‬إ ّن آيتي ‪ 4-3‬من سورة ‪( 3‬آل عمران‪ ،)20‬من‬ ‫ّ‬ ‫ِيل ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫اب بِالْ َح ِّق ُم َص ِّدقًا لِ َم بَ ْ َي يَ َديْ ِه َوأَنْ َز َل التَّ ْو َرا َة َوا ِإلنْج َ‬ ‫القرآن الكريم (نَ َّز َل َعلَ ْي َك الْ ِكتَ َ‬ ‫دى لِل َّن ِ‬ ‫اس‪ ،21)..‬يشريان إىل أ ّن الكتاب الذي أرسل إىل املسلمني ميكن مقارنته متاما بالكتب‬ ‫ُه ً‬ ‫التي توجد من قبل عند الديانتني األخريتني؛ وبالنسبة إىل أوديتورس‪ ،‬وجب أن يكون من املمكن‬ ‫يغي شيئا يف‬ ‫ّ‬ ‫مقارنته أيضا يف صورته املاديّة بوصفه كتابا – وكون هذه يف طور‬ ‫التشكل‪ ،‬إذا ً‪ ،‬ال ّ‬ ‫املرشوع‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫تذكر املصادر القدمية يف مواضع ع ّدة كتابة القرآن الكريم‪ .‬وهكذا‪ ،‬مبج ّرد ما استق ّر مح ّمد (ص)‬ ‫اإلسالمي‬ ‫يف املدينة املنو ّرة‪ ،23‬عمد كثري من الكتّاب األمناء إىل تحرير كالم الوحي‪ .24‬يعرتف التقليد‬ ‫ّ‬ ‫ربا نسخ جزئ ّية) أنجزت عىل مراحل‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬وعىل موا ّد‬ ‫بوجود كتابات (مد ّونات أو حتّى ّ‬ ‫الكتفي وسيقان النخل وقطع مسطّحة من الحجارة وورق‬ ‫متن ّوعة يت ّم رسدها بوضوح مثل العظم‬ ‫ّ‬ ‫أملاين فاز بجائزة األكادمييّة الفرنسيّة لآلثار واآلداب الجميلة عام ‪ 1869‬عن‬ ‫‪ - 17‬ثيودور نولدييك ‪ )Th. Nôldeke (1836-1930‬دارس ّ‬ ‫النص باألملانيّة يف العام املوايل بعنوان ((‪ .Geschichte des Qorâns‬اشتغل أستاذا يف جامعات‬ ‫كتابه تاريخ القرآن؛ وقد أعاد كتابة هذا ّ‬ ‫كريس اللغات الرشقيّة بسرتاسبورغ‪ .‬نرش أعامال كثرية‪ ،‬نذكر منها‪ :‬اللغات الساميّة؛ تاريخ اإلسالم وحضارته؛ حياة‬ ‫أملانيّة وشغل منصب ّ‬ ‫مح ّمد (‪)1863‬؛ وله مساهامت يف معرفة الشعر العريب القديم (‪)1864‬؛ دراسات يف نقد العهد القديم (‪)1869‬؛ وتاريخ الفرس والعرب‬ ‫الطربي إىل األملانيّة (‪)1879‬‬ ‫يف زمن الساسانيّني؛ ومخلّفات الوثنيّة العربيّة (‪)1887‬؛ وقواعد اللغة العربيّة الفصحى (‪ ،)1896‬كام ترجم‬ ‫ّ‬ ‫وغري ذلك كثري‪.‬‬ ‫‪ - 18‬املرتجم‪( :‬األعراف) من إضافتنا‪ ،‬واألمر يرسي أيضا عىل كلمة 'آية' التي تليها يف هذا املوضع وغريه‪.‬‬ ‫‪ - 19‬تحمل رقم ‪ 87‬حسب ث‪ .‬نولدييك‪ ،‬يف حني تعطيها النرشة املرصيّة رقم ‪ .39‬غري أ ّن ث‪ .‬نولدييك ور‪ .‬بيل يريان يف هذا املقطع إضافة‬ ‫الحقة؛ انظر‬ ‫‪(R. Bell, op. cit., t. 1, p. 136 et 152); W. M. Watt, op. cit., p. 206-213.‬‬ ‫األصيل؛ وقد ص ّححناه يف املنت‪.‬‬ ‫النص ّ‬ ‫‪ - 20‬املرتجم‪" :‬آل عمران" من عندنا؛ وهي يف الرتتيب رقم ‪ 3‬ال ‪ 2‬كام يف ّ‬ ‫‪21  Trad. de D. Masson, Paris, Bibliothèque de la Pléiade, 1967.‬‬ ‫‪ - 22‬املرتجم‪( :‬ص) من إضافتنا؛ واألمر يرسي عىل مختلف املواضع املامثلة‪.‬‬ ‫‪23 -Th. Nôldeke, GdQ 2, II, Leipzig, 1919, p. 13; P. Casanova, Mohammed et la fin du monde, Paris, 1911-1913,‬‬ ‫‪p. 96-98.‬‬ ‫‪24 -R. Blachère, op. cit., p. 13-14.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪20 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫الربدي أو الجلد أيضا‪ .‬اقرتح ر‪ .‬بيل تحليال مبدعا ج ّدا للقرآن الكريم يسمح باكتشاف عدد من‬ ‫النص‪ ،‬يف صورته املكتوبة‪ ،‬بآثار املوا ّد املستعملة‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬إ ّن ظهور‬ ‫املقاطع حيث يحتفظ ّ‬ ‫‪25‬‬ ‫مجموعة من اآليات‪ ،‬يف مواضع ع ّدة‪ ،‬يف مجرى سورة من السور‪ ،‬التي يبدو أنّها تشكّل انقطاعا يف‬ ‫السياق‪ ،‬يتوافق مع استخدام ما يس ّميه ر‪ .‬بل «قطع ورق»‪ -26‬وهو ما يجب أن يفهم منه بالطبع‬ ‫قطع من ورق الربدي‪ ،‬أو الربشامن‪ ،‬أو الجلد وغري ذلك؛ أي‪ ،‬باختصار‪ ،‬مختلف املوا ّد املعزولة‬ ‫املستعملة من قبل أولئك الذين كانوا يكتبون آيات الوحي كام تنزل‪ 27‬تدريج ّيا‪ .‬وقد استخدم يف‬ ‫ذلك جانبي الورقة معا‪ ،‬لكن ال بشكل مستم ّر رضورة؛ وأثناء نسخ منظّم يف إطار عمل الضبط‪ ،‬فإ ّن‬ ‫النساخ يكونون قد نسخوا بعد ذلك الوجه ث ّم الظهر (أو العكس)‪ ،‬دون االلتفات إىل‬ ‫الناسخ أو ّ‬ ‫الزمني‪.‬‬ ‫انفصالهام وال إىل ترتيبهام‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإنّ الطريق إىل كتاب يتض ّمن الوحي بدأت يف وقت قريب مبا فيه الكفاية من‬ ‫دعوة محمد (ص)‪ :‬لقد جعل منوذج أهل الكتاب‪ ،‬الذي يستشهد به عادة‪ ،‬مرشوع الضبط‬ ‫عن طريق الكتابة مرشوعا مل ّحا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبدو لنا أنّه من املستبعد أن تكون نسخة مكتوبة‬ ‫‪28‬‬ ‫النبي وتحت إرشافه‪29‬؛ إنّ األدلّة التي ق ّدمت مؤ ّخرا عىل‬ ‫كاملة قد رأت النور خالل حياة ّ‬ ‫النص غري مقنعة‪ ،‬ألنّ عوامل كثرية تفيد عكس ذلك‪ .30‬باإلضافة إىل ذلك‪،‬‬ ‫وجود مثل هذا ّ‬ ‫النبي عىل قيد الحياة‪ ،‬كانت الرسالة القرآن ّية يف تط ّور‪ :‬مث ّة وحي مستم ّر‪ ،‬آيات سابقة‬ ‫طاملا أنّ ّ‬

‫‪ - 25‬املرتجم‪' :‬يبدو أنّها'‪ :‬من إضافتنا‪.‬‬ ‫‪26 -W. M. Watt, op. cit.; p. 101-107.‬‬ ‫إ ّن اعرتاض أ‪ .‬نويفريت ‪( A. Neuwirth‬نفسه‪ ،‬ص‪ ،102 .‬هامش ‪ )16‬عىل االنتشار الواسع نسبيّا لورق الربدي والبورشامن يف الجزيرة‬ ‫تقسم بالفعل إىل قطع حسب الحاجة‪.‬‬ ‫العربيّة القدمية ال يبطل مالحظات ر‪ .‬بيل؛ هذه املوا ّد قابلة أن ّ‬ ‫‪: se présentent‬املرتجم‪ :‬يف األصل ‪27 -‬‬ ‫‪ - 28‬تفادينا استعامل ما ّ‬ ‫تدل عليه كلمة‪ recension‬من معاين الجرد واملراجعة والتنقيح‪ ،‬ملكان ما قد تثريه هذه املعاين من حساسيّة لدى‬ ‫النص املقدّس‪.‬‬ ‫القارئ الذي مل يتع ّود عىل مثل هذه املصطلحات الفنيّة يف دراسة ّ‬ ‫‪29 - R. Blachère, op. cit., p. 18-27; W. M. Watt, op. cit., p. 143; A: Welch, op. cit., p. 405.‬‬ ‫‪30 - A. Neuwirth, op. cit., p. 101, n. 15 (reprend brièvement son c.r. de la thèse de J. Burton dans OLZ 76 (1981),‬‬ ‫‪col. 372-380).‬‬ ‫العدد‬

‫(‪21 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬ ‫‪31‬‬ ‫وتحل آيات أخرى محلّها‪ ،32‬تتعايش دروس مختلفة‪ -33‬وإن كان يجدر‪ ،‬يف صدد‬ ‫ّ‬ ‫تنسخ‬ ‫املسألة األخرية‪ ،‬تفادي االرمتاء يف مايض وقائع متأخّرة عىل نحو أبرز‪ .‬إنّ رضورة فسح مجال‬ ‫مفتوح ملسار الوحي كان لها بال ّ‬ ‫شك دور حال دون ضبط نسخة كاملة لها صورة كتاب تا ّم–‪،‬‬ ‫وهذا ال يستبعد متاما املالحظات املذكورة أعاله‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬ميكن القول إنّ ما ينقص‬ ‫نبي اإلسالم بشكل قاس ج ّدا‪ .‬ويه ّم قولنا‬ ‫الدعوة ليك تصري كتابا هو أمر رصيح حملته وفاة ّ‬ ‫بشكل مبارش أكرث موضوع القرآن منذ اللحظة التي أخذ فيها صورة كتاب‪.‬‬

‫مخطوط من أجل الجامعة‬

‫(تول الخالفة بني ‪-632‬‬ ‫إ ّن الروايات التي تتح ّدث عن جمع القرآن الكريم يف عهد أيب بكر ّ‬ ‫(تول الخالفة بني ‪656-644‬م) تذكر بشكل رصيح دوافع االشرتاك يف تدوين‬ ‫‪634‬م)‪ ،‬ث ّم عثامن ّ‬ ‫الشفوي‪ .‬إ ّن‬ ‫نص الوحي‪ :34‬يتعلّق األمر بوضوح يف الحالتني معا بالتخفيف من نواقص النقل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جامعي قد يصيب حفظة القرآن؛ وقد‬ ‫هدف ما اقرتحه عمر عىل أيب بكر هو تفادي خطر هالك‬ ‫ّ‬ ‫أوضح املؤ ّرخون منذئذ أ ّن الحدث الذي يفرتض أنّه أثار هذه التخ ّوفات‪ ،‬وهو معركة الياممة‬

‫‪ - 31‬املرتجم‪ :‬النسخ بهذا املعنى مختلف فيه‪ .‬وقد طلبت من األستاذ محمد بلسعل التعليق عىل هذا املوضوع‪ ،‬وأنا أعرف أ ّن له قوال‬ ‫متميّزا فيه‪ ،‬فأفادين مشكورا مبا ييل‪" :‬الظاهر املتبادر من هذا التعبري أمران‪ :‬األ ّول‪ :‬أ ّن اآليات املنسوخة كثرية بحيث تنسجم مع الظرف‬ ‫الزمني املتّسع لنزول القرآن والذي قدر بنحو ‪ 23‬عاما مع أ ّن العلامء يف آخر ع ّد قد أوصلوها إىل سبع أو خمس‪ .‬الثاين‪ :‬كون اآليات‬ ‫ّ‬ ‫لتحل أخرى محلّها وهذا مل يقل به علامء املنسوخ وإنّ ا املراد زوال حكم اآليات مع بقائها يف أنفسها أي نسخ‬ ‫املنسوخة قد أزيلت ّ‬ ‫يتبي أ ّن النسخ بهذا املعنى وبصوره األخرى املختلفة واملق ّررة يف كتب‬ ‫الحكم وبقاء التالوة للداللة عليه‪ .‬وبفضل تأ ّمل وتدقيق نظر ّ‬ ‫التفسري واألصول وكتب علوم القرآن ال وجود له إال يف ذهنيات القوم ألنّه غري واقع فال معنى له وال سبيل إىل انتظامه معرفيّا ومنطقيّا‬ ‫ال حمال وال مدخال ال يف حدّه وال يف عدّه ناهيك بخفاف األمثلة املرضوبة بشأنه لتعزيز وقوعه‪ .‬وال عربة بكرثة من يه ّم من املتساهلني‬ ‫كل أولئك يف كتابنا املس ّمى (املنسوخ‬ ‫فليس ملا قالوه مسكة غري هداية الظ ّن وما هم مبستيقنني‪ .‬وقد أمكن بحمد الله وتوفيقه تحقيق ّ‬ ‫القرآ ّين وإشكالية املقاربة) وقد تجاوزت صفحاته ‪."300‬‬ ‫‪32 -W. M. Watt, op. cit., p. 89-101; A. Welch, op. cit., p. 405.‬‬ ‫يشكّك ج‪ .‬بورتون يف أقدميّة هذا املفهوم؛ انظر‬ ‫‪J. Burton, The collection of the Qur'àn, Cambridge, - 1977, passim).‬‬ ‫‪33-Th. Nôldeke, GdQ 2, II, p. 48-49; R. Blachère, op. cit., p. 26,‬‬ ‫يلح عىل تقطّعات الذاكرة‪.‬‬ ‫(حيث يشكّك املؤلّف يف أصالة ّ‬ ‫النص) و‪ ،16-17‬حيث ّ‬ ‫‪34 - Th. Nôldeke, GdQ 2, II, p. 11-15 et 47-50; R. Blachère, op. cit., p. 30-31 et 53; A. Welch, op. cit., p. 406-407.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪22 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫مم يفهم من كالم عمر‪ .35‬إ ّن األسباب‬ ‫(عام ‪633‬م)‪ ،‬كان يف الواقع ّ‬ ‫أقل هالكا بالنسبة إىل الحفّاظ ّ‬ ‫النص القرآ ّين هي أكرث دقّة حسب الرواية التقلي ّديّة؛ فقد‬ ‫التي كانت وراء قرار عثامن ضبط ّ‬ ‫النص بني جنوده‬ ‫فوجئ حذيفة‪ ،‬قائد الجيش‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬مبا الحظه من وجود اختالفات يف تالوة ّ‬ ‫ّ‬ ‫عشية غزو أرمينيا‪ .‬فذهب إىل الخليفة مرعوبا ين ّبه عىل األمر‪ ،‬وكان لتقريره أثر مبارش‪ :‬فقد شكّل‬ ‫عثامن لجنة كلّفها بجمع القرآن يف نسخة واحدة منق ّحة وأرسل منها نسخا إىل الحوارض الكربى‬ ‫يف اإلمرباطوريّة‪.36‬‬ ‫املفسون‪ ،‬منذ زمن طويل‪ ،‬إىل الصعوبات التي تثريها هذه النسخ التقلي ّدية‪ .37‬ومع‬ ‫لقد تن ّبه ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬يبدو أ ّن مث ّة أمرا يحظى باإلجامع تقريبا‪ ،‬وهو فعل جمع القرآن يف عهد عثامن‪ .‬غري أ ّن هذه‬ ‫أسايس إذا أخذنا بعني االعتبار الغاية املرج ّوة من هذه املصاحف‪ .‬إ ّن‬ ‫الرواية تصطدم باعرتاض‬ ‫ّ‬ ‫فحص أقدم املخطوطات أو املقاطع من القرآن الكريم‪ ،‬التي تعود إىل النصف الثاين من القرن‬ ‫‪38‬‬ ‫حال موثوقا للمشكل الذي كان من املفرتض أن‬ ‫يبي أنّها غري قادرة متاما عىل أن تق ّدم ّ‬ ‫السابع ‪ّ ،‬‬ ‫يحلّه مصحف‪ 39‬عثامن‪ :‬نقط اإلعجام (‪ )les points diacritiques‬التي وحدها تسمح بتمييز‬ ‫األلفاظ املشرتكة نادرة ج ّدا وحركات اإلعراب (‪ )la vocalisation‬غائبة عنها‪ .‬إنّها ليست مشكالت‬ ‫سهلة ناتجة عن نواقص الكتابة يف ذلك العرص فقط‪ ،40‬وإمنّ ا هي نقص أساس يف تحقيق غاية‬ ‫النص املكتوب من القارئ حفظ القرآن عن ظهر قلب‪ ،‬دون أن‬ ‫املرشوع املعلنة‪ :‬يستدعي هذا ّ‬ ‫‪41‬‬ ‫تقيض مع ذلك عىل تش ّعب القراءات املختلفة‪ ،‬كام سبق أن الحظ ذلك ر‪ .‬بالشري (‪. )R. Blachère‬‬ ‫يخص نقط اإلعجام؛ فهذه الرموز كانت معروفة‪ ،‬وكان‬ ‫ومن املالحظ أ ّن األمر كان اختيارا فيام ّ‬ ‫شوال‬ ‫‪ - 35‬وقد سبق أن ذكر ذلك ف‪ّ .‬‬ ‫‪F. Schwally (dans Th. Nôldeke, GdQ 2, II, p.: 20).‬‬ ‫‪36 - Ibid., p. 47-50; A. Welch, op. cit., p. 406.‬‬ ‫‪37 - A. Welch, op. cit., p. 407.1.‬‬ ‫‪ - 38‬وميكن الرجوع إىل صورة عن املخطوطة‪ ،‬باريس‪ :‬املكتبة الوطنيّة‪ ،‬املخطوطات العربيّة‪ 328 ،‬أ‪ ،‬وهي واحدة من أقدم املخطوطات‬ ‫القرآنيّة املحتفظ بها؛ انظر‬ ‫‪(F. Déroche et S. Noja Noseda, Le manuscrit arabe 328 (a) de la bibliothèque nationale de France [Sources de la‬‬ ‫‪transmission manuscrite du texte coranique, I : Les manuscrits de style higâzi, 1], Lesa, 1998).‬‬ ‫النص‪' :‬محصف عثامن'!‬ ‫‪ - 39‬املرتجم‪ :‬يف ّ‬ ‫‪40 - R. Blachère, op. cit., p. 66; A. Welch, op. cit., p. 409; W. M. Watt, op. cit., p. 47-48.‬‬ ‫‪41 - Op. cit., p. 16.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪23 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫كل ّ‬ ‫شك يف قراءة طاء بدل‬ ‫النساخ‪ ،‬لو أعطيت لهم تعليامت يف هذا الشأن‪ ،‬أن يرفعوا ّ‬ ‫مبقدور ّ‬ ‫‪42‬‬ ‫ياء أو نون‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬تتّفق املصادر العرب ّية عىل اعتبار حركات اإلعراب اخرتاعا متأ ّخرا ‪ .‬وقد‬ ‫بأي مصحف من مصاحف عثامن‪ -‬أو إن وجد واحد منها اليوم‪،‬‬ ‫يعرتض علينا بالقول إنّه مل يحتفظ ّ‬ ‫فإنّه ليس بإمكاننا معرفته؛ فسيكون من املحال إذا ً معرفة ما إذا مل تكن هذه النسخ املرجع ّية‬ ‫أكرث دقّة يف تدوينها من املخطوطات املحفوظة واملعروفة اليوم‪ .‬من الصعب قبول هذا االعرتاض‪:‬‬ ‫غياب حركات اإلعراب هو يف ذاته دليل عىل أ ّن الغايات املنسوبة إىل عثامن متجاوزة يف هذه‬ ‫املسألة‪ .‬وأيضا‪ ،‬فإ ّن عناية أياد حديثة ج ّدا بإغناء املخطوطات القدمية من حيث الشكل يربز أ ّن‬ ‫الحاجة إىل تحصيل هذه املساعدة كانت قامئة‪ .43‬وأخريا‪ ،‬فإ ّن املراجعات التي بادر الح ّجاج إىل‬ ‫النص مل يبلغ يف‬ ‫يبي أ ّن ّ‬ ‫القيام بها (بني ‪714-694‬م) وتط ّور الرسم القرآ ّين إىل حدود القرن التاسع ّ‬ ‫تدوينه درجة من الدقّة من أجل تحقيق امله ّمة املسندة إىل املصحف العثام ّين‪.‬‬ ‫واقعي من املخطوط الذي أرادوا تشكيله؟‬ ‫فام هو الدور الذي رامه الخليفة ومحيطه عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫تشكّل نسخة عثامن يف املقام األ ّول ضبطا ملا يف القرآن (ومن ث ّم ملا ليس فيه)‪ ،‬وتقرتح عىل النحو‬ ‫نفسه ترتيبا للسور؛ إذ قد نقول إ ّن األمر يتعلّق بـ»رسم ح ّد أدىن»‪ .44‬يف ذلك العرص‪ ،‬كانت مثّ ة‬ ‫نسخ أخرى متداولة‪ ،‬نذكر عىل سبيل املثال نسختي الصحابيّني عبيد وابن مسعود‪ ،‬اللتني تق ّدمان‬ ‫النص من حيث نقط اإلعجام واإلعراب قد ال يجب‬ ‫رواية مختلفة عن هذين األمرين‪ .45‬إ ّن نواقص ّ‬ ‫أن ينظر إليها جميعها عىل أنّها غري قادرة عىل تطوير تدوين دقيق للوحي؛ لقد استطاعت أشكال‬ ‫الغموض يف املخطوطات القدمية أن تجيب عن حاجة مح ّددة‪ ،‬وهي مثال ترك إمكانات القراءات‬ ‫النص‪ .‬وميكن عموما‬ ‫املختلفة مفتوحة ومن ث ّم ربح انخراط عدد أكرب من املسلمني يف اعتامد هذا ّ‬ ‫أن يكون مث ّة استمراريّة نسب ّية يف قبول املزايا التي مينحها شكل مفتوح من الكتابة بني مرحلة دعوة‬ ‫مح ّمد (ص) ومرحلة خلفائه األوائل عىل رأس الجامعة‪.‬‬ ‫وما ميثّل بال ّ‬ ‫شك ثورة يف منزلة املخطوط يف الجامعة اإلسالميّة‪ ،‬هو قرار توزيع النسخة التي‬ ‫‪42 - A. Welch, op. cit., p. 409.‬‬ ‫‪ - 43‬انظر عىل سبيل املثال مقطع إستانبول‪،‬‬ ‫‪le fragment Istanbul, tiem se 54л.‬‬ ‫‪44 - «rasm minimal».‬‬ ‫‪45 - R. Blachère, op. cit., p. 35-45; .W. M. Watt, op. cit., p. 45-46; A. Welch, op. cit., p. 407-408; A. Neuwirth, op.‬‬ ‫‪cit., p. 104.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪24 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫وخاصة‬ ‫حقّقتها اللجنة التي كلّفها الخليفة عىل الحوارض الكربى‪ .46‬فبينام ظلّت النسخ األخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نسخة أيب بكر‪ ،47‬مندرجة يف عملية تقليديّة‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬حيث احتفظ باملالحظات املكتوبة‬ ‫الخاص‪ ،‬رشع الخليفة عثامن يف عمليّة تحقيق؛ وهذا ما تؤكّده واقعة‬ ‫بخ ّط اليد بغرض االستعامل‬ ‫ّ‬ ‫أ ّن النسخ وضعت يف املساجد ومل تودع لدى السلطة املحلّية وال لدى هذه الشخص ّية أو تلك من‬ ‫الرضوري أن يستغرق ع ّدة قرون‬ ‫للنص القرآ ّين‪ ،‬فكان من‬ ‫الشخصيّات امله ّمة‪ .‬أ ّما التدوين الدقيق ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل العنارص الرضوريّة يف ّ‬ ‫فك‬ ‫حتّى كان القرن العارش حيث ظهرت مصاحف وضعت أمام القارئ ّ‬ ‫النص‪.‬‬ ‫رموز ّ‬

‫النص‬ ‫املا ّدة يف خدمة ّ‬

‫اإلسالمي؛ ومن املحتمل أنّه أعيد النظر‬ ‫لقد وجد قرار عثامن فيام بعد صدى كبريا يف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫تغي صورة الخليفة يف الذاكرة الجامعيّة‪ ،‬إذ تف ّوقت صورة الشهيد عام‬ ‫يف أه ّمية ذلك القرار مع ّ‬ ‫‪656‬م تدريج ّيا عىل صورة األمري املتّهم باملحسوب ّية واملحاباة‪ .‬أ ّما املخطوطات القرآن ّية التي ارتبطت‬ ‫فيام بعد باسمه‪ ،‬فقد تدخّلت فيها تدريجيّا عنارص شتّى‪ :‬األ ّمهات التي أرسلها الخليفة إىل األمصار‬ ‫ظل ملطّخا بدمائه‪،‬‬ ‫الكربى يف اإلمرباطوريّة‪ ،‬املصحف الذي كان يقرأ عندما رضبه قاتلوه والذي ّ‬ ‫بل أيضا النسخ التي قد يكون هيّأها بيديه‪ -‬وهو أمر ميثّل صياغة الحقة‪ .‬لقد تكاثرت «مصاحف‬ ‫كل الحاالت التي استطعنا فحصها‪ ،‬بنسخ‬ ‫عثامن» مع الزمن؛ ومن الغريب أ ّن األمر يتعلّق‪ ،‬يف ّ‬ ‫تعود إىل قرن أو قرنني بعد وفاة الخليفة‪ .‬ويف الجملة‪ ،‬عالوة عىل تقدير مدروس ألصالة هذه‬ ‫املخطوطات‪ ،‬فإ ّن التص ّور الذي شكّلته األجيال الالحقة من املسلمني عن الطابع االستثنا ّيئ لفعل‬ ‫عثامن هو الذي كان حاسام يف ربط اسمه بهذا املصحف أو ذاك‪ :‬فليس مفاجئا‪ ،‬إذا ً‪ ،‬أن ال يحمل‬ ‫الحجازي‪ -‬الذي مت ّيز بعضه‬ ‫اختيارهم عىل نسخ حسنة الخطّ‪ -‬وليس األمر كذلك يف حالة الخ ّط‬ ‫ّ‬ ‫يخص هذه األخرية‪ ،‬فإنّها ال تنسب إىل ما قبل القرن السادس‪/‬الثاين عرش‪،‬‬ ‫بأبعاد استثنائيّة‪ .‬وفيام ّ‬ ‫فقد تعود إىل القرن السابق عىل األكرث؛ وبالنسبة إىل املؤمنني يف هذه املرحلة الحرجة‪ ،‬فإ ّن الحجم‬ ‫املركزي الذي كانت تؤ ّديه الرسالة‬ ‫الكبري لنسخ عثامن قد شكّل عالمة ملموسة وواضحة عىل الدور‬ ‫ّ‬ ‫التي كلّف محمد (ص) بتبليغها يف الحارضة اإلسالم ّية‪.‬‬ ‫ث ّم ماذا عن العرص الذي أع ّدت فيه هذه املصاحف؟ ما هي الرسالة التي تكلّفت بنقلها داخل‬ ‫‪46 - G. Schoeler, «Schreiben und Verôffentlichen, Zur Verwendung und Funktion der Schrift in den ersten‬‬ ‫‪islamischen Jahrhunderten », Der Islam 69 (1992), p. 24.‬‬ ‫‪ - 47‬إذا قبلنا بوجودها‪ ،‬وهو أمر يشكّك فيه كثري من املؤلّفني‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪25 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫املجتمع؟ ميكن استخالص بعض اإلشارات من فحص مخطوطني‪ ،‬احتفظ بأحدهام يف طشقند‪،‬‬ ‫والثاين يف مسجد س ّيدنا حسني يف القاهرة‪ .‬إنّهام يص ّنفان‪ ،‬إذا ً‪ ،‬ضمن مجموع املصاحف التي لها‬ ‫أحجام استثنائيّة (حوايل ‪ X 65 55‬سنتم)‪ ،48‬بل وتع ّد ضمن أكرب مخطوطات البورشامن املعروفة‪،‬‬ ‫الرضوري التذكري به‪ ،‬من خالل طبيعة – أو عىل نحو ّ‬ ‫أدق‪،‬‬ ‫وهي ما ّدة يتح ّدد حجمها‪ ،‬إن كان من‬ ‫ّ‬ ‫كل صفحة ال‬ ‫النوع الحيوا ّين الذي استخدم يف إعداده‪ .‬وأيضا‪ ،‬فإ ّن الكتابة منوذج مذهل‪ ،‬مادامت ّ‬ ‫الرضوري يف كتابة‬ ‫قوي ج ّدا يف عدد األوراق‬ ‫ّ‬ ‫تتّسع ألكرث من اثني عرش سطرا‪ :‬هذا االختيار له تأثري ّ‬ ‫النص القرآين كلّه‪ .‬وحسب املعطيات التي استطعنا الحصول عليها‪ ،‬يبدو أ ّن هذه املخطوطات‬ ‫ّ‬ ‫‪49‬‬ ‫وكل واحدة من هذه‪ ،‬إذا حكمنا عليها بأحجامها‪ ،‬تقابل جلدا‬ ‫تحتوي عىل ‪ 560‬إىل ‪ 720‬ورقة ؛ ّ‬ ‫من الجلود‪ ،‬وهو أمر يرجع بنا إىل القول بأ ّن إنجاز مخطوط يستدعي التضحيّة بقطيع صغري من‬ ‫‪ 560‬إىل ‪ 700‬رأس حيوان حسب الحاالت‪ .‬ومن أجل تقدير هذا الرقم بشكل أفضل‪ ،‬يجب علينا أن‬ ‫نتذكّر أ ّن مصاحف ذات أحجام أصغر‪ ،‬نسخت بكتابة ذات حجم صغري‪ ،‬ال تحتوي سوى عىل بضع‬ ‫يتعي علينا االنتقال إىل العصور‬ ‫عرشة من األوراق‪ :‬ويف غياب مناذج قدمية موث ّقة عىل نحو ج ّيد‪ّ ،‬‬ ‫الحديثة من أجل إجراء هذه املقارنة‪ .‬ففي القرن السابع عرش‪ ،‬ويف تركيا‪ ،‬قد احتوى مصحف من‬ ‫‪ 25,5X15,5‬سنتم عىل ‪ 64‬ورقة‪ ،50‬وآخر متأخّر أكرث‪ ،‬ومن مصدر إير ّاين‪ ،‬مل يشتمل سوى عىل ‪34‬‬ ‫ورقة من صنف ‪ 30,5X19,5‬سنتم‪.51‬‬ ‫يكشف تحليل خ ّط هاتني النسختني املنسوبتني إىل عثامن عن كونهام قد نسختا خالل النصف‬ ‫الثاين من القرن الثامن كام هو حال مخطوطات أخرى لها خاص ّيات متقاربة ج ّدا ً‪ .‬إ ّن مثل هذا‬ ‫مخصصة‬ ‫العمل يعكس مرشوعا قامئا بالفعل‪ .‬ومن املستبعد أ ّن مصاحف من هذا الحجم كانت ّ‬ ‫أي قراءة عموم ّية عىل خالف الديانتني‬ ‫لحاجات طقوس ّية لدى الجامعة‪ :‬ال تتضمن الشعائر ّ‬

‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬د‪ .‬ت‪ ،‬ص‪.50-53 .‬‬ ‫‪ - 48‬س‪ .‬من ّجد‪ ،‬دراسات يف تاريخ الخ ّط ّ‬ ‫‪49 -A. N. Shebunin, «Kuiïcheskij Koran - Imperatorskoj Sankt-Petersburgskoj Publichnoj Biblioteki», Zapiski:‬‬ ‫« ;‪Vostochnogo OtdelenijaImperatorskogo Russkogo Arkheologicheskogo Obshchestva 6 (1891), p. 75-81‬‬ ‫‪Kuficheskij Koran Khedivskoj Biblioteki v Kaire», Zapisok Vostochnago Otdvlenia. Imperatorskogo Russkago‬‬ ‫‪Arkheologicheskago Obshestva 14(1902), p. 117-154.‬‬ ‫‪50 -H. Rebhan et W. Riesterer, Prachtkorane aus Tausend Jahren, Munchen, 1998, n° 22 (= Munchen,‬‬ ‫‪Staatsbibliothek, Cod. arab. 2693).‬‬ ‫‪51 - H. . Rebhan, op. cit., n° 25 (= Munchen,- Staatsbibliothek, Cod. arab. 1118).‬‬ ‫العدد‬

‫(‪26 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫النرصانيّة واليهوديّة‪ .52‬ولهذا ال ميكن أن يكون األمر متعلّقا بـ‪ ‬كتاب فصول مع ّد لقراءة جامعيّة‬ ‫‪ -lectionnaire  un‬كام تس ّمى أحيانا هذه املصاحف ذات حجم كبري‪.‬‬ ‫يجب البحث عن تفسريات أخرى‪ .‬وأ ّول هذه التفسريات التي تتبادر إىل الذهن ذات طابع‬ ‫نفيس‪ :‬ال ميكن لهذه املصاحف‪ ،‬بحجمها املثري متاما لإلعجاب‪ ،‬أن ال ترتك أثرا يف األذهان‪ .‬وثانيهام‬ ‫ّ‬ ‫ميكن أن تق ّدم يف سياق السجاالت بني اإلسالم والديانات الكتاب ّية األخرى‪ .‬ويف هذا اإلطار‪ ،‬فإ ّن‬ ‫مسألتني قامتا بدور مه ّم‪ :‬مسألة الحجم من جهة‪ ،‬وتلك املرتبطة بشكل العرض‪ .‬وكام الحظنا‬ ‫نص ذو حجم صغري‪ -‬كام قد يالحظ الجميع من خالل تصفّح نسخة مطبوعة‬ ‫سلفا‪ ،‬فإ ّن القرآن هو ّ‬ ‫العربي‪ ،‬بل أيضا العهد الجديد وحده أكرب حجام من‬ ‫حديثة‪ .‬وعىل سبيل املقارنة‪ ،‬فإ ّن اإلنجيل‬ ‫ّ‬ ‫حيث عدد الرموز‪ .‬بعض املقاطع القرآن ّية‪ ،‬مثل املقطع الذي أوردناه أعاله (القرآن الكريم‪ ،‬سورة‬ ‫‪ ،)4-3 ،3‬تقيم مقارنة بني القرآن من جهة‪ ،‬والتوراة واإلنجيل من جهة أخرى؛ وقد كان بإمكان‬ ‫املسلمني‪ ،‬إذا ً‪ ،‬أن يشعروا بواجب إثبات ص ّحة هذا التقارب‪ ،‬بل تحقيق شكل من أشكال التف ّوق‬ ‫املادي‪ .‬وقد أتاحت الفتوحات لإلمرباطوريّة‪ ،‬وال سيّام لقادتها‪ ،‬وسائل ماليّة كبرية‬ ‫عىل املستوى‬ ‫ّ‬ ‫قلّلت إىل ح ّد كبري من القيود التي عادة ما تفرضها تكاليف إنجاز مشاريع طموحة‪ .‬يبدو أ ّن دور‬ ‫النساخ متثّل يف جزء منه يف صقل كتابات كبرية الحجم تحتاج إىل مساحة واسعة من شأنها أن تثري‬ ‫ّ‬ ‫‪53‬‬ ‫إحساسا بأناقة فخمة ‪ .‬وهكذا‪ ،‬صار من املمكن إعداد مصاحف ذات أحجام كبرية‪ -‬يف العرض‬ ‫دفاعي وبيّنت بامللموس أه ّمية ال ّنص الذي أوحي به‬ ‫والطول والسمك‪ -‬ح ّولت املخطوط إىل دليل‬ ‫ّ‬ ‫إىل مح ّمد (ص)‪.‬‬ ‫األثري قد تط ّور جنبا إىل جنب مع تطوير رسوم زخرفة بغرض تزيني‬ ‫هذا البحث عن الطابع‬ ‫ّ‬ ‫املخطوطة‪ .‬وهذا‪ ،‬يف نظرنا‪ ،‬أحد معاين الحكاية التي تضع خالد بن أيب الهيّاج وجها لوجه مع‬ ‫الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز ّ‬ ‫(تول الخالفة بني ‪720-717‬م)‪ :54‬أنجز الخطّاط مصحفا نسخ‬

‫‪52 - H. C. von Bothmer, « Korané», Orientalische Buchkunst in Gotha, Gotha, 1997, p. 103. Voir également supra,‬‬ ‫‪à propos de l'étymologie syriaque du mot qur'ân (n. 4).‬‬ ‫‪ - 53‬يف هذا األفق يجب قراءة ما نسب إىل عمر وعيل من موافقة عىل املصاحف ذات الحجم الكبري (السيوطي‪ ،‬ك‪ .‬اإلتقان يف علوم‬ ‫القرآن‪ ،‬ج‪ ،2 .‬بريوت‪ ،1407/1987 ،‬ص‪375 .‬؛‬ ‫‪N. Abbott, The Rise of the North Arabic Script and its kur'anic Development, Chicago, 1939, p. 54, sans référence).‬‬ ‫‪.‬ابن النديم‪ ،‬ك‪ .‬الفهرست‪ ،‬نرشة ر‪ .‬تجدّد‪ ،‬طهران‪ ،1350/1971 ،‬ص‪54 - 9 .‬‬ ‫العدد‬

‫(‪27 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫بحروف ذهبيّة‪ ،‬عىل غرار املامرسات الراسخة يف النرصانيّة الرشقيّة‪ .55‬غري أ ّن ر ّد فعل الخليفة‪،‬‬ ‫الذي رفض رشاء املخطوط بسبب سعره املبالغ فيه‪ ،‬يعكس بال ّ‬ ‫شك نقد التباهي بالنسخ الفاخرة‬ ‫التي ظهرت يف عهد األمويّني وأوائل العبّاسيني‪ .‬وحسب م‪ .‬وات ‪ ،M. Watt56‬فإ ّن إحصاء املوا ّد غري‬ ‫النبي يف تدوين الوحي يعود إىل القرن الثامن؛‬ ‫املتجانسة واملتواضعة ج ّدا التي استعملت يف عهد ّ‬ ‫ويشكّل ذلك أيضا تذكريا بتقشّ ف األيام األوىل ونقد مامرسات التباهي التي أدخلت الحقا‪ .‬وعىل‬ ‫يل‪ ،‬هو توظيف مامرسات مشرتكة لدى‬ ‫األرجح فإ ّن املقصود املبارش بالنقد‪ ،‬يف هذا النقاش الداخ ّ‬ ‫النرصانيّة واليهوديّة يف املخطوطات اإلسالميّة‪ .‬وقد كان النقاش ال يتوقّف عند موضوع زخرفة‬ ‫املخطوطات فقط‪ ،‬بل إ ّن املصادر العرب ّية املعارصة قد حفظت لنا مالحظات تتعلّق بهندسة بنائها‬ ‫(تول الخالفة بني ‪715-705‬م) يتأ ّمل مسجد‬ ‫وتزيينها أيضا‪ .‬وهكذا‪ ،‬بينام كان الخليفة الوليد ّ‬ ‫رجل مس ّن‬ ‫النبي يف املدينة الذي أت ّم الص ّناع النرصان ّيون إعادة بنائه حسب تعليامته‪ ،‬تق ّدم منه ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬ ‫وقال له‪« :‬لقد بنينا عىل طريقة املساجد‪ ،‬وأنتم بنيتم عىل طريقة الكنائس» ‪ .‬أ ّما أنصار األمويّني‪،‬‬ ‫‪58‬‬ ‫فيمكن أن يتب ّنوا رأي ابن الع ّباس (‪688/687-619‬م) الذي كان يقول‪« :‬يجب أن تزيّن ˃املساجد˂‬ ‫بالذهب كام يفعل اليهود والنصارى»‪ .59‬مثّ ة مالحظات أخرى‪ ،‬منسوبة إىل الصحابة مثل أيب الدرداع‬ ‫(ت‪652 .‬م) أو أيب هريرة (ت‪ .‬ح‪379/677 .‬م)‪ ،‬تربط يف استنكار واحد بني تزيني املساجد وتزيني‬ ‫نص الوحي‪.60‬‬ ‫نسخ ّ‬

‫يوناين ‪ ،1286‬األ ّول والثاين) هو خري مثال عىل هذا التقليد؛ قد‬ ‫‪ - 55‬الئحة مخطوطات ‪( Sinopensis‬باريس‪ :‬املكتبة الوطنيّة‪ ،‬ملحق ّ‬ ‫تكون نسخت يف سوريا أو بالد الرافدين يف القرن السادس بأحرف من ذهب عىل برشامن أرجوا ّين‪.‬‬ ‫‪56 - Op. cit., p. 32.‬‬ ‫‪ - 57‬ص‪( 347 .‬مسجد) الذي يحيل عىل ‪ VI ،EI2‬حسب‬ ‫‪F. Wustenfeld, Geschichte der Stadt Medina, Im Auszuge aus dem Arabischen... [Abhandlungen der.‬‬ ‫‪kônigl. Gesellschaft der.Wissenschaften zu Gôttingen, 9. Bd, Hist.-philologische Classe], Gôttingen,‬‬ ‫‪1861, p. 74.‬‬ ‫‪( EI2, I, p. 41-42 - 58‬عبد الله بن العبّاس)‪.‬‬ ‫‪ - 59‬نفسه‪ ،‬حسب البخاري‪ ،‬صالة‪ ،‬باب ‪.62‬‬ ‫‪ - 60‬هذه الشخصيات التي عاشت يف بداية اإلسالم‪ ،‬وابن مسعود نفسه (ت‪ )652 .‬الذي ال يرفض استخدام الذهب لتزيني املصاحف‪،‬‬ ‫نص القرآن]‪ ،‬لييدي‪ ،1937 ،‬ص‪150 .‬؛ السيوطي‪،‬‬ ‫أقحمت يف النقاش الحقا (ابن أيب داوود‪ ،‬ك‪ .‬املصاحف‪ ،‬تح‪ .‬أ‪ .‬جيفري [موا ّد يف تاريخ ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬ص‪3376 .‬؛‬ ‫)‪G. Bergstrâsser et О. Pretzl, GdQ 2, III, p. 260, n.1‬‬ ‫العدد‬

‫(‪28 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫لقد كان إعداد هذه املصاحف‪ ،‬التي ميكن وصفها بأنّها مخطوطات احتفالية‪ ،‬مناسبة استكشاف‬ ‫منسجم إلمكانات مختلفة تسمح بتحقيق النتيجة املرج ّوة‪ .‬وهو ما يؤكّده‪ ،‬يف نظرنا‪ ،‬وجود نسخ‬ ‫كانت‪ ،‬مع أنّها تعتمد حجم صفحة أقرب إىل االستعامل الشائع‪ ،‬تحافظ عىل منط مه ّم من الكتابة‬ ‫النساخ‪،‬‬ ‫وتفيد من تقسيامت ّ‬ ‫النص إىل سبعة‪ ،‬وعرشة‪ ،‬وثالثني قسام بالخصوص؛ وقد كان بإمكان ّ‬ ‫والحال هذه‪ ،‬أن ينجزوا سلسلة من سبعة‪ ،‬أو عرشة أو ثالثني مجلّدا تشكّل وحدها‪ ،‬يف مكان‬ ‫الحل الذي تب ّناه أمري من القرن التاسع‪ ،‬أماجور‪ ،‬عامل‬ ‫حفظها يف خزانة‪ ،‬مكتبة صغرية‪ .‬هذا هو ّ‬ ‫كل واحد‬ ‫دمشق بني عام ‪ 870‬و‪878‬م‪ .61‬وقد أرشف عىل إنجاز سلسلة من ثالثني مجلّدا‪ ،‬نسخ ّ‬ ‫منها بثالثة سطور يف الصفحة‪ ،‬قد تصل يف مجموعها إىل ‪ 4000‬ورقة وكان يحويها صندوقان وضعا‬ ‫يف ّ‬ ‫مصل صور‪ .62‬ميكن أن نتساءل عن الوجهة العمليّة لهذا النوع من املصاحف التي كانت تشكّل‬ ‫النص‬ ‫يف ذلك الوقت ظاهرة هامش ّية مل تعرف استمرارا‪ .‬لقد ت ّم الح ّد من الحجم املفتوح‪ ،‬وكم ّية ّ‬ ‫املرئيّة عىل صفحة مزدوجة‪ :‬ال يحتوي السطر أحيانا سوى عىل كلمة واحدة! بقدر ما كان مصحف‬ ‫أماجور مرئ ّيا‪ ،‬كان ّ‬ ‫كل يشء‪ ،‬يظهر الراعي تقواه – وق ّوته؛‬ ‫يشك يف كونه مقروءا بشكل أوضح‪ .‬وقبل ّ‬ ‫واملؤسسة الدينيّة التي تأوي هذه النسخة تفيد منها أيضا حظوة ما عىل األرجح‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مصاحف كبرية‬

‫لقد سمح إدخال الورق‪ ،‬ابتداء من منتصف القرن التاسع‪ ،‬بتفادي القيود التقن ّية‪ ،‬ولكن أيضا‬ ‫االقتصاديّة‪ ،‬التي كان يفرضها البورشامن‪ :‬لقد وجد تقليد املصاحف ذات الحجم الكبري إمكانات‬ ‫جديدة‪ .‬إ ّن عادات املصالح اإلداريّة اإلسالم ّية‪ ،‬التي تجمع يف تقاليدها بني كبار هذا العامل وموا ّد‬ ‫خاصة وقد‬ ‫وكتابات مذهلة‪ ،‬ال ميكن إال أن تؤيّد إعجاب األقويّاء الشديد مبصاحف استثنائيّة‪ّ ،63‬‬ ‫يل) أعربا عن تفضيلها لنسخ كبرية الحجم‪ .64‬فقد نقل‬ ‫شاع أ ّن اثنني من الخلفاء األوائل (عمر وع ّ‬ ‫‪61-  ЕI1, I, p. 395; F. Déroche, «The Qur'ân of Amâjûr», Manuscripts of the Middle East 5 (1990-1991), p. 59.‬‬ ‫كل ورقة‪.‬‬ ‫النص يف ّ‬ ‫‪ - 62‬يستند هذا التقييم عىل تقدير حذر لك ّمية ّ‬ ‫‪ - 63‬قد يكون تيمورلنك أرسل إىل سلطان مرص رسالة بحجم ثالثة أذرع يف العرض وسبعني ذراعا يف الطول؛ انظر‬ ‫;)‪(CL Huart, Les calligraphes et les miniaturistes de l'Orient musulman, réimpr. Osnabruck, 1972, p. 9‬‬ ‫يف حوار بني أساليب الخ ّط التي تعود إىل املرحلة نفسها‪ ،‬يتباهى خ ّط طومار‪ -‬كتابة ذات حجم كبري‪ -‬بأنّه الخ ّط الذي يستخدم من قبل‬ ‫امللوك و كبار هذا العامل؛ انظر‬ ‫‪(E. Rudolph, «Der Wettstreit der Schriftarten-eine arabische Handschrift aus der Forschungsbibliothek Gotha »,‬‬ ‫‪Der Islam 6S (1988), p. 303).‬‬ ‫‪64 - Voir supra, n. 34.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪29 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫مؤسسات دينيّة ينفقون عليها بسخاء؛ كانوا يقتنون‬ ‫أ ّن األعيان كانوا‪ ،‬يف مرص اململوكيّة‪ ،‬يشيّدون ّ‬ ‫يبي أ ّن املكلّفني بذلك يختارون نسخا من‬ ‫املخطوطات القرآن ّية وما احتفظ به من هذه األخرية ّ‬ ‫‪65‬‬ ‫الحجم الكبري‪ ،‬يف مجلّد واحد يف معظم األحيان قد يصل طولها إىل مرت أو أكرث ‪.‬‬ ‫غري أ ّن التيموريّني قد تف ّوقوا‪ ،‬عىل ما يبدو‪ ،‬عىل جميع منافسيهم‪ .‬إ ّن ما عرف مبصحف باي‬ ‫سنغور‪ 66‬يشكّل تحفة من حيث مستوى ف ّن الخ ّط أو صناعة الورق التي توافرت لديهم من أجل‬ ‫املحب للكتب باي سنغور‪ ،‬نسخ‬ ‫إنتاج أوراق من هذا الحجم‪ .‬يروى أ ّن حفيد تيمورلنك‪ ،‬األمري‬ ‫ّ‬ ‫ومم ّ‬ ‫الشك فيه أ ّن هذا األمري كان خطّاطا‪ ،‬ولكن ال نتص ّور متاما أنّه ميكن أن‬ ‫بنفسه هذا املجلّد؛ ّ‬ ‫يتف ّرغ بنفسه للعمل املرهق الذي هو إنجاز نسخة عىل صفحات تقرتب يف عل ّوها من مرتين‪.‬‬ ‫وحديثا‪ ،‬استطعنا أن‪ 67‬نتع ّرف عىل مصحف عمالق أنتج حوايل ‪ ،1400‬يف عهد تيمورلنك‪ :68‬نقرأ‬ ‫يف القصص الرشقيّة عن ف ّن الخ ّط حكاية تتعلّق بخالف بني أحد الخطّاطني والفاتح العظيم‪ .‬هذا‬ ‫الفنان‪ ،‬وهو عمر األقطع‪ ،‬ذو اليد الواحدة‪ ،‬وهو نقص مل مينعه من أن يكون خطّاطا بارعا‪ ،‬أنجز‬ ‫فص خاتم وق ّدمها إىل تيمورلنك الذي رفضها‬ ‫نسخة من املصحف برسم‬ ‫مجهري (غرب) وضعها يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫بازدراء‪ .‬وال ّ‬ ‫كل سطر منه مقياس‬ ‫شك أ ّن موقف امللك صدمه؛ فعاد عمر األقطع الحقا مبصحف ّ‬ ‫ذراع ت ّم نقله عىل منت عربة‪ .‬فجاء تيمورلنك‪ ،‬عىل رأس موكب من كبار الشخصيّات‪ ،‬من أجل تسلّم‬ ‫هذه الهدية وأعرب عن ارتياحه‪ .69‬ويف الحقيقة‪ ،‬من الصعب أن نعرف ما إذا نحن أمام املخطوطة‬ ‫التي حظيت بإعجاب تيمورلنك حقّا؛ إذ مل يبق من هذا املصحف‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬سوى بعض املقاطع‬ ‫ينقصها قيد الختام ‪ :colophon‬كام ال ميكن أن نستبعد أنّه كان مث ّة ظاهرة البحث عن التف ّوق يف‬ ‫ربا امتدادا ملا ت ّم كشفه يف اإلنتاج اإللخا ّين‪.‬‬ ‫مجال املصاحف ذات الحجم الكبري‪ّ -‬‬

‫عريب ‪ 707X485( 437‬مم) أو دول ‪ ،Dole‬الخزانة البلديّة ‪ 1‬مك ّرر‬ ‫‪ - 65‬انظر عىل سبيل املثال املخطوطات‪ ،‬باريس‪ :‬املكتبة الوطنيّة‪ّ ،‬‬ ‫(‪ 960‬مم)‪.‬‬ ‫‪66 - Islamic calligraphy/Calligraphie islamique, Genève,1988, p.104-105; D.James, after Timur [The Nasser D.‬‬ ‫‪Khalili collection of Islamic art III], Londres-Oxford 1992, p.18-3; A. Soudavar, Art of the Persian Courts:‬‬ ‫‪Selections from the Art and History Trust Collection, New York,1992, p. 59-62.‬‬ ‫‪ - 67‬املرتجم‪ :‬يف األصل‪ :‬اقرتح علينا أن نتع ّرف‪.‬‬ ‫‪68 - D. James, loc. cit.; A. Soudavar, loc.cit.‬‬ ‫ورسامون‪ ،‬رسالة قايض أحمد‪ ،‬ابن مري مونيش (ح‪1015 .‬ه‪1606/‬م)‪ ،‬ترجمها إىل اإلنجليزية ف‪ .‬مينورسيك ‪V.‬‬ ‫‪ - 69‬قايض أحمد‪ ،‬خطّاطون ّ‬ ‫‪ ،Minorsky‬واشنطن‪ ،1959 ،‬ص‪.64 .‬‬ ‫العدد‬

‫(‪30 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫يطرح هذا املجلّد الضخم‪ ،‬من دون ّ‬ ‫شك‪ ،‬سلسلة من املشاكل التقنيّة‪ .‬أ ّولها مرتبط بصناعة‬ ‫األوراق من حجم ‪ 177X101‬سنتم؛ لقد كان عىل الو ّراقني تجاوز مجموعة من الصعوبات‪ .‬غري‬ ‫أ ّن استعامل املصحف لن يكون باألمر السهل أيضا‪ .‬ويوجد بالفعل‪ ،‬يف باحة مسجد بيبي خانوم‬ ‫يف سمرقند‪« ،‬منربا» أثريّا من حجر يطابق يف أبعاد حجمه أبعاد املخطوطة‪ -‬التي شوهد حضورها‬ ‫ربا برشف استقبالها‪ .‬غري أ ّن القراءة مل‬ ‫يف هذه املدينة بالفعل يف القرن الثامن عرش‪ -‬وقد حظي ّ‬ ‫تكن سهلة عىل اإلطالق‪ :‬لقد ت ّم وضع الكتاب أفق ّيا‪ ،‬عىل ارتفاع مه ّم عن مستوى األرض‪ ،‬وكان‬ ‫النص‪ .‬وهكذا تطرح‬ ‫عىل القارئ املفرتض أن يصعد بضع درجات السلم ليك يكون بإمكانه أن يرى ّ‬ ‫يل الذي انتهت إليه هذه املخطوطات الكبرية الحجم‪ .‬إ ّن مصحف‬ ‫من جديد مسألة املكان الفع ّ‬ ‫عمر األقطع ينبغي أن يثري اإلعجاب والتل ّهف معا‪ :‬يف وقت مبكّر ج ّدا‪ ،‬يعلن قايض أحمد أ ّن‬ ‫صفحات فصلت منه يف القرن السادس عرش‪ .70‬ويبدو أ ّن القرن الثامن عرش يشكّل بداية سلخه‪:‬‬ ‫أثناء الحملة التي قادها ندير شاه يف القرن الثامن عرش عىل تركستان والتي تو ّجت بالسيطرة عىل‬ ‫سمرقند ونهبها‪ ،‬حمل جنود تابعون ألحد إقطاع ّيي منطقة قوشان‪ ،‬شامل رشق إيران‪ ،‬صفحات من‬ ‫ومم ّ‬ ‫الشك‬ ‫مخطوطنا انتهى بعضها إىل مسجد قوشان؛ وقد عاينها مسافر‬ ‫إنجليزي عام ‪1821‬م‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫فيه أ ّن بعضها أخذ من هنا وتابع ترحاله‪.‬‬

‫مامرسات واستعامالت‬

‫إ ّن حجم مصاحف من هذا النوع يجعل منها موضوعات بارزة للعني عىل نحو كبري‪ :‬إنّها تشغل‬ ‫بكل معاين الكلمة‪ .‬من الصعب التعامل مع املخطوط اآلنف‪ ،‬كام تلك املخطوطات‬ ‫دور التمثيل‪ّ ،‬‬ ‫وربا من الصعب قراءتها أيضا؛ غري أنّها ال ميكن أن مت ّر دون أن يالحظها أحد‪.‬‬ ‫املنسوبة إىل عثامن‪ّ ،‬‬ ‫نص الوحي يف حياة الجامعة‪ ،‬ولكن أيضا املكانة التي يحتلّها‬ ‫يتذكّر املؤمنون املكانة التي يحتلّها ّ‬ ‫املت ّربع أو الجهة التي تقوم بذلك‪ .‬ففي الحالة األكرث شيوعا‪ ،‬كانت هذه املصاحف تتشكّل يف الواقع‬ ‫من أمالك الوقف عىل املساجد يف الغالب‪ .‬أوردنا أعاله مثال أمانجور؛ ومصحف املربّية يعكس‬ ‫هذا األمر أيضا‪ :‬أوكلت مربيّة العاهل الزيري املع ّز بن باديس إىل الخطّاط عيل بن أحمد الو ّراق‬ ‫النص‪ ،‬من أجل ضامن إضاءته وتجليد أجزائه‪ -‬مادام األمر يتعلّق هنا أيضا مبصحف‬ ‫مه ّمة نسخ ّ‬ ‫‪71‬‬ ‫يتك ّون من مجلّدات كثرية ‪ .‬وبعد االنتهاء من إعداد النسخة عام ‪410‬هـ‪1020/‬م‪ ،‬كان هذا مبثابة‬ ‫وقف عىل الجامع الكبري يف القريوان وكان الحاجب الد ّرة قد نسخ عقد تسجيل هذا اإليداع‪ .‬يحمي‬

‫‪70 - Ibid.‬‬ ‫‪71-  G. Marçais et L. Poinssot, Objets kairouanais, IXe au xiir siècle..., I,Tunis,. 1948, p. 310-311 et fig. 16.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪31 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫خشبي نحتت عليه عبارة منقوشة تشيد بتقوى املربيّة‪ .72‬وهكذا أصبح‬ ‫املخطوط الثمني صندوق‬ ‫ّ‬ ‫املصحف من أثاث املسجد‪ ،‬فام يجعله بارزا أكرث كون هذا الفضاء ال يحتوي سوى عىل أشياء قليلة‪.‬‬ ‫ويف بعض العصور التاريخ ّية‪ ،‬ارتبطت مخطوطات من القرآن الكريم مبظاهر التقوى التي قد‬ ‫تحتل النسخ التي تربط عادة‬ ‫يجعل منها أهل التقليد موضوع نقاش‪ .‬ويف هذه الحالة أيضا‪ّ ،‬‬ ‫خاصة‪ .‬ففي القرن السادس الهجري‪/‬الثاين عرش امليالدي‪ ،‬وضعت‬ ‫باسم الخليفة عثامن مكانة ّ‬ ‫تلك املخطوطات التي كانت محفوظة يف املسجد الكبري يف دمشق يف خزانة قريبة من املحراب‬ ‫القوي ج ّدا الذي تحظى‬ ‫البرصي‬ ‫الرئييس‪73‬؛ واختيار هذا املوضع يؤكّد ما قلناه أعاله عن الطابع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫به هذه املخطوطات التي تعرض بشكل مقصود من قبل أويل األمر أمام أبصار املؤمنني‪ .‬وم ّرة‬ ‫يل؛ وكان بإمكانهم‪،‬‬ ‫واحدة يف األسبوع‪ ،‬بعد صالة الجمعة‪ ،‬تعرض النسخة الثمينة من أجل التم ّ‬ ‫إذا َ‪ ،‬تقبيلها‪ ،‬يف حني كان بإمكان السلطان البوري‪ ،‬إىل جانب ثلّة من املحظوظني‪ ،‬االطّالع عىل هذه‬ ‫نص الوحي فيها يف ّ‬ ‫مهم عندما يتعلّق األمر‬ ‫النسخة وقراءة ّ‬ ‫كل حني‪ .74‬ويف الحقيقة‪ ،‬كان الرهان ّ‬ ‫مبصحف يعود تاريخه إىل عثامن أو نسخ عنه‪ ،‬أل ّن املخطوط‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬كان يف عالقة شبه‬ ‫مبارشة مع الوحي اإلل ّهي‪ :75‬الب ّد أ ّن بركة هذه املجلّدات كانت تظهر عظيمة يف أعني املؤمنني الذين‬ ‫يحيطونها مبعان عميقة من التبجيل‪ .‬وهذا األمر يشمل أيضا النسخ التي أع ّدت عن نسخ عثامن؛‬ ‫يف بداية القرن السادس الهجري‪/‬الثاين عرش امليالدي‪ ،‬فقد كان الناسخ الذي يعود إىل مسقط‬ ‫‪72 - L. Roy et P. Poinssot, Inscriptions arabes de Kairouan II/1, Paris, 1950, p. 27-33.‬‬ ‫تأخذ هذه الخزانة‪ ،‬التي تتك ّون من صناديق ذات أشكال بسيطة باألساس‪ ،‬صورة بنايات مصغرة أحيانا؛ انظر‬ ‫‪(voir The Anatolian Civilizations III, Istanbul, 1983, p. 116-117, N. E. 19; p. 154-155, N. E. 76 et p. 196-198, N. E.‬‬ ‫‪148, 149 et 151m des XVI et XVII siècles).‬‬ ‫يوجد املسجد أو الرضيح والخزانة يف تناسب ويعكس أحدهام اآلخر‪ ،‬مع الرتكيز عىل قدسيّة املخطوط املحفوظ يف الصندوق‪.‬‬ ‫‪73 - J.-M. Mouton («De quelques reliques conservées à Damas au Moyen Âge, Stratégie politique et religiosité‬‬ ‫‪populaire sous les Bourides», Annales islamologiques 27 (1993), p. 247-254) identifie ce manuscrit avec le coran‬‬ ‫‪Istanbul, TKS HS 32.‬‬ ‫‪74 - J.-M. Mouton, op. cit., p. 251.‬‬ ‫‪ - 75‬نجد وجهة النظر هذه لدى ابن خلدون‪" :‬رسمه الصحابة بخطوطهم‪ ،‬وكانت غري مستحكمة يف اإلجادة[‪]...‬ث ّم اقتفى التابعون‬ ‫من السلف رسمهم فيها ت ّربكا مبا رسمه أصحاب رسول الله صىل الله عليه وسلّم"؛ مقدّمة ابن خلدون‪ ،‬ج‪ ،2 .‬نرشة عبد الله محمد‬ ‫يل‪ ،‬يف حني اعتمد املؤلّف الرتجمة الفرنسيّة؛ انظر‬ ‫الدرويش‪ ،‬دمشق‪ ،2004 ،‬ص‪ .122 .‬املرتجم‪ :‬أوردنا ّ‬ ‫النص العر ّيب األص ّ‬ ‫‪(trad, de V. Monteil, Discours sur l'histoire universelle, al-Muqaddima II, Paris, 1978, p. 850-851).‬‬ ‫العدد‬

‫(‪32 )6‬‬

‫فرانسوا ديروش‬

‫رأسه بنسخة من مصحف عثامن‪ ،‬املحفوظ يف دمشق‪ ،‬يستقبله مواطنوه استقبال األبطال‪ .76‬وألنّه‬ ‫مادي‪ ،‬فللمخطوط القرآ ّين دور يف حياة الجامعة‪ .‬وقد أشار ج‪ .‬م‪ .‬موتون ‪،J.-M. Mouton‬‬ ‫موضوع ّ‬ ‫السوري‪ ،‬إىل دور الوسيط الذي كان يلعبه‪ ،‬عىل غرار قطع أثريّة أخرى‪ ،‬بني‬ ‫يف صدد هذا املثال‬ ‫ّ‬ ‫األمري ذي األصل الرتيكّ وسكان الحارضة‪ .‬وقد نذهب أبعد من ذلك‪ ،‬فنقول‪ :‬مل يقم األمري (األتابك)‬ ‫توغتاكني ‪( Tugtakïn‬حكم بني عامي ‪1128-1104‬م)‪ ،‬الذي عمل عىل نقل املصحف العثام ّين من‬ ‫طربيّا إىل دمشق‪ ،‬بتج ّنب الخطر الذي كان ميثّله الصليب ّيون فحسب‪ ،‬وإنّ ا يك ّرر ما فعله الخليفة‬ ‫يل بشكل أو بآخر؛ وبهذا‪ ،‬يضع نفسه‬ ‫عثامن‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬من خالل إعادة املخطوط إىل مكانه األص ّ‬ ‫يف مساواة رمزيّة‪ ،‬وهو الذي اعتنق اإلسالم حديثا‪ ،‬مع أحد الوجوه الكربى يف اإلسالم يف بداياته‬ ‫األوىل‪ .‬وهكذا‪ ،‬صار املصحف أداة إضفاء الرشعيّة عىل السلطة السياسيّة‪ .‬وقد يأيت لتمثيل هذه‬ ‫الجامعة أو تلك رمزيّا‪ :‬لقد سمحت هذه النسخة‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬ألهل الس ّنة يف دمشق يك يفسحوا‬ ‫مصل يف املدينة‪ .‬أمام تط ّور‬ ‫املجال أمام مصحف من نسخ عيل كان الشيعة الدمشقيّون يب ّجلونه يف ّ‬ ‫الشعبي باملصحف العثام ّين‪ ،‬الذي وضع يف الجامع الكبري‪ ،‬عمد الشيعة بدورهم إىل نقل‬ ‫التعلّق‬ ‫ّ‬ ‫مخطوطهم إىل مشهد عيل املجاور غرفة الصالة يف الجامع الكبري‪ .‬وهذه االنتقاالت ذات الرمزيّة‬ ‫الكبرية تستثمر مبهارة الجانب‬ ‫املادي‪ 77‬للكتاب‪ -‬القرآن‪ .‬إ ّن انخراطه يف حامية املدينة‪ ،‬يف لحظات‬ ‫ّ‬ ‫الخطر الكبري‪ ،‬يعكس األمر نفسه‪ :‬عندما ه ّدد اإلفرنج دمشق‪ ،‬عام ‪1148‬م‪ ،‬وبعدهم املغول عام‬ ‫اإللهي‬ ‫‪1281‬م‪ ،‬أخرج السكان املصحف من املسجد من أجل أن يساعدهم يف الحصول عىل الغوث‬ ‫ّ‬ ‫ض ّد العد ّو‪.78‬‬ ‫إ ّن األوراق العثامنيّة األربع التي يفخر الجامع الكبري يف قرطبة بامتالكها‪ ،‬قد ت ّم وضعها يف وعاء‬ ‫مغري؛ وعندما ت ّم نقلها إىل مراكش يف عهد األمري املو ّحدي عبد‬ ‫يوصف عرضه الفاخر عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫مختصني يف تجليد كتب‪ ،‬ون ّجارين‬ ‫املؤمن‪ ،‬حوايل ‪1158‬م‪ ،‬جمع هذا األخري لجنة من الص ّناع‪ -‬من‬ ‫ّ‬ ‫ومختصني يف الطالء‪ ،‬ومختصني يف صياغة املعادن النفيسة‪ ،‬وغريهم‪-‬‬ ‫مختصني يف األثاث الفاخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪76 - J.-M. Mouton, op. cit., p. 252.‬‬ ‫‪:‬املرتجم ‪77 -‬‬ ‫;‪La matérialité‬‬ ‫لكل سوء فهم محتمل لدى القارئ العر ّيب؛ فث ّمة جانب آخر‪ ،‬وهو األه ّم هو الجانب‬ ‫اخرتنا ترجمة هذه الكلمة بالجانب املادّي تفاديا ّ‬ ‫اإللهي‪.‬‬ ‫غري املادّي‪ ،‬هو كالم الوحي‬ ‫ّ‬ ‫‪78 - J.-M. Mouton, op. cit., p. 253.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪33 )6‬‬

‫استعامالت القرآن بوصفه كتابا مخطوطا‬

‫كلّفوا بتصميم مجلّد نفيس وخزانة من أجل إيواء هذا األثر‪ .79‬وعندما كانت يف قرطبة‪ ،‬مل تكن‬ ‫هذه األوراق موضوع تبجيل فقط مثل ما سبق وصفه‪ ،‬وإنّ ا كانت موضوع طقوس حقيق ّية‪.‬‬ ‫بالفعل‪ ،‬لقد أورد اإلدرييس أنّه أثناء صالة الجمعة‪ ،‬يقوم رجالن بحمل مصحف عثامن يف موكب‬ ‫يسبقه معاون يحمل شمعة‪ ،‬ث ّم يقرأ اإلمام مقطعا من هذا املخطوط‪.80‬‬ ‫مؤسسات دين ّية‪ .‬وقد وهبت‬ ‫ويف مرص اململوك ّية‪ ،‬كان السالطني واألمراء يتنافسون يف تشييد ّ‬ ‫هذه األخرية مخطوطات من القرآن الكريم ت ّم الحفاظ عىل بعضها‪ .‬ويف األغلب‪ ،‬كانت املخطوطات‬ ‫يف مجلّد واحد بحجم مثري لإلعجاب‪ :‬يتجاوز قياس كثري منها املرت يف الطول ويتّسم بإضاءة أكرب‪.‬‬ ‫تق ّدم لنا النصوص التي كتبت يف ذلك العرص‪ ،‬وخصوصا الوقفيّة منها‪ ،‬شهادة فريدة عن كيف‬ ‫كانت تستعمل هذه النسخ يف الشعائر الجامع ّية‪ .‬لقد قصد السلطان اململويكّ برسباي (حكم بني‬ ‫الوقفي‪ ،‬من بني إجراءات أخرى لصالح املدرسة األرشفيّة‪ ،‬مكافأة ق ّراء‬ ‫عامي ‪1438-1422‬م) بعمله‬ ‫ّ‬ ‫مكلّفني بتالوة الجزء‪ ،‬يوم ّيا بعد صالة الظهر‪ ،‬الذي يوزّعه عليهم خادم الربعة‪ :‬كان هذا األخري‬ ‫مكلّفا بحراسة الخزانة التي حفظت فيها مجلّدات املصحف‪ -‬عندما كان هذا األخري يف ثالثني جزء‪.81‬‬ ‫وسيكون من املفيد إجراء بحث أوسع من أجل جمع العنارص الرضوريّة يف كتابة هذا التاريخ‪،‬‬ ‫أي تاريخ املخطوط القرآ ّين‪ ،‬الذي مل يدرس مبا يكفي بعد‪ .82‬ومن دون التنقيص ق ّط من أهم ّية‬ ‫الشفهي‪ ،‬تستهدف مالحظاتنا التذكري باملجهود الكبري الذي بذله املسلمون عىل م ّر العصور‬ ‫النقل‬ ‫ّ‬ ‫لنص الوحي‪ .‬وكام الحظنا‪ ،‬فإ ّن موقفهم إزاء هذه النسخ واستعامالتهم‬ ‫من أجل ضامن نقل كتا ّيب ّ‬ ‫لها اختلفت باختالف الزمان واملكان‪ .‬فقد اختلفت عىل م ّر الزمن‪ ،‬ومن مكان إىل مكان؛ ولكن مل‬ ‫يحدث ق ّط أن خفّت الحامسة التي نسخ بها املؤمنون أو دفعوا بها إىل نسخ القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪79- A. Dessus Lamare, «Le muṣḥaf de la mosquée de Cordoue et son mobilier mécanique», Journal asiatique,‬‬ ‫‪1938, p. 558-561.‬‬ ‫‪80 - A. Dessus Lamare, op. cit., p. 555.‬‬ ‫‪.‬أحمد دراج‪ ،‬حجة وقف األرشف برسباي‪ ،‬القاهرة‪ ،1963 ،‬ص‪81 - 31 .‬‬ ‫العريب‬ ‫‪ - 82‬املرتجم‪ّ :‬ترصفنا يف الرتجمة هنا؛ فامل ّؤلف يقول حرفيّا هنا‪ :‬مل يوجد بعد؛ ونحن اعتمدنا االختيار أعاله تفاديا ّ‬ ‫لكل غموض يف ذهن القارئ ّ‬ ‫بني تاريخ املخطوط ودراسة هذا التاريخ يف سياق هذه الجملة؛ فام مل يوجد بعد ليس هو التاريخ الفع ّيل‪ ،‬بل الكشف عنه ودراسته دراسة علميّة‪.‬‬ ‫كل األعامل األكادمييّة‪ ،‬ولسنا هنا يف‬ ‫ويف الختام‪ ،‬تجدر اإلشارة إىل أ ّن بعض القضايا التي طرحها املؤلّف يف هذه الدراسة فيها نظر‪ ،‬كام ّ‬ ‫وكل رجائنا أن نكون قد وفّقنا يف نقل معانيها إىل لغة الضا ّد بأمانة‪.‬‬ ‫موضع يؤهّلنا ملناقشتها أو التعليق عليها‪ّ .‬‬ ‫العدد‬

‫(‪34 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬

‫*‬

‫تأليف‪ :‬مهدي عز ّيز‬ ‫ترجمة‪ :‬عبد العزيز بومسهويل‬

‫**‬

‫مقدمة‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫املتخصصني الحصيفني يف الشعر‬ ‫ش ّدد رودولف أوجن جيري(‪ )Rudolf Eugen Geyer‬أحد‬ ‫ّ‬ ‫العريب‪ 3‬سنة ‪1908‬م‪ ،‬يف مقال يحمل عنوان (‪ )zur Strophik des Qurans‬عىل الرضورة املل ّحة‬ ‫«كل علم قرآ ّين سيض ّحي‪ ،‬مجربا ً عىل‬ ‫إلنشاء طبعة نقدية للقرآن‪ ،‬وقد كتب‪ ،‬آنذاك‪ ،‬ما يأيت‪ّ :‬‬ ‫يقيني ملدة طويلة‪ ،‬إىل أن تزول الشوائب املتعلقة مبنطلقات ع ّدته األساسية‪:‬‬ ‫االشتغال يف حقلٍ ال‬ ‫ّ‬ ‫بحق ملقتضيات النقد بكيفية متعاونة ومفيدة‪ ،‬وتتوافر عىل‬ ‫طبعة أوروبية للقرآن تغدو مطابقة ّ‬ ‫‪4‬‬ ‫األدوات التاريخيةوالفيلولوجية والطقوسية‪ ،‬ومبا يعتمل يف تاريخ الديانات» ‪ .‬غري أنّه‪ ،‬بعد قرن‬ ‫من الزمان‪ ،‬تفرض املالحظة اآلتية نفسها‪ :‬ال تزال ال توجد أبدا ً طبعة نقدية للقرآن تستجيب‬ ‫*مقدّمة كتاب‪:‬‬ ‫‪Le Coran, Nouvelles approches, par Mehdi Azaiez (Ed.), Sabrina Mervin (collab.), Paris, CNRS Editions,2013.‬‬ ‫‪Pp 13-37.‬‬ ‫**باحث ومرتجم من املغرب‬ ‫‪- 1‬أتقدّم بالشكر إىل األساتذة والباحثني‪ :‬جاكلني الشايب‪ ،‬وكلود جيلو‪ ،‬وصابرينا مريفان‪ ،‬وأسامء هياليل‪ ،‬وجابرييل سعيد رينولد‪،‬ملساهمتهم‬ ‫مبالحظاتهم واقرتاحاتهم‪ .‬أ ّما فيام يتعلق باألخطاء املحتملة يف املقال‪ ،‬فأنا َمن أتحمل مسؤوليتها‪.‬‬ ‫‪2 - Geyer R.E, «Zur Strophik des Qurans», WZKM, 22, (1908), P.286.‬‬ ‫‪ - 3‬رودولف أوجن جيري (‪1861-1929‬م) أستاذ اللغات السامية يف جامعة فيينا‪ .‬وقد تتبع عمل أستاذه دافيد هرنيش مولر (‪1846-‬‬ ‫‪1912‬م) املتعلّق بالبنيات املقطعية يف القرآن‪ .‬وهو‪ ،‬عىل األخص‪ ،‬صاحب أعامل رائدة حول الشعر العريب‪.‬‬ ‫‪(DIE Propheten in inhrer ursprunglichen Form, die Grundgesetze der ursemitichen Poesie erschlossen‬‬ ‫‪und nachgewiesen in Bibel, Keilinschriften und Koran und in ihren Wirkungen erkannt in den Choren der‬‬ ‫‪griechischen Tragodie, Vienne, Aflfred Holder, 1986, p^.20-602). Il .‬‬ ‫‪:- 4‬هكذا ترجم كلود جيليوالنص التايل‬ ‫العدد‬

‫(‪35 )6‬‬

‫ مقاربات جديدة‬:‫القرآن‬

.‫الوضعية مفارقة للغاية لتلك املتعلّقة باألبحاث األكادميية حول التوراة‬،ً‫ بدهيّا‬.‫لفيلولوجيا صارمة‬ ٍ ٍ ‫ مع ظهور طبعة ستوتغارت للعهد‬،‫حواش نقديّة‬ ‫بتعليقات أو‬ ‫ حظي العهد الجديد‬،‫م‬1998 ‫يف‬ ‫) (راجعتها باربارا وكورت‬E) Nestlé ‫) لـ إيبريهارد نيستيل‬Novum Testamentum( 5‫الجديد‬ ‫وقد بقي هذا املرجع خاضعاً للمراجعة‬،))Wurtemberg ‫أالند) عن الجمعية التوراتية لوورمثربغ‬ ‫ وما زال إىل اليوم يُع ّد األداة الخاصة واملفضّ لة‬،‫طيلة القرن العرشين‬ .6‫للمفسين‬ ّ ً‫ ارتكز البحث األكادميي حول القرآن ارتكازا ً واسعا‬،‫بعيدا ً عن طرح تعليقات نقدية مثل هذه‬ .7)‫هـ‬1342 ‫ ذي الحجة‬7 ‫م (املوافق‬1924 ‫ يوليو‬/‫ متوز‬10 ‫عىل طبعة القاهرة الشهرية املنشورةيف‬ ‫ وقد أرشف عىل هذه الطبعة محمد عيل‬.‫نقدي‬ ‫ألي طموح ملرشوع‬ ّ ّ ً‫بناء هذا النص مل يكن حامال‬ ‫ وكان القصد منها توحيد النص القرآين بإعطاء األولوية لقراءة متكّن من تبسيط‬،‫الحسيني الحداد‬ ‫هذه الطبعة كانت وفيّة بش ّدة‬،‫ وكام نعلم‬.‫ وفق أهداف بيداغوجية‬،‫التعليم الديني يف مرص‬

5 - Claude gilliot : “[daB] die gesamte Qurânwissenschaft auf einren sehr unsicheren Boden zu operieren gezwungen ist, so ein Haupterfordernis ihres Apparates fehlt : eine wirklich wissens-chaftliche allen Anforderungen der Kritik entsprechende, mit allem historischen, philologischen, religioswissenschaftlichen und liturgischen Rustzeug, vergleichend und diskursiv augetattete europaische Qurânausgabe. Ohne dies mussen malle Einzelforschungen im Qurân vorlaufig unzusammenhangendes Stuchwerk bleiben » CF. Gilliot C. Kropp M. ed, Results of contemporary research ‫"إعادة بناء نقدي للقرآن أو كيف نقطع مع عجائب مصباح عالء الدين"ورد يف‬ ‫) أنظر أيضا الرتجمة االنجليزية لهذا‬on the Qur an, The Question of a Historio-Critical Text of the Qur,an, p.35 (n°7 The Strophic Structure of the Koran », What the Koran really says, « ‫ يف ابن الوراق للنرش‬Wells G.A ‫االستشهاد عند ويلز‬ .Language, Text, and Commentary, Edited with translations by Ibn Warraq, Amherst, Prometheus Books, 2002, p644 Novum Testamentum Graece. Novum Testamentum Graece Cum apparatu critico ex editionibus et libris manu 4.Wurtteinbergische Bibelanstalt, 1898,p.660 postEbehard et Erwin ‫ أنظر‬.‫م‬1993 ‫ وآخر طبعة مراجعة ومص ّححة ظهرت يف‬،27 ‫ وهي الطبعة الـ‬،‫م‬2007 ‫ ظهرت طبعته األخرية يف‬- 6 Nestle communiter ediderunt Barbara et Kurt Aland… [et al.], apparatum criticum novis curis elaboraverunt Barbara et Kurt Aland una cum Instituto Studiorum Textus Novi Testamenti Monasteriensi Westphaliae. -27e éd. ‫ وباملوازاة مع ذلك يوجد مقابل لها‬.Rev. 9e impression corrigée, Stuttgart, Deutsche Bibelgesellschaft, 1993, 89-812 p .Rudolf Kittel et Paul Kahele‫ بفضل أعامل رودولف كيتل وبول كاهل‬la Biblia Hebraica Stuttgartensia ‫يف العهد القديم مع‬ .C.F.Albin M.W., «Printing The Quràn» EQ, IV, 2004. P272- 7 ‫العدد‬

36 )6(

‫مهدي عز ّيز‬

‫َّ‬ ‫(املتوف يف ‪180‬هـ‪796/‬م) عن عاصم (‪127‬هـ‪745/‬م)‪ .8‬وهكذا‪ ،‬فقد حجبت‬ ‫لـ«قراءة» حفص‬ ‫‪9‬‬ ‫ّ‬ ‫املتخصصني الغربيني بهذا العمل املكتمل‪ ،‬وقد غدا‬ ‫كل القراءات األخرى املتع ّددة‪ .‬ر ّحب أفضل‬ ‫ّ‬ ‫‪10‬‬ ‫برسعة معادالً لطبعة رسميّة للقرآن (‪ )der Amtliche Koran‬؛ فقد انترش بشكل واسع يف العامل‬ ‫يخل من عواقب؛ فتفضيل قراءة واحدة جعل طبعة القاهرة‬ ‫اإلسالمي‪ .‬غري أ ّن هذا النجاح الباهر مل ُ‬ ‫حامل ًة لخطاب تيولوجي قائم عىل وهم (وجود) قرآن وحيد فقط‪ ،‬مثبت عىل صيغة واحدة ال صلة‬ ‫لها بنشأته التاريخية التطورية‪.11‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإذا كان لطبعة القاهرة من غاية ال صل َة لها باالهتاممات الفيلولوجية‪ ،‬فإ ّن طموح‬ ‫كتابة تاريخ للمصحفقد ت ّم التخطيط له بدءا ً من الثالثينيات‪ ،‬وبدافع من ثالثة باحثني مشهورين‬ ‫هم‪ :‬غوتهلف برغسرتارس (‪ ،)Gotthelf Bergstrasser‬وآرثر جيفرى (‪ ،)A. Jeffry‬وأوطو‬ ‫بريتزل(‪ .)Otto Pretzl‬بدأ القرار يف إنشاء تعليقات نقدية استنادا ً عىل عمل منهجي عىل إثر‬ ‫لكل من غوتهلف برغسرتارس‪،‬‬ ‫بحث حصيف يف أقدم املخطوطات املعروفة‪ ،12‬غري أ ّن املوت املبكّر ٍّ‬ ‫وأوطوبريتزل‪ ،‬وضع ح ّدا ًـ لألسف‪ -‬لهذا املرشوع‪.‬‬ ‫واألكرث من هذا أ ّن الهدم (املزعوم) ألرشيفات ميونيخ‪ ،‬إبّان القصف الذي أصابها يف الحرب العاملية‬ ‫الثانية‪ ،‬قد أسهم‪ ،‬بدوره‪ ،‬يف تأخري هذه املبادرة بشكل دائم‪ .‬وقد تأكّد يف الواقع أ ّن هذه األرشيفات‬ ‫ظل ميتلكها أنطون‬ ‫تحتفظ بأفالم تحمل صورا ً مصغرة ملخطوطات قرآنية محفوظة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فقد ّ‬ ‫سبيتالر(‪ )Anton Spitaler‬لعقود من الزمان‪ ،‬من غري أن يتمكّن هذا من استعادة املرشوع‪.‬‬ ‫‪II‬‬ ‫علمي متشبّع بنصوص املصادر‬ ‫يف هذا (الحقل املريب)‪ ،‬ويف غياب طبعة نقدية‪ ،‬وض ّد ّ‬ ‫كل تو ّجه ّ‬ ‫املؤسس‪.‬‬ ‫العربية‪ ،‬ظهرت‪ ،‬منذ السبعينيات‪ ،‬أعامل متع ّددة حول نشأة اإلسالم‪ ،‬وحول كتابه ّ‬ ‫‪.Jeffry A., «Asim», EI2, I, P 706-707 - 8‬‬ ‫ًمهمً من أجل إثبات القراءات السبع املشهورة‪.‬‬ ‫‪ - 9‬بالنسبة إىل هذه القراءة‪ ،‬فقد أدى ابن مجاهد دورا ّ‬ ‫انظر‪CF. Paret R. «Kirà ‘a» EI2, I, P126-128 :‬‬ ‫‪.Bergstrasser G. «Korablesung in Kairo. Miteinem Beitragvon K-Huber» /SL, (20) 1932, P213 - 10‬‬ ‫‪ - 11‬عىل الرغم من دواعي املقاربات التاريخية ـ النقدية‪ ،‬فإ ّن القراءات القرآنية املعارصة تعتمد‪ ،‬خاصةً‪ ،‬عىل هذه الطبعة‪ ،‬كام أشار إىل‬ ‫كل من مانفريدكروب (‪ ،)Kropp‬وريجي بالشري (‪ )Blachère‬يف‪ :‬املدخل إىل القرآن‪ ،‬باريس‪1959 ،‬م‪.‬‬ ‫ذلك ّ‬ ‫‪ - 12‬من أجل وصف دقيق لهذا املرشوع‪،‬انظر‪ :‬جيليو (‪ ،)Gilliot‬وراينولد (‪.)Reynolds‬‬ ‫العدد‬

‫(‪37 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬

‫يجب أن نذكر‪ ،‬هنا‪ ،‬األعامل املميزة لـ‪ :‬ج‪.‬لولنغ (‪ ،)G.luling 1972‬ج‪.‬وانسربو (‪J.Wansbrough‬‬ ‫‪1977‬م)‪ ،‬ب‪ .‬كرون (‪ ،)P.Crone‬م‪.‬كوك (‪ ،)M.Cook 1977‬ي‪.‬دنيفو (‪،)Y.D.Nevo 1982‬‬ ‫وباألخص عمل كريستوف لوكسنربغ ( ‪.)Ch. Luxenberg 2002‬‬ ‫كل منها سواء من خالل أهدافها املحددة‪ ،‬أم‬ ‫تشهد هذه األعامل كلّها (من غري تبخيس لفرادة ّ‬ ‫من خالل مناهجها املعتمدة)‪ 13‬عىل النزعة الريب ّية التاريخية نفسها‪،‬التي ظهرت منذ نهاية القرن‬ ‫التاسع عرش مع غولدزيهر (‪ ،)Goldziher‬والمنس (‪ )Lammens‬و كيتاين(‪ .)Caetani‬وحيث إ ّن‬ ‫مؤسساً ومق ّدساً يف أصوله‪ ،‬فإ ّن هؤالء الباحثني‪ ،‬وقد انخرطوا يف مه ّمة‬ ‫املذهب اإلسالمي بنى نصاً ّ‬ ‫فهام للقرآن ليس بناء عىل معيار‬ ‫«املراجعني»‪ ،14‬بذلوا جهدهم لكتابة تاريخ مغاير متاماً‪ .‬فقد اقرتحوا ً‬ ‫املعطيات السرييّة لحياة محمد‪ ،‬أو عىل اآلداب التفسريية؛ بل انطالقاً من تو ّجهني مهيمنني‪ :‬األول‬ ‫مستوحى من الفيلولوجيا‪ ،‬واآلخر من التحليل األديب‪ .‬وقد تابعوا فرضيّتني مضادتني للتقليد اإليقوين‬ ‫(‪ ،)Iconoclastes‬بالنظر إىل التقليد اإلسالمي؛األوىل لـ غونرت لولنغ‪ ،‬والثانية لـ جون فانسربوغ‬ ‫للنص‬ ‫(‪ ،)Wansbroug‬تفرتض األوىل وجود قرآن ـ أ ّويل (أصيل) (‪ .15)Ur-Koran‬وهكذا‪ ،‬فإ ّن ّ‬ ‫املؤسس لإلسالم صيغ ًة أ ّولية تنحدر من الرتاتيل املسيحية قبل اإلسالم‪ .16‬إ ّن األطروحة‪ ،‬التي ق ّدمها‬ ‫غونرت لولنغ (‪ ،)Luling‬قد سلكها بطريقته الخاصة كريستوف لوكسنربغ‪ ،‬الذي أكد التأثري الحاسم‬ ‫‪- 13‬من أجل إيضاح وجهة النظر حول هذه األسئلة‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪.Bowering G, Recent Recherch on the construction of Quràn» in The Qur’àn in ites Historical contexte op. cit. P70-870‬‬ ‫‪.Amir Moezzima M.A «AU Tour de l’histoire de la redaction du Coran. Rome, Bradley conférence (Pisai) 21 Mai 2010‬‬ ‫‪Korenj et Nevod.y «Methodological Approaches To Islam Studies» Isl, LXVIII (1991). P87-107, in Ibn Warraq -  14‬‬ ‫‪.(éd), The quest for the Historical Muhammad, Amherst, Prometheus 2000. P422-426‬‬ ‫‪15 - Luling G. Die Weiderentde chung des Propheten Muhammed. Eine Kritik an «christlichen» Abendland,‬‬ ‫‪Erlangen. H. Luling, 1981, P119.‬‬ ‫‪ - 16‬انظر‪ ،‬يف هذا الصدد‪:‬‬ ‫»‪-Gilliot .C. «Deux études sur le Coran», Arabica 30/1 (1993), P1-37, Id «Ginter Luling, Uber den Urkoran‬‬ ‫‪REMM, 70 (1993), P142-143.‬‬ ‫كام أنّألفونس مينغانا (‪ )Mingana‬أشار إىل تأثري اللغة الرسيانية‪ ،‬سنة ‪1927‬م‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫‪«Syriac influence on The style of The Koran» B JRL, 11 (1927),P77.‬‬ ‫وهذا النص موجود عىل اإلنرتنت يف املوقع اآليت‪:‬‬ ‫‪http://www.answering-islam.org/Books/Minganal/influence/index.htm‬‬ ‫العدد‬

‫(‪38 )6‬‬

‫مهدي عز ّيز‬

‫للطقوس الرسيانية‪ .‬أ ّما األطروحة األخرى‪ ،‬فإنها مختلفة جدا ً عن األطروحة األوىل‪ ،‬فهي تَع ّد القرآن‬ ‫تأسس ككتابة رشعية ألكرث من قرنني بعد وفاة محمد‪ .‬ونعلم أ ّن هذه‬ ‫مي‪ ،‬وقد ّ‬ ‫هدفاً لتكوين تق ّد ّ‬ ‫املقاربة األخرية قد استلهمت الفرضيات الجريئة لباتريسيا كرون (‪ ،)Patricia Crone‬وميكائيل‬ ‫كوك (‪ .17)Michael Cook‬وقد أكد نيفو أ ّن هذه األطروحات ُاملنحدرة عن األبحاث النقوشية‬ ‫(‪ ،18)épigraphiques‬واألعامل املنبعثة من مبادرات فردية‪ ،‬قد أثارت نوعاً من االرتباك؛ بل نوعاً‬ ‫من العدوانية النشيطة‪ .19‬واألكرث من ذلك أ ّن الخالفات املتع ّددة واملتباينة‪ ،‬التي تدور حول نشأة‬ ‫وتاريخ القرآن‪ ،‬قد قادت عددا ً من املتخصصني إىل الوقوف عىل حالة (التشويش)‪20‬و(األزمة)‪ 21‬أو‬ ‫(الفوىض)‪ ،)hoffnungstoseschos( 22‬التي توجد عليها الدراسات القرآنية املعارصة‪ .‬وعىل الرغم‬ ‫من هذه الوضعيّة‪ ،‬فقد شهد هذا العقد األخري تجديدا ً حقيقياً للدراسات القرآنية املعارصة‪ ،‬التي‬ ‫هي عىل أهبة أن تصري شأناً جليالً لإلسالمولوجيا املعارصة‪ .‬تتجىل هذه الحيوية يف البحوث‪،‬من‬ ‫خالل هذا االرتفاع ّ‬ ‫الدال للمنشورات العديدة‪ ،23‬ويف األطروحات‪ ،24‬وامللتقيات الدراسية‪،25‬‬ ‫‪17 -Crone. P. et Cook M.A, Hagarism, The Making of The Islam World, Cambridge University, Presss, 1977.‬‬ ‫‪18 - Nevo. Y. D et koren J. crosskoads to Islam, The origins of the Arab Religion and the arab States, Amherst,‬‬ ‫‪Newyork. Prometheus Books 2003. P 340.‬‬ ‫‪19 -Burgmerc. Ed, Streit um den koran, Die Luxenberg-Debatte: Stand punkte und Huntergrunde. (Controvese‬‬ ‫‪autour du coran. Le débat autour de Luxenberg: point de vue et perspectives) Berlin, Hans Schiler 2005,P152.‬‬ ‫‪ Donner F.M, «The Quran in recent scholarship, challenges and desiserata» in The Quran in its historical‬ـ ‪20‬‬ ‫‪contexte. London. Routledge, 2008, P29.‬‬ ‫‪21 - Reynolds G.S «The Crisis of Quranic studus» The Quran and its Bilical subtext, london Rout Ledge, 2010, P 3-36.‬‬ ‫‪.Id. introduction» The Quran in Historical context Op. Cit. P18 - 22‬‬ ‫مجسدا ًآثارها‪.‬انظر‪:‬‬ ‫‪ - 23‬ال شك يف أ ّن نرش كتاب كريستوف لوكسنربغ يُع ّد ّ‬ ‫‪- Lusenberg Christhof, Die syro-aramaische Lesart des Koran Ein Beitrag zur Entschlusselung der Korans‬‬ ‫‪prache. Berlin, Verlattans. Schiler, 2004, P 351.‬‬ ‫‪ 24‬ـ انظر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كتابنا حول األطروحات املتخصصة يف القرآن يف فرنسا منذ السبعينيات‪.‬‬ ‫‪- Azaiez.M. «Les thèses consacrées au coran en France depuis les années soixante-dix. Une note biographique»,‬‬ ‫‪Arabica, 56 (2009), P107-111.‬‬ ‫‪ - 25‬يف سنة ‪ 2009‬وحدها أحصينا عىل األقل أربعة ملتقيات دولية مختصة بالقرآن‪ ،‬نذكر منها‪ ،‬ملتقى جامعة نوتردام يف أبريل ‪،2009‬‬ ‫وجامعة ستانفورد (يوليو ‪ .)2009‬وجامعة ‪ SOAS‬يف نوفمرب ‪ 2009‬ومبعهد ‪ EHESS‬يف نوفمرب ‪ ،2009‬وهو أصل هذا العمل الذي‬ ‫اشتغلت عليه‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪39 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬ ‫‪26‬‬ ‫املتخصصة يف القرآن‪ .‬وبدافع تجديد املصادر ومنهجيات التحليل‪ ،‬تتوخّى‬ ‫ومشاريع الدراسات‬ ‫ّ‬ ‫هذه الع ّدة إثارة نقاش ذي طبيعة هرمينوطيقية‪ ،‬وإعادة تحديد اإلشكاليات الجديدة ومنظورات‬ ‫البحث‪.‬‬

‫‪III‬‬ ‫تتأسس االنطالقة الجديدة للدراسات القرآنية عىل توسيع املصادر البارزة‪ ،‬سواء كانت‬ ‫أقل تقدير‪ .‬ومنذ اكتشاف مخطوطة للقرآن‪ ،‬يف ‪1973‬م‪،‬‬ ‫مخطوطات أم منقوشات‪ ،‬أو حفريات عىل ّ‬ ‫يف سقف املسجد الكبري يف صنعاء‪ ،‬متكّن الباحثون من التوافر عىل ع ّدة مثينة‪ .‬فإذا مل تظهر‪ ،‬بع ُد‪،‬‬ ‫‪27‬‬ ‫تبي‪ ،‬بكيفية ال جدال فيها‪،‬‬ ‫طبعة كاملة‪ ،‬فإ ّن بعض الدراسات املبادرة‪ ،‬مع كونها معزولة ‪ّ ،‬‬ ‫أقدمية هذه املصادر‪ .28‬وبالتوازي مع هذا االستثامر ملخطوطات صنعاء‪ ،‬يجب أن نضيف إىل‬ ‫ذلك إعادة اكتشاف أفالم مصغّرة تتض ّمن صورا ً فوتوغرافية ملخطوطات قرآنية قدمية أخرجها‬ ‫برسرتارس (‪ .)Bergstrasser‬وحسب كلود جيليو (‪«،)Gilliot‬فإ ّن ‪ 9000‬صورة ملخطوطات قدمية‪،‬‬ ‫وما يقارب ‪ 1100‬صورة ملخطوطات لكتب القرون الخمسة الهجرية األوىل حول اآلداب القرآنية‪،‬‬ ‫قد ت ّم تجميعها من قبل لجنة القرآن يف أكادميية العلوم البافارية»‪ .29‬وكانيمتلكهاأنطون سيتالر‬ ‫(‪ ،)Spitalr‬ويف عهدة السيدة إنجليكا نويرت (‪ ،)Neuwirth‬وهي‪ ،‬اآلن‪ ،‬تستثمر يف إطار مرشوع‬ ‫(‪ )corpus coranicum‬الذي تديره هذه األخرية‪.30‬‬

‫‪ - 26‬من بني هذه املرشوعات‪ ،‬نذكر املدونة القرآنية تنسيق أنجليكا نويرت ‪ Neuwirth‬بربلني‪ ،‬ومرشوع ‪ Inarah‬الذي يديره كارل‬ ‫هينز أو هليع ‪ Ohlig‬بساربروغ ‪ Sarrebruck‬ومبادرات قسم "الدراسات القرآنية" التي يرشف عليها عمر عيل مبعهد الدراسات‬ ‫اإلسالمية بلندن‪ .‬ويجب أن نذكر أيضاً مرشوع غابرييل َسعيد رينولد ومهدي الزايز املوسوم بـ "‪ "Quran Siminal‬بجامعة نوتردام‬ ‫(إنديانا‪ ،‬الواليات املتحدة األمريكية)‪ .‬وهذا املرشوع تحت رعاية جمعية جديدة (‪IQSA) (international Quranic Studies‬‬ ‫‪.)Association‬‬ ‫‪27 -HILALI A, Le Palimpseste de San à et la canonisation du coran: Nouveaux éléments. Cahiers Gustave Glotz‬‬ ‫‪21 (2011), P 443-448.‬‬ ‫‪ - 28‬أهمية املخطوطات القدمية للقرآن ترجع إىل بدايات القرن‪ ،‬مع مانكانا (‪ ،)Mingana‬ولويس (‪ .)Lewis A.S‬انظر‪:‬‬ ‫‪The origins of Koran, classic Essays on islam’s Holy Amherst, Promethens Books 1988,P 76-96.‬‬ ‫‪29 - Cf. Supra n-12 Gilliot C. «Origine et Fixation du texte coranique», P643.‬‬ ‫‪30 - Ibid. P 643.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪40 )6‬‬

‫مهدي عز ّيز‬

‫أخريا ً‪ ،‬الب ّد من التذكري بأ ّن نرش املخطوطات املحفوظة‪ ،‬واستعاملها بأسلوب جديد‪،‬قد ت ّم‪،‬‬ ‫هذه امل ّرة‪ ،‬يف كربيات املكتبات األوروبية‪ ،‬من خالل مرشوع عامري (‪31)Amari‬خاصةً‪ .‬من بني‬ ‫النامذج األكرث وضوحاً لهذا االستعامل للمخطوطات‪،‬إعادة إنشاء فرنسوا ديغوش (‪)F. Deroche‬‬ ‫خاصة يف مجموعتني‬ ‫مجمعاً يُس ّمى (‪ ،32)Parisiono-Petropolitanus‬الذي جمع نسخاً متفرقة ّ‬ ‫عا ّمتني؛ إحداهام يف باريس‪ ،‬واألخرى يف سانت بيرتسبورغ‪ .‬يكشف هذا املخطوط (‪ 28‬لوحة)‪،‬‬ ‫الذي يرجع تاريخه الحقيقي إىل القرن األول الهجري‪ ،‬عن حالة النص األ ّويل للقرآن (الرسم اإلماليئ‬ ‫والخصوصيّات النصيّة)‪ ،‬وعن الظروف‪ ،‬التي تشكلت فيها الصيغة القرآنية‪ .‬يتوخّى هذا العمل‬ ‫أن يربهن عىل ضعف املواقف املدافعة عن فكرة إنشاء متأخّر للقرآن‪ .‬وعىل العكس‪،‬املؤلف‬ ‫يدافع عن كون املنت القرآين قد متّت كتابته برسعة بعد موت مح ّمد‪ ،‬ويؤكد الدور الحاسم للنقل‬ ‫الشفهي‪.‬‬ ‫هذا التجديد للمصادر ال يقترص‪ ،‬فحسب‪ ،‬عىل املخطوطات القرآنية‪ ،‬كام أنّ استعامل‬ ‫املؤلفات املعروفة واملجهولة عن التقليد اإلسالمي‪ ،‬إىل ح ّد ما‪ ،‬يؤكّد أهميتها يف رسم تاريخ‬ ‫املخصصة لل َمذهب الشيعي‪ .‬يف هذا‬ ‫القرآن‪ .‬نفكّر‪ ،‬خاصة‪ ،‬يف أعامل أمري ُمع ّز(‪)Amir Moezzi‬‬ ‫ّ‬ ‫العمل الجديد‪ ،33‬يستكمل املؤلف معرفتنا بسياق نشأة املصادر القرآنية لإلسالم اعتامدا ً عىل‬ ‫اختبار مح ّدد لثالثة كتب غري معروفة عن التش ّيع القديم‪ .34‬كام يبني‪ ،‬أيضاً‪،‬أنّ كتابة القرآن مل‬ ‫تنفصل قط عن السياق الجدايل والنزاعات الحربية‪ .‬وباملثل فإنّ إغراء املصادر الخارجة عن‬

‫‪ - 31‬بخصوص مرشوع عامري‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Fedeli A «Early evisances of variant readings in Quranic manuscripts» dans K. Ohlig. G.R. Puin (ed) The‬‬ ‫‪Hidden origins of islam, New Recherch into Early History New York, Promethens Books, 2009. P328 [N°25].‬‬ ‫‪32 - Deroche. F, La transmission écrite du coran dans les débuts de l’islam, Le Codex parisino-petropolitanus.‬‬ ‫‪Leiden, Brill, 2009, P640.‬‬ ‫‪33 - Amir-Moezzi M.A, Le coran Silencieux et le coran parlant, sources scripturaires de l’islam entre histoire et‬‬ ‫‪ferveur, Paris CNRS éditions, 2011, P 268‬‬ ‫‪ - 34‬يهتم هذا العمل باملؤلفات اآلتية‪ :‬كتاب سليامن ب‪ .‬قيس حول الفتنة التي تلت موت النبي‪ .‬كتاب (القراءات) لصاحبه (‪aL-‬‬ ‫‪( )Sayyàri‬بداية القرن الثالث) حول تحريف الصيغة العثامنية‪ .‬تفسري الحباري (‪( )aL – Hibari‬أواسط القرن الثالث) حول رضورة‬ ‫الهرمينوطيقا‪ ،‬ونشأة الباطنية الشيعية‪ .‬كتاب (بصائر الدرجات) للصفار القمي‪ .‬وأخريا ً مجمع املذاهب للقليني (‪( )aL-Kulayni‬أواسط‬ ‫القرن الرابع)‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪41 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬

‫التقليد اإلسالمي‪ ،‬هذه امل ّرة‪ ،‬تقود إىل التنويع؛ بل إىل وضع نصوص التقليد موضع مساءلة‪.35‬‬ ‫إىل جانب هذا العمل حول املخطوطات األوىل‪ ،‬فإنّ البحث والتنقيب األركيولوجي يف شبه‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬عىل الرغم من كونه حديث العهد‪ ،‬وإقصائه ملنطقة الحجاز ونواحيها‪،36‬مينح‬ ‫املؤرخ معطيات من الطراز األول من أجل فهم سياق ظهور اإلسالم‪ .‬وقد كشفت التنقيبات‬ ‫يف قرية الفاو (‪aLFàW) (1970‬م) عن اخرتاق التيار الهيليني ألرض العرب‪ .37‬مثة اكتشافات‬ ‫أي مدى استفاد هذا املناخ الجغرايف من ثراء‬ ‫أخرى عىل إثر تنقيبات يف اليمن قد كشفت إىل ّ‬ ‫الحارات املتعاقبة منذ العصور القدمية‪ .38‬غري أنه مع انتشار االكتشافات املتعلقة بالنقوش‬ ‫الكتابية‪ ،‬كانت النتائج باهرة من غري شك‪ .‬تع ّرفنا آالف النقوش (التقييدات) بالوضع ّية اللسانية‬ ‫والسياسية والدينية واالقتصادية‪ ،‬التي سادت ألكرث من ألفيّتني ونصف من الزمان‪ .‬وعدد من‬ ‫هذه املنقوشات تسمح بكشف بعض املظاهر األصلية للزمان األول لإلسالم‪ ،‬والسيام ما سامه‬ ‫فريدريك إمربت (‪ )F.Imbert‬بصيغة فرحة‪« :‬قرآن الحجر»‪ .39‬يف مواجهة هذه املصادر الجديدة‪،‬‬ ‫وتطور العلوم اإلنسانية‪ ،‬يستعني املتخصصون مبناهج التحليل‪ ،‬وبتقنيات ومفاهيم نظرية غري‬ ‫مسبوقة أحياناً‪ .‬وهكذا‪ ،‬يقتيض تجديد الدراسات القرآنية يف الحركة نفسها تطويرا ً لالستعامالت‬ ‫واألدوات امليتودولوجية‪.‬‬

‫‪35 -Prémare A-L. des les fondations de l’islam, Entre écriture et histoire, Paris, seuil, 2002. P25-27.‬‬ ‫‪36 - Shick. R. «archeology and The Quran». E.Q.I.P 148.‬‬ ‫‪37 - Ansari –AL Tayyib. Abdol- Rahman, Qaryat aL-Faw, A Portait of pré-islamic civilisation in sandi-Arabia,‬‬ ‫‪aL-Riyad, 1982, P13-30.‬‬ ‫انظر‪ ،‬أيضاً‪:‬‬ ‫‪Cheddadi A. les Arabes et l’appropriation de l’histoire, émergence et premiers développement de‬‬ ‫‪l’historiographie musulmane jusqu’au 2e/8e siècle, Paris, sindibad Actes sud, 2004, P 30.‬‬ ‫‪ - 38‬مكّن عرض جديد مبتحف اللوفر عنوانه‪( :‬طرق العربية ـ كنوز أركيولوجية للمملكة العربية السعودية) (من ‪ 16‬متوز‪ /‬يوليو إىل ‪27‬‬ ‫أيلول‪ /‬سبتمرب ‪2010‬م) من «إعطاء نبذة بانورامية غري مسبوقة عن مختلف الثقافات التي تعاقبت عىل األرض العربية (السعودية) منذ‬ ‫ما قبل التاريخ إىل بزوغ العامل الحديث»‪.‬‬ ‫‪C.F. Routes d’Arabie, archéologie et histoire du royaume d’Arabie Saoudite, sous la direction d’Al Ghabban A.I,‬‬ ‫‪et André Salvini B, Paris, Musée du Louvre/ Somogy, 2010,P 633.‬‬ ‫‪39 -C.F Imbert. F «Le coran dans les graffiti des deux premiers siècles de l’histoire», Arabica 47/3-4 (2000),‬‬ ‫‪P381-390.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪42 )6‬‬

‫مهدي عز ّيز‬

‫يحتل علم القنانة (‪ )codicologie‬مكانة رفيعة من الطراز األول‪.‬‬ ‫من بني املناهج املستعملة‪ّ ،‬‬ ‫لهذه الطريقة‪ ،‬كام نعلم‪ ،‬هدف يتمثّل يف ّ‬ ‫فك الشفرات (قراءة الخطوط الغامضة)‪ ،‬وتقرير‬ ‫الخربة (تحديد زمن الخطوط‪ ،‬ومكانها‪ ،‬وتطورها)‪ .‬إنّه يتضمن دراسات عن مختلف مناذج الكتابة‬ ‫املستعملة‪ ،‬وعن تك ّونها وتطورها وانتشارها‪ .‬كام يهدف‪ ،‬أيضاً‪،‬إىل تحليل أدوات وتقنيات الصنع‪،‬‬ ‫ودراسة سريورة انتقال النصوص ومراكز النسخ‪ ،‬ودراسة مجلدات املخطوطات يف املكتبات‪.40‬‬ ‫وعالوة عىل هذا‪ ،‬استعامل الكربون ‪ 14‬لتحديد الزمان‪ ،‬وتقنية التصوير الفوتوغرايف باألشعة ما فوق‬ ‫البنفسجية‪ ،‬يغدو‪ ،‬يف الظاهر‪ ،‬أكرث جدوى‪ .‬أ ّما املثال الواضح إلسهام املنهج الكوديكولوجي املستعمل‪،‬‬ ‫فهو املؤلف الجديد لدافيد‪ .‬س‪ .‬بوير (‪.)DVID.S.Power‬يتساءل املؤلف‪،‬فيهذاالكتاب‪،‬عن داللة‬ ‫املصطلح الغامض(الكاللة)(‪ )Kalàla‬املذكور م ّرتني يف القرآن‪ ،‬أوالً يف القرآن ‪ ،4 ،12‬ومرة ثانية يف‬ ‫حل هذه املعضلة باالستناد عىل فحص مخطوط للقرآن يف املكتبة الوطنية‬ ‫‪ .176،4‬وقد اقرتح ّ‬ ‫يف فرنسا ‪328‬أ‪ ،‬وهو مكتوب بالخط الحجازي (يف النصف الثاين من القرن األول الهجري)‪ .‬يشري‬ ‫تحليل قراءة النصوص القدمية (‪ ،)paléographique‬وتفكيك الخطوط (‪)codicologique‬إىل أ ّن‬ ‫هيكل َصوامت (‪ )consonantique‬القرآن‪ ،4،12 ،‬قد متّت مراجعته‪ ،‬إىل حد أ ّن معنى الكلمة‬ ‫واآلية قد تع ّرض لتغيري جذري‪ .‬هذا التعديل سيت ّم تفسريه بقصد يروم توضيح آية غري مكتملة‬ ‫يف األصل تعالج قواعد اإلرث (اآليتان ‪ 12-11‬من سورة النساء)‪ .‬وهذه املشكلة ت ّم حلّها بزيادة‬ ‫الترشيع التام يف نهاية السورة‪،‬التي غدت حالياً قرآناً ‪ ،4،176‬اآلية الثانية‪،‬التي ظهرت فيها كلمة‬ ‫‪41‬‬ ‫أي مدى يحمل التحليل التشفريي للخطوط مساهمة حاسمة‬ ‫كاللة (‪ . )Kalàla‬وهنا‪ ،‬نفهم إىل ّ‬ ‫يف تاريخ النص القرآين‪.‬‬ ‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬يسمح تق ّدم معرفتنا بالتوثيق التاريخي‪ ،‬ومستندات التحليل البنيوي‪،‬‬ ‫‪42‬‬ ‫امني‪.‬‬ ‫باملوازاة‪ ،‬بتأ ّمل الفرادة الشكلية والرتكيبية للقرآن ليس املنظورهنا تعاقبيّاً؛ بل هو تز ّ‬

‫‪ - 40‬من بني املتخصصني يف هذه املناهج‪ ،‬نذكّر باألعامل املشهورة لهانس كاسبار بومثر (‪ ،)Hans Caspar Bothmer‬فرانسوا ديروش (‪F.‬‬ ‫‪ ،)Deroche‬وألبا فديل (‪،)A. Fedeli‬وسريجيو نوجا نوسيدا (‪ ،)S.N Noseda‬وأالن جورج‪ ،‬وأسامء هيالين‪ ،‬وجريد بوين (‪،)G.R .puin‬‬ ‫وبيهنام صديقي (‪ ،)Behnam Sadeghi‬وكيث سامل (‪ ،)Keith Small‬وأخريا ً ريزفان (‪.)Rezvan‬‬ ‫‪41 -Id. «Paleography and codicology Bibliothèque National de France, Arabe 328 a» Mohammad Isnot The‬‬ ‫‪Father of Anyofyour men. Op. cit. P155-196.‬‬ ‫)‪42 - Boisliveau A-S. «Etat des lieux des approche du coran. Les approche littéraires» in Zwilling A-L (ed‬‬ ‫‪tire et interpréter. Le rapport des religions à leur textes fondateur. Genève. Labor et Fides 2013, P151-161.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪43 )6‬‬

‫ مقاربات جديدة‬:‫القرآن‬

،45)‫ والسيامنطيقية (الداللية‬،44‫ والرسدية‬،43‫فعدد من األعامل قد طبّقت املناهج السيميائية‬ ‫ فإ ّن السورة الثانية عرشة (يوسف) غدت موضوعاً لدراسات إيحائية عىل‬،‫؛ولهذا‬46‫والبالغية‬ ‫ وقد أسهم إدخال مناهج التحليل يف استخدام املفاهيم املنحدرة عن تحليل الخطاب‬.47‫الخصوص‬ ‫ مثل‬،‫األديب‬ ‫النصية‬ ّ ‫ وعربـ‬،48)interxtualité( ‫التناصية‬ ّ ّ ‫ أو ما بعد‬،49)intratextualité(‫النصية‬ 50 . )métatextualité(

43 - El Yagoubi Bouderrao M. Sémiotique de la sourate al A’raf (discours coranique et discours exégétique classique), Paris III, 1989, 2. Vols,P 609. 44 - Laroussi G, Narrativité et production de sens dans le texte coranique, le récit de Joseph, Paris, EHESS, 1977, p 293. 45 -Izutsu T. God ans man in the Koran, New York, Books for libraries, «Islam»/ «Studies in the humanities and social relations. – Tokyo: The Keio institue of cultural and linguistic studies; v.5», 1980, 1er éd. 1964, p 242. Madigan D.A. the Qur’ân’s self image: writing and authority in Islam’s scripture, Princeton, Princeton University Press, 2001, XV + p 236. 46 -Cuypers M. Le Festin, une lecture de la sourate al-Mâ’ida, Paris, Lethielleux, 2007, IV + p 453. :‫ إىل األعامل اآلتية‬،‫ هنا‬،‫ ميكن أن نشري‬- 47 Berque J. «Yusuf ou la sourate sémiotique», Mélanges Greimas, tome II, Amsterdam, J.Benjamins, 1985, p.847 sq.; Laroussi G. Narrativité et production de sens dans le texte coranique: le récit de Joseph, Paris, HESS, 1977, p 293. Prémare A. L. de, Joseph et Muhammad, le chapitre 12 du Coran: étude textuelle, Aix-en Provence, Publication de l’Université de Provence, 1989, p 193. Cuypers M. Structures rhétoriques dans le Coran. Une analyse structurelle de la sourate «Joseph» et de quelques sourates brèves. MIDEO 22 (1995), p 107-195. ‫ ال تشري التناصية إىل جمع ملتبس وغامض للمؤثرات؛ بل هي عمل تحوييل ومتاثيل‬:‫) التناصية بالطريقة اآلتية‬Jenny( ‫ يحدد لوران جيني‬- 48 .‫م‬27-1976 ‫ العدد‬،)Poétique( ‫ مجلة‬،‫ اسرتاتيجية الشكل‬،‫انظر جيني‬.‫نص مركزي يحتفظ باملعنى الرئيس‬ ّ ‫ملختلف النصوص املستخدمة من قبل‬ :‫انظر تودورف‬.‫ مفهوم عرب النصية ميكن تحديده باعتباره بناء لعالقة ملفوظ مع ملفوظ آخر ينتمي إىل السياق نفسه‬- 49 Todorove T, Symbolisme et interprétation, Paris, Senil, 1978. P28. 50 - MC Autiffe J.D, «introduction» The canbridge companion to The Qur’an. Edited by pammen MC Auliffe, cambridge university press, 2006, P2-4. .‫املخصصة لهذا املوضوع‬ ّ )Boisliveau( ‫ خاص ًة أطروحة الدكتوراه آلن سيلفي بواسليفو‬،‫ التي أنجزها مهدي الزايز لهذا العمل‬،‫ الببليوغرافيا‬،‫ كذلك‬،‫انظر‬ ‫العدد‬

44 )6(

‫مهدي عز ّيز‬

‫وعىل سبيل املثال‪ ،‬فالتحليل البالغي‪ ،‬الذي قام به الباحث ميشيل سيبريس (‪،)Cuypers‬‬ ‫يستعني‪ ،‬متاماً‪ ،‬بخطة تح ّرك مشاعر القارئ لألبعاد العالئقية للنص؛ يف حيويته الداخلية (عرب ـ‬ ‫(التناصية)‪ .‬فالباحث‪ ،‬وهو مهت ّم بنظام ومستوى الخطاب‪،‬‬ ‫النصية)‪ ،‬كام يف حيويته الخارجية‬ ‫ّ‬ ‫‪51‬‬ ‫قد ط ّبق التحليل البالغي‪ ،‬الذي تنحدر منهج ّيته عن الدراسات التوراتية‪ ،‬عىل سورة املائدة ‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فقد أوضح واقعتني رئيستني‪ :‬أوالً أ ّن خطاب السورة مييض عىل هيئة الوصايا‪،‬وتستند‬ ‫هذه املالحظة عىل عدد من التذكريات التوراتية (االعتصام بالله‪ ،‬تفسري األجناس الترشيعية‬ ‫والرسدية‪ ،‬األمر بطاعة الرشع‪ ،)...‬التي تشخص السورة‪ ،‬والتي ال ترتك أدىن ّ‬ ‫شك يف خلفيّة نواتها‪.‬‬ ‫وثانياً‪ ،‬توجد مقاطع اسرتاتيجية وضعت بالغياً يف املركز‪ ،‬وهي مميزة برسالتها الكونية‪ .‬وهذا‬ ‫التمركز‪ ،‬الذي يتعارض مع مقاطع أخرى موضوعة بالغياً يف السطح‪ ،‬يجعلها «بارزة بقوة ومينحها‬ ‫أهمية خاصة [‪ ]...‬يبدو أ ّن لها قيمة أولية من أجل تفسري مجموع اآليات املفصلة املحيطة‬ ‫بها»‪ .52‬يستخلص املؤلف‪ ،‬عىل املستوى األخالقي والكيل لهذه املقاطع (تسع آيات)‪ ،‬التي تضع‬ ‫فصالً قاطعاً مع الطابع املحدود والسجايل‪ ،‬غالباً يف ما تبقّى من السورة‪ .‬هذه املقاربة التزامنية‪،‬‬ ‫نص التلقي‪ .‬إنّها تتعارض بدهيّاً مع املقاربة التعاقبية الوفيّة‬ ‫كام يشهد املنهج‪ ،‬تستند خاص ًة عىل ّ‬ ‫للمنهج التاريخي ـ النقدي‪ ،‬وهذا االختالف يولد إعادة تقويم لسؤال املعنى املتضمن‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫للتساؤل الهرمينوطيقي‪.‬‬ ‫ميّز دانيال ماديغان (‪ )D. Madigan‬يف مدخل كتاب(‪The Quràn in The Hshistorical‬‬ ‫‪ )context‬بني تو ّجهني للنقد القرآين‪ :‬األول هو املقاربة التاريخية النقدية التي ترى أنّه من‬ ‫املمكن العثور عىل املعنى األويل‪ ،‬وكذلك مقاصد كاتب أو كتاب القرآن (‪،)mens auctoris‬‬ ‫يف حني أنّ املقاربة الثانية ت ُدافع عن فكرة مفادها أنّ التفسري ليس ممكناً إال عرب تجمعات‬ ‫كل عرص‪ ،‬قراءة وداللة القرآن بوصفه نصاً‬ ‫املؤمنني (‪ ،)mens Lectoris‬التي تحني‪ ،‬يف ّ‬ ‫رشعياً‪.53‬‬ ‫شكّل هذان املوقفان املتضادان‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬موضوعاً لنقاش دار بني منارصي قراءة القرآن‬ ‫املرتبطة باألدب التأوييل‪ ،‬وبني مختصني آخرين مقتنعني بإمكانية إعادة تأسيس املعنى األويل‬ ‫‪51 -Michel Cypers, La composition du coran, Nazmal Quran, Paris, Gabalda, 2012.‬‬ ‫‪52 -Cypers M. Le Festin. OP. Cit. P 376.‬‬ ‫‪53 - Madigan D, «Foreword» in «The Quràn in The Historical contexte» ed-Gabriel Said. Reynolds, oxon,‬‬ ‫‪London Routledge, P11.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪45 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬

‫كل منهام‪ ،‬منذ‬ ‫للنص‪ .‬وجهة النظر األخرية‪ ،‬دافع عنها وات (‪ )Watt‬وبيل (‪ ،)Bell‬فقد دعا ٌّ‬ ‫‪1970‬م‪ ،‬إىل «ترك تفسريات املعلقني املسلمني املتأخرين جانباً‪ ،‬باعتبار أنّها تع ّرضت لتأثري التط ّور‬ ‫كل مقطع باملعنى الذي عرفته بالنسبة إىل‬ ‫التيولوجي بعد موت النبي‪ ،‬والعمل عىل فهم ّ‬ ‫مستمعيها األوائل»‪.54‬‬ ‫وبناء عىل املنظور نفسه‪،‬واستنادا ً إىل محاولة سياق ّية‪ ،‬اقرتحت جاكلني شايب (‪ .Chabbi(J‬فهامً‬ ‫للقرآن يف سياق تلقّيه الخاص؛ أي سياق العامل القبَيل (نسبة إىل القبيلة)‪ ،‬الذي يحيط به‪ ،‬والذي‬ ‫‪55‬‬ ‫تلح عىل أهمية قراءة النص القرآين‬ ‫يتو ّجه إليه بالخطاب» ‪ .‬مثّ ة دراسات حديثة العهد‪ ،‬أيضاً‪ّ ،‬‬ ‫جملة‪ ،‬حيث يكون سياقها‪،‬هذه امل ّرة‪ ،‬عريضاً؛ أي سياق القدامة املتأخرة‪.‬‬ ‫وعىل األخص‪،‬التفاعالت ما بني األدب (عرب) التورايت وبني القرآن مثا ُر التساؤل من جديد‪ .‬وقد‬ ‫دافعت أنجليكا نويرت (‪ )Neuwirt‬عن هذا املنظور البحثي يف ثالثة كتب جديدة‪ .56‬كام دافع‬ ‫عنه غابرييل‪ .‬س‪ .‬رينولد (‪ )G.S.Reynolds‬يف مؤلّف يحمل عنواناً موحياً‪57‬؛ فهذان املؤلّفان‬ ‫املختلفان أساساً حول املكانة‪ ،‬التي يجب إيالؤها إلعادة البناء الكرونولوجي وللسرية بقصد‬ ‫تفسري القرآن‪ ،‬يناضالن معاً من أجل التخلص من القراءة املرتبطة بالتقليد التفسريي اإلسالمي‬ ‫خاصة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وعىل ضوء هذه املالحظات املنهج ّية والهرمينوطيقية‪ ،‬تفرض ثالث إشكال ّيات وتساؤالت عا ّمة‬ ‫أي‬ ‫نفسها‪ ،‬وهي‪ ،‬بالنسبة إىل البعض‪ ،‬قدمية سلفاً؛ أوالً‪ :‬هل باإلمكان إعادة بناء تاريخ النص؟ وعىل ّ‬ ‫رشوط؟ كيف يجب تقييم صحة املصادر العربية التي هي متعارضة يف الغالب؟ كيف ميكن معالجة‬ ‫التعقيد املوجود يف املخطوطات القرآنية القدمية جدا ً‪ ،‬حيث إ ّن اختالفاتها العديدة تجعلها بعيدة‬ ‫عن الطبعة القرآنية يف القاهرة؟ باملوازاة مع ذلك‪ ،‬ما الذي ميكن أن تفيدنا به املصادر النقوش ّية حول‬ ‫‪54 -Bell R. et Watt. M, Bell’sintroduction to The Quran, completely revised and enlarged bymontgomery watt,‬‬ ‫‪Edinburgh, Edinburgh university Press, 1970, P113-114.‬‬ ‫‪55 -Chabbi. J. Le Seigneur destribus, L’islam de Mohomet, préface d4andré caquot, Paris, Noesis, 1997, P22 réed.‬‬ ‫‪Paris CNRS aditions, 2010.‬‬ ‫‪56 - Der Koran, Hand Kommentar mit ubersetzung ron Angelika Neuwirth. Bd,1 Poetische prophetie.‬‬ ‫‪Fuhmekkanische suren, Verlag der wettre ligion en in unsel verlag. 2011, p600.‬‬ ‫‪57 - Reynolds G.S, The Quran and its biblical Subtext. Op. cit. p2.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪46 )6‬‬

‫مهدي عز ّيز‬

‫حالة اللغة العربية‪ ،‬ولغة القرآن يف فجر اإلسالم وقرونه األوىل؟ ثانياً‪ :‬تضاف إىل هذه األسئلة‪،‬املتعلقة‬ ‫أساساً باملصادر الداخلية يف التقليد اإلسالمي‪ ،‬أسئلة أخرى حول السياق املفرتض لظهور القرآن‪ .‬ففي‬ ‫يؤسس القرآن نصاً مختلفاً عن التقليد اليهودي املسيحي؟ أيتميّز بفرادة نوعيّة جذرية أم أنّه‬ ‫ّ‬ ‫أي يشء ّ‬ ‫يندرج يف استمرارية يجب مساءلتها عىل الخصوص بالنظر إىل مناهج التحليل التنايص؟‬ ‫وفياموراء تحديد االقتباسات‪ ،‬كيف يجب فهم ظواهر استعادة املرجعيات التوراتية وعرب‪-‬‬ ‫التوارتية‪ ،‬الحارضة يف القرآن؟ أهي نتاج تواصل نبوي منقول إىل جامعة ناشئة من املؤمنني أم هي‬ ‫مثرة مجموعة من التقاليد املتأخرة املحايثة لوسط عصبة توحيدية؟‪ .58‬أال تستلزم هذه األسئلة‬ ‫تاريخي عريض بوصفه عمالً للقدامة املتأخرة؟‬ ‫إعادة كتابة القرآن يف سياق‬ ‫ّ‬ ‫أخريا ً‪ :‬كيف بإمكان التحليل األديب للقرآن أن يسهم يف إضاءة التحرير املفرتض للمنت القرآين؟ أال‬ ‫يُؤيّد عدم تجانس النص (تشذرات وتع ّدد أجناس الخطاب) فكرة تع ّدد املصادر واملضامني؟ هل‬ ‫االستعانة مبناهج العلوم اللسانية (التحليل البالغي‪ ،‬تحليل اللفظ‪ ،‬تحليل اإليقاع والشعرية) ميكنها‬ ‫أن تسهم يف فهم أفضل لدينامية واسرتاتيجية الخطاب القرآين؟‬ ‫بعض عنارص اإلجابة عن هذه األسئلة‪ ،‬إىل تقديم بعض‬ ‫يطمح هذا العمل‪ ،‬فضالً عن اقرتاحه َ‬ ‫فرضيات البحث الجديدة‪ ،‬ومناقشة دعامئها‪ ،‬واإلخبار بالنقاشات التي تثريها‪ ،‬وفهم منظورات‬ ‫البحث الجديدة‪ .‬يتعلق األمر‪ ،‬قدر اإلمكان‪ ،‬مبساءلة تاريخ النص وصيغه ولغته ومصادره‪ .‬هذا‬ ‫العمل هو امتداد مللتقى أع ّدته ونظّمته صابرينا مريفان (‪ ،)S.Mervin‬عندما كانت مديرة‬ ‫مشاركة يف (‪ ،)IISMM‬وكذلك مهدي الزايز‪ ،‬باالشرتاك مع آن سلفي (‪)Boisliveau‬يف معهد‬ ‫البحث والدراسات حول العامل العريب واإلسالمي‪ .‬إنّه يجمع املحادثات املجراة يف ‪ 27‬و‪ 28‬ترشين‬ ‫الثاين‪ /‬نوفمرب ‪2009‬مفي معهد دراسات اإلسالم ومجتمعات العامل اإلسالمي (‪،IISMM,EHESS‬‬ ‫باريس)‪.‬‬ ‫‪IV‬‬ ‫املفسة أعاله‪ .‬الجزء‬ ‫ينقسم العمل إىل ثالثة أجزاء‪ّ ،‬‬ ‫كل جزء يحيل إىل إحدى الثيامت الثالث ّ‬ ‫األول يقرتح العودة إىل تاريخ النص القرآين‪ ،‬وهكذا يحلّل فرنسوا ديغوش (‪ )F.Déroche‬أجزاء من‬ ‫‪ Neuwirth A. «Quràn and History-a Disputed Relationships. Some Reflexion on Qur’anic History in the‬ـ ‪58‬‬ ‫‪Quran», J.Q.S.5 (2003), P1.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪47 )6‬‬

‫القرآن‪ :‬مقاربات جديدة‬

‫نسخ ترجع إىل فرتة األمويني األوائل‪ .‬هذا العمل ميكّن من كشف تط ّور املصحف‪ ،‬بالنظر إىل مدخل‬ ‫معايري الكتابة وقواعد اإلمالء‪ .‬ويدرس محمد عيل أمري ـ معز (‪ ،)MOEZZI‬انطالقاً من أربعة‬ ‫مصادر شيعية مغمورة‪ ،‬التمفصل ما بني الرصاعات السياسية‪ ،‬وتكوين املذهب اإلسالمي‪ ،‬ونشأة‬ ‫نص ثالث‪،‬يحلّل فريدريك إمربت (‪)Imbert‬‬ ‫التأمل عند شيعة القرون الهجرية الثالثة األوىل‪ .‬ويف ّ‬ ‫نقوشاً أثرية مكتشفة حديثاً نُقشت فيها آيات قرآنية‪ ،‬وتحليلُه يعيد االعتبار إىل استشهادات‬ ‫قرآنية سابقة عىل ترجمة الكتاب املق ّدس (‪)Vulgate‬؛ بل أيضاً‪،‬إىل التعديالت النص ّية‪ ،‬التي ال تجد‬ ‫مصادرها يف عدم معرفة الرجال األوائل يف اإلسالم لنصهم املق ّدس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫السياق التاريخي لظهور القرآن‪.‬وتدعو أنجليكا نوريث‬ ‫ويسائل الجزء الثاين من العمل‬ ‫(‪ )A.Neuwirth‬إىل إعادة دمج النص القرآين يف السياق العريض للقدامة املتأخرة‪ .‬من أجل‬ ‫توضيح طرحها‪ ،‬فإنّها تحلّل سورة اإلخالص بكشف عمل إعادة الكتابة‪ ،‬الذي اقتبس من التقليد‬ ‫اليهودي واملسيحي‪ .‬يركّز كلود جيليو (‪ )C.Gilliot‬عىل البيئة التوفيقية‪ ،‬التي شهدت والدة‬ ‫القرآن‪ ،‬فيؤكّد االستمرارية الحاصلة ما بني املوضوعات املسيحية للنص القرآين‪ ،‬وبعض أقدم‬ ‫التفسريات اإلسالمية‪ .‬ث ّم تعرض جاكلني شايب (‪ )J.Chabbi‬لرشح الكيفية‪ ،‬التي تسمح للمقاربة‬ ‫األنرثبولوجية بالتمكّن من معرفة الظروف الحقيقية لظهور القرآن‪ ،‬فتميز‪ ،‬من جهة‪ ،‬مبحثاً قرآنياً‬ ‫مطبوعاً بنزعة توراتية «مقتبسة»‪ ،‬ومن جهة أخرى «نزعة قرآنية»(‪ )Coranisme‬تتغذّى من‬ ‫تأثريات خارجية‪ .‬وأخريا ً‪ ،‬ت ُعيد جونيفييف غوبيلو (‪ )Genivieve Gobillo‬االعتبار لسؤال النسخ‬ ‫تناص‪ .‬وهكذا‪ ،‬فهي تعيد وضع الخطة التيولوجية للقرآن إزاء‬ ‫(‪ )abrogation‬اعتامدا ً عىل تأ ّمل ّ‬ ‫التوراة يف قلب إشكالية خاصة بالقدامة املتأخرة‪ :‬التوفيق ما بني وصيتني وقانونني‪ :‬ما بني موىس‬ ‫وما بني عيىس‪.‬‬ ‫مخصص للدراسات ذات الطبيعة األدبية والشكلية‪ .‬يبدأ بيري الغشري(‪)Larcher‬‬ ‫الجزء الثالث ّ‬ ‫مبقارنة النسختني املطبوعتني الذائعتني للقرآن‪ ،‬طبعة القاهرة (بقراءة حفص عن َعاصم)‪ ،‬وطبعة‬ ‫املغرب (بقراءة ورش عن نافع)‪ .‬انطالقاً من هذا العمل املقارن‪ ،‬يكشف الباحث عن تعديالت‬ ‫توحي بالعالقة الرابطة ما بني الشفهي واملكتوب املركّب‪ ،‬والتي تظهر يف نقل الصيغة الشفهية‬ ‫إىل الكتابة (الصيغة الرتكيبية)‪ ،‬وأيضاً‪،‬يف املقابل يف ما يفرضه املكتوب عىل الشفهي (الصيغة‬ ‫التحليلية)‪ ،‬فإذا كانت الصيغة الرتكيبية توحي مبج ّرد نقل للصيغة الشفهية‪( ،‬وهو ما يعني أولويّة‬ ‫الشفهي عىل الكتايب)‪ ،‬فإ ّن الصيغة التحليل ّية توحي‪،‬يف املقابل‪ ،‬بأولوية املكتوب عىل الشفهي‪.‬‬ ‫املتجل يف‬ ‫ّ‬ ‫مث ّيقرتح مهدي عزايز (‪ )M. Azaiez‬مدخالً إىل أحد املميزات األساسية للجدال القرآين‬ ‫الخطاب املضاد كام يف تنصيص القرآن نفسه عىل ذكر طروحات أعدائه الواقعيني أو املتخيلني‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪48 )6‬‬

‫مهدي عز ّيز‬

ً‫) تعريفا‬Boisliveau(‫ وتق ّدم آن سلفي بواسليفو‬.‫يقرتح العرض تحديد املنت وتحديد أصالته‬ ‫ فهي تضع يف املقدمة خصائص الخطاب‬،‫ وهكذا‬.‫للنص القرآين‬ ّ ‫نصية‬ ّ ‫وتحليالً للطبيعة امليتاـ‬ ‫)وهو تأ ّمل حول‬Cypers( ‫مقال ميشيل سيربس‬،ً ‫ وأخريا‬.‫وتبي ُمركبَ ُه وأهميته‬ ّ ،‫القرآين يف القرآن‬ ‫ واعتامدا ً عىل تحليل‬،)Gobillot(‫) مكمالً مساهمة جونيفييف غوبيلو‬L’abrogation( ‫النسخ‬ ‫ يخلص إىل أ ّن موضوع النسخ قد أيسء فهمه من قبل التفسري‬121-87 ،2 ‫بالغي للنظم القرآين‬ ّ ‫ وليس‬،‫ بإبطال الحاالت املنحدرة عن التقليد اليهودي‬،‫ باألحرى‬،‫ يف تحليله‬،‫ يتعلق األمر‬.‫القديم‬ .‫تلك املتعلّقة بالقرآن‬ BIBLIOGRAPHIE • ALBIN M. W., «Printing the Qurʼān», EQ, vol. IV, Brill, 2004, p. 264276-. • AMIR-MOEZZI M. A., Le Coran silencieux et le Coran parlant, Sources scripturaires de lʼislamentre histoire et ferveur, Paris, CNRS Éditions, 2011. • ___, Autour de lʼhistoirede Ia rédaction du Coran, Rome, Bradley Conference (Pisai), 21 mai 2010. • ANṢĀRῙ AL-ṬAYYIB ʻAbd al-Raḥmān, Qaryat al-Fau, A portrait of preislamic civilization in Saudi Arabia, Riyad, Ğāmiʻat al-Riyāḍ, 1982. • AZAIEZ M., «Les thèses consacrées au Coran en France depuis les années soixante-dix. Une note bibliographique»,Arabica, 562009( 1/), p. l07111-. • BELL R. et Watt W. M., Bellʼs introduction to the Qurʼān, Completely revised and enlarged by Montgomery Watt, Edinburgh, EdinburghUniversity Press, 1970. • BERGSTRĀSSERG., «Koranlesung in Kairo. Mit einem Beitrag von K. Huber», Isl, (20) 1932, p. 142-. • BERQUE J., «Yusuf ou Ia sourate sémiotique», Mélanges Greimas, tome II, Amsterdam, J. Benjamins, 1985, p. 847862-. • Biblia Hebraica Stuttgartensia, éd. Rudolf KITTEL, Paul Kahle [et al.], Stuttgart, Deutsche Bibelgesellschaft, 1997. • BLACHÈRE R., Introduction au Coran, Paris, Maisonneuve Larose. 1959. l9912. ‫العدد‬

49 )6(

‫ مقاربات جديدة‬:‫القرآن‬

• BOISLIVEAU A.-S., Le Coran par lui-même, Lʼautoréférence dans le texte coranique, Thèse de doctorat, Marseille-Aix-en-Provence, 2010; à paraȋtre sous le titre Le Coran par lui-même. Vocabulaire et argumentation du discours coranique autoréférentiel, Brill, 2013. • BOTHMER H. C. von, OHLIG K. H., PUIN G. R., «Neue Wege der Koranforschung», dans Magazin Forschung. Universität des Saarlandes I, 1999, p. 3346-. • BÖWERJNGG., «Recentresearch on the construction of the qur`ān»,dans REYNOLDS G. S. (éd.), The Qur›an in its historical context, Londres, Routledge, 2008,p. 7087-. • BURGMER C. (éd.), Streit um den Koran, Die Luxenberg-Debatte: Standpunkte undHintergründe, Berlin, H. Schiler, 2005. • CHABBI J.,Le Seigneur des Tribus, Lʼislam de Mahomet, Paris, Noêsis, 1997. Réédité avec une nouvelle préface de lʼauteur, Paris, CNRS Éditions, 2010. • CHEDDADI A., Les Arabes et Iʼappropriation de Iʼhistoire, Émergence et premiers développements de lʼhistoriographie musulmane jusquʼau II­VII siècle, Paris, Sindbad Actes Sud, 2004. • CooK M. A., Muhammad,Oxford, Oxford University Press, 1983. • CRONE P. et Cook M. A., Hagarism: The making of the Islamic world,Cambridge, CambridgeUniversity Press, 1977. • CUYPERS M., Le Festin, Une lecture de Ia sourate ai-Mâ›ida, Paris, 2007. • ___, Structures rhétoriques dans le Coran. Une analyse structurelle de Ia sourate «Joseph» et de quelques sourates brèves, MIDEO, 22 (1995), p. 107- 195. • DEROCHE F., La transmission écrite du Coran dans les débuts de lʼislam, Le codex Parisino-petropolitanus, Leiden, Brill, 2009. • DONNER F. M., «The Qurʼan in recent scholarship, Challenges and desi­ derata», dans Reynolds G. S. (éd.), The Qur›an in Its Historical Context, London, Routledge, 2008, p. 2950-. ‫العدد‬

50 )6(

‫مهدي عز ّيز‬

• EBERHARD et Erwin NESTLE communiter ediderunt Barbara et Kurt ALND [etal.], apparatum criticum novis curis elaboraverunt Barbara etKurt Aland una cum Instituto Studiorum Textus Novi Testamenti Monasteriensi Westphaliae. - 27e éd., Stuttgart, Deutsche Bibelgesellschaft,1993. • EL YAGOUBI BOUDERRAO M., Sémiotique de Ia sourate al Aʻraf(discours coranique et discours exégétique classique), Paris Ill, thèse de doctorat, 1989. • FEDELI A.,«Early evidences of variant readings in Qurʼānic manuscripts», inK. OHLIG, G.R. PUIN (éd.), The Hidden Origins of Islam, New ResearchintoItsEarly History, New York, Prometheus Books, 2009, p. 311334. • GEYER R. E., Die Propheten in ihrer ursprünglichen Form, die Grundgesetze der ursemitischen Poesie erschlossen und nachgewiesen in Bibel, Keilinschriften, und Koran und in ihren Wirkungen erkannt in den Chören der grieschen Tragödie, Vienne,AlfredHölder, 1896. • ___, «Zur Strophik des Qurâns», WZKM, 22 (1908), p. 265287-. • GILLIOT C., «Une reconstruction critique du Coran ou comment en finir avec les merveilles de Ia lampe dʼAladin» dans Kropp M.S. (éd.), Results of contemporary research on the Qurʼan, the question of a historio-critical text of the Qurʼan, Orient-Institut der DMG/Würzburg, Ergon Verlag, 2007, p. 33137-. • ___, «Deux Études Sur Le Coran», Arabica, 301983( 1/), p. 137-. • ___,«Gunter Lüling, Über den Urkoran». REMM, 70 (1993), p. 142143-. • ___, «Origines et fixation du texte coranique», Études, 4092008( 12/), p. 643652-. • GRAHAMW.A., Beyond thewritten word, OralAspects of Scripture in the History of Religion, Cambridge, Cambridge University Press, 1993. • HILALI A., «Le palimpseste de Ṣanʼāʼ et Ia canonisation du Coran: nouveaux éléments», Les Cahiers Gustave Glotz, 21, 2011, p. 443448-. ‫العدد‬

51 )6(

‫ مقاربات جديدة‬:‫القرآن‬

• HOYLAND R. G., Seeing Islam as others saw it, a survey and evaluation of Christian, Jewish andZoroatrian writings on early Islam, Princeton, Darwin Press, 1997. • IMBERT F., «Le Coran dans les graffiti des deux premiers siècles de lʼHégire», Arabica, 472000( ,4-3/), p. 381390-. • IZUTSU T., God and man in the Koran, New York, Books for Libraries, 1964. • JEFFERY A., «ʻĀṣim», El, vol. l, 19864 , p. 706707-. • JENNY L., «La stratégic de Ia forme», Poétique, n° 27. 1976. • KOREN J.,NEVO D.Y.,«MethodologicalApproachestoIslamic Studies», Isl,LXVIII (1991), p.87107- dans Ibn Warraq (ed.), The quest for the Historical Muhammad, Amherst, Prometheus Book, 2000, p. 422426-. • KROPP M., «Preface», Results of contemporary research on the Qurʼān,Beirut, Orient-Institutder DMG/Würzburg,Ergon Verlag, 2007, p. 18. • LAROUSSI G., Narrativité et production de sens dans le texte coranique, le récit de Joseph, Paris, Thèse de doctorat, 1977. • LÜLING G., Die Wiederentdeckung des Propheten Muhammad. Eine Kritikam «christlichen» Abendland, Erlanger,H. Lüling, 1981. • ___, Über den Urkoran, Erlanger, H. Lüling, 19932. • LUXENBERG C., Die syro-aramäische Lesart des Koran. Ein Beitrag zur EntschlüsselungderKoransprache,Berlin, Verlag Hans Schiler, 20073 . • MADIGAND. A.. «Foreword». dans REYNOLDS G. S. (ed.), The Quran inIts HistoricalContext,London. Routledge, p. xi-xiii. • ___, The Qurʼānʼsself image:writing and authority in Islamʼs scripture,Princeton, PrincetonUniversity Press, 200I. • MINGANAA. et LEWIS A. S., Leaves from three ancient Qurâns. possibly pre-ʻOthmânic, with a list of their Variants, Cambridge, Cambridge University Press, 1914. • ___, «SyriacInfluence on the Style ofthe Koran». Bulletin of the JohnRylands Library. 11(1927),p. 7798-. • NEUWIRTH A.,«QurʼanandHistory - a Disputed Relationship. Some ‫العدد‬

52 )6(

‫مهدي عز ّيز‬

• • • • • • • • • • • • • • •

Reflections on Qurʼanic History and History in the Qurʼan», JQS. 5 (2003), p. 1 -18. ___, Sinai N., Marx M. (ed.), The Qurʼān in Context. Historical and Literary Investigations into the Qurʼanic Milieu, Leiden, Brill, 2009. ___, DerKoranalsTextderSpätantike.Ein europäischerZugang,Berlin, 2010. NEVO Y.D., KOREN J.,Crossroads to Islam, The Origins of the ArabReligion andthe Arab State. New York, Prometheus Books, 2003. Novum Testamentum Graece, Novum testamentum graece cum apparatu critico ex editionibus et libris manu scriptis collecto.Stuttgart, Privilegierte Wurttembergische Bibelanstalt. 1898. PARET R., «Ḳirāʼa». El, tome V, Khe-Mahi, 19862, p. 126128-. POWERSD. S.,MuhammadIs Not theFather ofAny ofYourMen. TheMaking of theLast Prophet,Philadelphia, University of Pennsylvania Press, 2009. PRÉMARE A.-L. de, Les fondations de lʼIslam, entre écriture et histoire, Paris, Seuil, 2002. ___, Joseph et Muhammad, le chapitre 12 du Coran: étude textuelle, Aixen-Provence, Publications de IʼUniversité de Provence. 1989. PRETZL O., Geschiste des Qoräns (GdQ3). Die Geschiste des Korantexts von G. Bergsträsser und O. Pretzl, Leipzig, Dieterich›sche Verlagsbuchhandlung, 19382. PUIN G.-R., «MethodsofResearchonQur›anicManuscripts. AFewIdeas»,Maṣāḥif Ṣanʻāʼ, Kuwait, 1985,p. 917-. ___, «Observations on Early Quran Manuscripts in Ṣanʻāʼ» dansWildS. éd., The Qurʼanas Text, Leiden. Brill, 1996, p. 107-III. REYNOLDS G. S.,New perspectives on the Qurʼān, The Qurʼan in its historical Context 2, London,Routledge,2011. ___, The Qurʼān andItsBiblical Subtext, London. Routledge, 2010. ___, The Qur ʼān in itsHistorical Context, London, Routledge. 2008. RIPPIN A., Approaches to the history of the interpretation of the ‫العدد‬

53 )6(

‫ مقاربات جديدة‬:‫القرآن‬

• • • • • • •

Qurʼān,Oxford, OxfordUniversity Press, 1988. Routes dʼArabie, archéologie et histoire du royaume dʼArabie Saoudite. sous Ia direction de AL-GHABBAN A. I. et André SALVINI B. [et al.] (dir.), Paris, Musée du Louvre/Somogy, 2010. SADEGHI B. et BERGMANN U., ʻTheCodex of a Companion oftheProphet and the Qurān of the Prophetʼ, Arabica. 572010( 4/), p. 343436. SHICK R., «Archeology and the Qurʼān», EQ. vol. I. 2001. p. 148157-. TheCambridgecompanionto the Qurʼān. edited by JaneDAMMEN, Cambridge, CambridgeUniversity Press, 2006. TZVETAN T., Symbolisme et interprétation, Paris, Seuil, 1978. WANSBROUGH J., Quranic studies. Sources and methods of scriptural Interpretation,Foreword, Translations. andExpanded Notesby Andrew Rippin,New York, PrometheusBooks, 20042 . ___, The Sectarian Milieu, Content and Composition of Islamic Salvation History. Foreword. Translations, and expandednotes by GeraldHawting, Amherst, Prometheus Books. 20062.

‫العدد‬

54 )6(

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫‪1‬‬

‫تأليف‪ :‬يوهانس جانسن‬ ‫ترجمةوتعليق‪ :‬حازم زكريا محي الدين‬

‫*‬

‫مقدمة املرتجم‬

‫‪2‬‬

‫لفتت حركة التفسري الحديثة النشطة واملتجددة يف العامل اإلسالمي أنظار الباحثني املسلمني والغربيني‬ ‫عىل السواء‪ ،‬ويف الحقيقة فقد كان الغربيون هم األسبق إىل رصد هذه الحركة ومحاولة التأريخ لها‪،‬‬ ‫مستفيدين يف هذا املجال من الخربة الغربية يف ميدان التأريخ لجهود املشتغلني يف تأويل الكتاب املقدس‪.‬‬ ‫يُعد املسترشق املجري غولد زيهر (ت‪1921‬م) صاحب أول محاولة قام بها املسترشقون يف‬ ‫العرص الحديث لرصد محاوالت التجديد يف التفسري يف العرص الحديث‪ ،‬وذلك يف الفصل األخري من‬ ‫كتابه «مذاهب التفسري اإلسالمي»‪ ،‬الذي كتبه يف عام ‪1913‬م‪ ،‬ولكن هذا الفصل ال يزيد عن أن‬ ‫يكون محاولة استكشافية عامة لبداية ظهور حركة التفسري يف العرص الحديث مع الرتكيز بشكل‬ ‫خاص عىل جهود أحمد خان يف الهند‪ ،‬ومحمد عبده يف مرص‪.‬‬ ‫أما املحاولة االسترشاقية الثانية يف مجال التأريخ للجهود الحديثة يف ميدان التفسري فهي محاولة‬ ‫املسترشق الهولندي بالجون (تفسري القرآن يف العرص الحديث ‪ )1960-1880‬الذي اجتهد يف سبيل رصد‬ ‫*جامعي من مرص‬ ‫‪ - 1‬هذه ترجمة الفصل األول(مقدّمة)من كتاب‪ :‬تفسري القرآن يف مرص الحديثة (‪1900-1970‬م) (‪The Interpretation of The Koran‬‬ ‫‪ ،)in Modern Egypt‬تأليف الدكتور يوهانس جانسن (‪ ،)J. J. G. Jansen‬وقد صدر الكتاب بلغته األصلية (هذه طبعة ثانية‪ ،‬الطبعة‬ ‫األوىل سنة ‪.)1974‬عن ‪.E. J. Brill، Leiden، 1980‬‬ ‫‪ - 2‬لعل أوىل وأهم املحاوالت التي قام بها املسلمون يف ميدان التأريخ لحركة التفسري يف العامل اإلسالمي الحديث‪ ،‬تتمثل يف الجزء الثالث‬ ‫من كتاب"التفسري واملفرسون" للدكتور محمد حسني الذهبي الصادر يف أربعينات القرن املايض‪ .‬ومن الكتب الجديدة التي اعتنت بدراسة‬ ‫مناهج التفسري يف العرص الحديث‪ :‬مصطفى الحديدي الطري‪ ،‬اتجاهات التفسرييف العرص الحديث من اإلمام محمد عبده حتى مرشوع‬ ‫التفسري الوسيط‪ ،‬القاهرة‪1971 ،‬م‪ .‬وعفت الرشقاوي "الفكر الديني يف مواجهة العرص‪ :‬دراسة تحليلية التجاهات التفسري يف العرص‬ ‫الحديث"‪ ،‬القاهر‪1972 ،‬م‪ .‬الذي أ ّرخ فيه التجاهات التفسري يف مرص يف العرص الحديث‪ ،‬ومحمد إبراهيم رشيف‪ ،‬اتجاهات التجديد يف‬ ‫تفسري القرآن الكريم يف مرص يف القرن العرشين‪ ،‬القاهرة‪1982 ،‬م‪ .‬وعبد املجيد املحتسب‪ ،‬اتجاهات التفسري يف العرص الراهن‪ ،‬عامّن‪،‬‬ ‫‪1982‬م‪ .‬وفهد الرومي‪ ،‬اتجاهات التفسري يف القرن الرابع عرش‪ ،‬بريوت‪1986 ،‬م‪ .‬احميدة النيفر‪ ،‬اإلنسان والقرآن‪ :‬التفاسري القرآنية‬ ‫املعارصة‪ ،‬قراءة يف املنهج‪ ،‬دمشق‪2000 ،‬م‪ .‬محمود عزب‪ ،‬مالمح التنوير يف مناهج التفسري‪ .‬القاهرة‪2006 ،‬م‪ .‬وفضل عباس‪ ،‬املفرسون [يف‬ ‫العرص الحديث] مناهجهم ومدارسهم‪ ،‬عامن‪2007 ،‬م‪ ،‬محمد السييس‪ ،‬املدرسة السلفية يف التفسري يف العرص الحديث‪ ،‬القاهرة‪2010 ،‬م‬ ‫العدد‬

‫(‪55 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫عالقة القرآن باألزمنة الحديثة من خالل متابعة أسلوب ومنهج تفاعل بعض املفرسين يف الهند ومرص‬ ‫بشكل خاص مع بعض القضايا العقدية والدينية ذات الـتأثري يف العرص الحديث‪ ،‬ومحاولة الوقوف عىل‬ ‫مدى أثر األبعاد العلمية والعملية والفكر السيايس والحياة االجتامعية الحديثة يف نتاج هؤالء املفرسين‪.‬‬ ‫وأما املحاولة الثالثة عىل طريق تأريخ املسترشقني لظاهرة التفسري يف العرص الحديث‪ ،‬فكانت‬ ‫أيضاً عىل يد مسترشق هولندي آخر هو يوهانس جانسن الذي خصص أطروحته للدكتوراه يف‬ ‫جامعة ليدن لدراسة وتحليل اتجاهات التفسري يف مرص الحديثة‪ ،‬التي نُرشت فيام بعد يف كتاب‬ ‫يحمل عنوان «تفسري القرآن يف مرص الحديثة» تناول فيه بالدراسة والتحليل أهم االتجاهات‬ ‫التفسريية يف مرص من نهاية القرن التاسع عرش إىل بداية السبعينات تقريبا‪.‬‬ ‫قسم جانسن كتابه إىل خمسة فصول‪ ،‬ونقدم هنا للقارئ ترجمة الفصل األول من الكتاب والذي‬ ‫ّ‬ ‫ع ّرف فيه املؤلف ق ّراءه الغربيني عىل القرآن الكريم ومناهج تفسريه بشكل مكثف من أول نشأة‬ ‫علم التفسري إىل العرص الحديث‪.‬‬ ‫أما بالنسبة لعميل يف الرتجمة فقد حاولت قدر اإلمكان االلتزام مببدأ ترجمة حرفية املعنى مع‬ ‫مراعاة ما تفرضه الرتاكيب واألساليب العربية من إعادة بناء الجملة وصياغة األسلوب‪ ،‬حتى ال‬ ‫يشعر القارئ الكريم بعجمة النص األصيل وثقل أسلوب ترجمته قدر اإلمكان‪.‬‬ ‫وأما عميل يف الحوايش فقد حاولت االقتصار عىل بعض الرشوح واإليضاح لبعض األمور التي رأيت‬ ‫أنها بحاجة إىل يشء من اإلضاءة والتعليق عليها‪ ،‬فضالً عن حريص يف بعض األحيان عىل تحديث‬ ‫بعض املعلومات التي يشري إليها املؤلف سواء يف منت الكتاب أو يف حواشيه‪ .‬ووضعت كل ما أضفته‬ ‫يف الحوايش بني قوسني معكوفني[ ]‪ ،‬حتى أميز تعليقايت عن هوامش املؤلف وتعليقاته‪.‬وأشري بأين قد‬ ‫اضطررت يف بعض األحيان أن أُدخل بعض الرشوحات والتعليقات املوجزة ضمن منت الكتاب إلضاءة‬ ‫بعض املعاين التي تحتمل اللبس‪ ،‬وقد وضعتها هي أيضاً بني قوسني معكوفني [ ] متييزا ً ملا أضفته عن‬ ‫حرصت ما استطعت إىل ذلك سبيال أن أعود إىل النصوص األصلية‬ ‫كالم املؤلف‪ .‬ومن جهة أخرى فقد‬ ‫ُ‬ ‫ثبت هذه النصوص يف املنت أو يف الحوايش‬ ‫أدرج املؤلف ترجمتها يف منت نصه أو يف حواشيه‪ ،‬وأَ ُ‬ ‫التي َ‬ ‫مع ذكر بعض الزيادة فيها من النص األصيل أحياناً حتى يتضح السياق الكامل لها‪.‬‬

‫يوهانس جانسن (‪2015 _1942‬م)‪:‬‬

‫األستاذ الدكتور يوهانس جانسن من مواليد أمسرتدام عام ‪1942‬م‪ ،‬باحث بارز يف ميدان الفكر‬ ‫العدد‬

‫(‪56 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫اإلسالمي املعارص يف هولندا‪ ،‬أنهى دراسته الجامعية األوىل يف جامعة أمسرتدام‪ ،‬ثم حصل عىل درجة‬ ‫الدكتوراه يف الدراسات العربية من جامعة ليدن عام ‪ 1974‬عن أطروحة حملت عنوان «تفسري‬ ‫القرآن يف مرص الحديثة» التي نُرشت للمرة األوىل يف ليدن عام ‪1974‬م‪ ،‬وصدرت طبعتها الثانية‬ ‫عام ‪ ،1980‬وهي الطبعة التي اعتمدنا عليها يف ترجمتنا هذه‪.‬عمل جانسن مديرا ً للمعهد الهولندي‬ ‫للدراسات العربية يف القاهرة منذ عام ‪1979‬م إىل عام ‪ ،1982‬وعمل أيضاً أستاذا ً للدراسات العربية‬ ‫واإلسالمية يف عدد من الجامعات الهولندية منها جامعة ليدن‪ ،‬وجامعة أوتريخت‪.‬‬

‫رموز االختصارات‬

‫ ‬ ‫دائرة املعارف اإلسالمية‪ ،‬الطبعة الثانية‬ ‫تاريخ األدب العريب لربوكلامن‬ ‫تاريخ القرآن لنولدكه‬ ‫تاريخ الرتاث العريب لفؤاد سزكني‬ ‫من ّوعات معهد اآلباء الدومينيكان للدراسات الرشقية يف القاهرة‬

‫‪El‬‬ ‫‪GAL‬‬ ‫‪GdQ‬‬ ‫‪GAS‬‬ ‫‪MIDEO‬‬

‫النص املرتجم‬

‫ُعزيت ٌ‬ ‫أقوال كثرية إىل رسول اإلسالم محمد [عليه السالم]‪ ،‬وقد أُدرجت هذه األقوال‪ ،‬بعد وفاته‪،‬‬ ‫يف مدونات حديثية شهرية تتناول حياة النبي وصحابته‪ .‬إحدى أه ّم هذه املدونات كتاب (الجامع‬ ‫قبل‪ ،‬أثناء حياة‬ ‫الصحيح) للبخاري‪ ،3‬الذي يتض ّمن عدة آالف من األحاديث النبوية‪ .‬وقد ت ّم‪ ،‬من ُ‬ ‫الرسول محمد [عليه السالم]‪ ،‬وض ُع حدود متيي ٍز واضحة فارقة بني هذه األقوال النبوية وبني ألفاظ‬ ‫ُ‬ ‫الرسول‪ ،‬وكان يُنظر إليها عىل أنها ألفاظ إلهية مل تصدر عن الرسول شخصياً؛‬ ‫أخرى كان يتلفّظ بها‬ ‫بل هي من َّزلة عليه من طرف الله [تعاىل]‪ ،‬عن طريق الرؤى واألحالم‪ ،‬أو بوساطة ال َملَك جربيل‪ ،‬أويف‬ ‫حاالت النشوة الدينية واالتصال الروحي بالله [تعاىل]‪ ،‬أو بوساطة طرق أخرى‪ .‬هذه األقوال‪ ،‬التي‬ ‫يُعتقد أنها إلهية املصدر‪ ،‬قد ُجمعت‪ ،‬فيام بعد‪ ،‬يف مد ّونة واحدة مستقلة ُدعيت بــالقرآن الكريم‪.4‬‬ ‫‪ - 3‬محمد بن إسامعيل‪ ،‬أبو عبد الله البخاري ( ‪194‬هـ‪810/‬م _‪256‬هـ‪870 /‬م)‪ ،‬بروكلامن‪ ،‬تاريخ األدب العريب‪ .))GAL., I 147 ،‬يف األاصل‬ ‫‪ 157‬الجامع الصحيح‪ ،‬عدة طبعات‪ .‬انظر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬الجامع الصحيح برشح أحمد بن محمد القسطالين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بوالق‪1288 ،‬هـ‪ ،‬يف‬ ‫‪ 10‬مجلدات‪ .‬والحديث حسب معجم لني‪« :‬جديد‪ ،‬مؤخر(قريب العهد)‪ ...‬قصة‪ ...‬رواية معزوة إىل محمد»‪ .‬انظر‪.Lane, Lexicon, ii, 529a :‬‬ ‫‪4 - Nöldeke, Th., Geschichte des Qorâns, Leipzeg 1909². 1\258-260‬‬ ‫‪18-25. W. M. Watt, Bell’s Introduction to the Qur’ân, Edinburgh,1970.‬‬ ‫‪: GdQ: 1, 258-60‬أما فيام يتعلق بالحديث القديس‪ ،‬فانظر‬ ‫العدد‬

‫(‪57 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫يعتقد جميع املسلمني‪ ،‬يف جميع العصور‪،‬بأ ّن القرآن محض كالم الله‪ ،‬ويظهر املغزى الظاهري‬ ‫بكل جالء‪ ،‬عندما يعقد أح ُدنا مقارنة بينه وبني التصور املسيحي لألناجيل األربعة؛‬ ‫لهذا االعتقاد‪ّ ،‬‬ ‫كل واحد منهم‬ ‫حيث إ ّن كتّابها األربعة معروفون باالسم‪ :‬مرقس‪ ،‬ومتّى‪ ،‬ولوقا‪ ،‬ويوحنا‪ .‬وقد د ّون ّ‬ ‫مفصالً لألحداث اإللهية‪ ،‬التي جرت يف عهد السيد‬ ‫بكلامته الخاصة‪ ،‬ولجمهوره الخاص‪ ،‬وصفاً ّ‬ ‫املسيح‪ .‬يف حني أ ّن القرآن مل يكن هكذا؛ بل هو كلامت إلهية ت ُو َحى إىل محمد أثناء تواصله‬ ‫شخيص منه‬ ‫أي تدخّل‬ ‫الروحي العميق مع الله تعاىل‪ .‬وقد كان محمد يبلِّغها للناس بدوره‪ ،‬دون ّ‬ ‫ّ‬ ‫–تعاىل‪-‬نفسه‪،‬‬ ‫ًمؤلف القرآن؛ بل إ ّن الله‬ ‫عىل مستوى الصياغة‪ ،‬وبهذا‪ ،‬فإننا ال ميكن أن نع ّد محمدا َ‬ ‫َ‬ ‫وفق االعتقاد اإلسالمي‪ ،‬هو الذي يتكلم‪ ،‬ويصوغ العبارات بنفسه‪ ،‬ويتكلم‪ ،‬أحياناً‪ ،‬مستخدماً ضمري‬ ‫املتكلم األول‪ ،‬ويو ّجه حديثه إىل رسوله محمد‪ ،‬ومن خالله إىل البرشية جمعاء‪.5‬‬ ‫وقد ذهب علامء مقارنة األديان‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬إىل أنّه ال تجوز املقارنة بني املكانة‪ ،‬التي يحتلها‬ ‫القرآن يف الدين اإلسالمي‪ ،‬واملكانة التي يشغلها الكتاب املقدس يف الدين املسيحي‪ .‬وذلك بسبب أ ّن‬ ‫القرآن‪ ،‬الذي صدر عن الله بشكل مبارش هو املقابل للسيد املسيح «ابن الله» وفق االعتقاد املسيحي‪.‬‬ ‫وبينام استنتج علامء الالهوت املسيحيون من طبيعة املسيح أنّه كائن غري مخلوق‪ ،‬كذلك فعل‬ ‫زمالؤهم املتكلّمون املسلمون‪ ،‬حيث استنبطوا من طبيعة القرآن وخصائصه أنّه غري مخلوق أيضاً‪.‬‬ ‫نص إلهي غري‬ ‫وبنا ًء عىل طريقة التفكري هذه‪ ،‬فإ ّن محمدا ً هو الشخص األول‪ ،‬الذي أىت برسالة ذات ٍّ‬ ‫مخلوق‪ ،‬وبهذه السمة ميكن مقارنة الرسول محمد برسو ٍل مسيحي مثل الرسول بولس‪ ،‬أ ّول إنسان‬ ‫قام بالتبشري مبغزى داللة موت السيد املسيح وقيامته‪.‬‬ ‫كتب أحد العلامء الكنديني‪ ،‬يف محاول ٍة منه لرشح التطابق بني «ابن الله» وبني كتاب الله ما‬ ‫مثل محاولة القيام بتحليل نفيس لشخصية‬ ‫نصه‪« :‬تكاد تكون محاولة القيام بنقد تاريخي للقرآن َ‬ ‫ّ‬ ‫كل البرشية‪ ،‬أو إىل قوم محمد [عليه السالم] فحسب‪.‬‬ ‫وقت نزوله‪ ،‬كان من املعتقد أنّه مو ّجه إىل ّ‬ ‫‪ - 5‬ليس من املؤكد ما إذا كان القرآن‪َ ،‬‬ ‫يف الوقت الحايل‪ ،‬يتّفق املسلمون عىل أ ّن رسالة القرآن عاملية‪.‬‬ ‫ينص بوضوح عىل هذه العاملية‪ .‬انظر قوله‬ ‫[توجد يف القرآن الكريم آيات عديدة تشري إىل عاملية رسالته؛ بل إننا نجد أ ّن القرآن امليك ّ‬ ‫اس إِنِّ َر ُس ُ‬ ‫ول اللّ ِه إِلَيْ ُك ْم َج ِميعاً‬ ‫–تعاىل‪ -‬يف سورة األنعام‪ ،‬التي نزلت يف مكة جملة واحدة‪ ،‬كام يقول معظم املفرسين‪) :‬ق ُْل يَا أَيُّ َها ال َّن ُ‬ ‫الس َم َو ِ‬ ‫ِيت فَآ ِم ُنوا ْ بِاللّ ِه َو َر ُسولِ ِه ال َّنب ِِّي األُ ِّم ِّي ال َِّذي يُ ْؤ ِم ُن بِاللّ ِه َوكَلِ َمتِ ِه َواتَّ ِب ُعو ُه لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫ات َواألَ ْر ِض ال إِلَـ َه إِالَّ ُه َو يُ ْحيِـي َو ُي ُ‬ ‫ال َِّذي لَ ُه ُمل ُْك َّ‬ ‫تَ ْهتَدُو َن( [األعراف‪ .]158 :‬ومن هنا‪ ،‬ال مجال للشك يف أ ّن الذين تعاملوا مع القرآن الكريم‪ ،‬وقت نزوله‪ ،‬كانوا يعلمون أنّه يحمل رسالة‬ ‫إىل البرشية جمعاء] املرتجم‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪58 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫السيد املسيح [أي من حيث رفض املؤمنني بهام إخضاعهام ملباضع هذين املنهجني‪ ،‬نظرا ً للقداسة‬ ‫التي يتمتّعان بها يف عيون املؤمنني بهام]»‪.6‬‬ ‫مل متنع عقيد ُة ِق َدم القرآن علام َء املسلمني من االهتامم برصد وتدوين تفاصيل نزول القرآن إىل‬ ‫بكل الحيثيات التاريخية‪ ،‬التي رافقت نزوله‪ .‬فقد‬ ‫العامل األريض‪ ،‬حيث أبدى هؤالء العلامء اهتامماً ّ‬ ‫ص ّنفوا‪ ،‬منذ القرون اإلسالمية األوىل‪ ،‬السو َر القرآنية‪ ،‬حسب نزولها‪ ،‬إىل سور مكية وسور مدنية‪.‬‬ ‫كل آية قرآنية‪ .‬وقد نتجت عن هذا الحرص‬ ‫وحرصوا عىل تدوين السياق التاريخي الذي رافق نزول ّ‬ ‫‪7‬‬ ‫كتب قليلة العدد‪ ،‬إال أنّها كبرية الحجم تحمل اسم أسباب النزول ‪ .‬ولكن تجدر اإلشارة إىل أ ّن العامل‬ ‫ٌ‬ ‫‪8‬‬ ‫املرصي السيوطي (‪849‬ه ‪-911‬هـ) الحظ‪ ،‬يف كتابه (اإلتقان يف علوم القرآن) ‪ ،‬أ ّن أهل األصول‬ ‫واألصح‪ ،‬عندنا‪ ،‬األول‪ .‬وقد نزلت آيات يف‬ ‫اختلفوا يف‪« :‬هل العربة بعموم اللفظ أوبخصوصالسبب؟‬ ‫ّ‬ ‫أسباب‪ ،‬واتفقوا عىل تعديتها إىل غريأسبابها‪ ،‬كنزول آية الظهار يف سلَمة بن صخر‪ ،‬وآية اللعان يف‬ ‫شأن هالل بن أمية‪ ،‬وح ّد القذف يف ُرماة عائشة‪ ،‬ث ّم ت ُع ّدى إىل غريهم»‪.9‬‬ ‫وقد يتكون لدى املرء انطبا ٌع ‪-‬عىل الرغم من وجود من يرى عكس هذا االنطباع بني علامء‬ ‫الدراسات القرآنية‪-‬بأ ّن معظم علامء املسلمني مل يبدوا اهتامماً كبريا ً بالتفاصيل التاريخية لعملية‬ ‫نزول الوحي‪ .‬فنحن‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال نجد بني الكتب املرصية املنشورة بني عامي ‪1926‬و‪1940‬م‬ ‫أكرث من كتابني فقط يختصان بجمع أسباب النزول‪.10‬‬ ‫واجه املجتمع اإلسالمي‪ ،‬بعد وفاة الرسول يف املدينة عام ‪632‬م‪ ،‬مشكالت عديدة‪ ،‬بعض هذه‬ ‫املشكالت كان يحمل صبغة سياسية‪ ،‬من قبيل َمنِ الذي سيقود الجامعة اإلسالمية الوليدة؟ هل‬ ‫عي الرسول خليفة له؟ ولك ّن املسلمني مل يختلفوا عىل اإلطالق يف أ ّن الوحي القرآين كان شأناً خاصاً‬ ‫ّ‬ ‫برسولهم‪ ،‬وأنّه قد انقطع بعد وفاته‪ ،‬وبهذا‪ ،‬فإ ّن القرآن قد اكتمل نزوله‪ ،‬وت ّم أمره بإعالن وفاة‬ ‫الرسول‪ .‬وبقي عىل املسلمني‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬أن يفكّروا يف جمع القرآن وتدوينه؛ ألنه مل يت ّم لهم ذلك‬ ‫‪6 -W. C.Smith, Islam in Modern History, Princeton 1957, 17 ff.‬‬ ‫‪Macdonald, Development of Muslim Theology, Lahore 1964, 146-152.‬‬ ‫‪- 7‬يُع ّد كتاب الواحدي (أسباب النزول) أحد أه ّم املراجع العلمية املعتمدة يف معرفة أسباب النزول‪ ..‬كارل بروكلامن‪ ،‬تاريخ األدب‬ ‫العريب‪.)Gal I 411, S I 730(،‬‬ ‫‪ - 8‬اإلتقان‪« :1/29 ،‬هل العربة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب»‪.‬‬ ‫‪[ - 9‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬تعليق‪ ،‬الدكتور مصطفى البغا‪ ،‬دار ابن كثري‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪2006 ،2‬م‪.]1/95 ،‬‬ ‫‪10 -Nussayr, Arabic Books Published in.. Egypt between 1926 & 1940, 23.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪59 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫بكل هذه املهامت يف‬ ‫من قبل‪ ،‬وكان عليهم أن يقوموا بإعداد مد ّونته النهائية‪ .‬وقد قام املسلمون ّ‬ ‫عهد الخلفاء األوائل‪ ،‬نواب الرسول ووكالئه يف مهامته الدنيوية‪.11‬‬ ‫مل يكن الخط‪ ،‬الذي كان يستخدمه العرب‪ ،‬يف تلك األيام‪ ،‬واضحاً مبا فيه الكفاية‪ ،‬وقد استدعت‬ ‫قضية عدم اكتامل نظام تدوين أحرف اللني والحركات‪ ،‬وتشابه أشكال عد ٍد من األحرف الساكنة‬ ‫[كل ما ليس بحرف علة من حروف الهجاء العريب] جهودا ً كبرية إلزالة كل أنواع الغموض من‬ ‫ّ‬ ‫‪12‬‬ ‫النص املد ّون للقرآن ‪ .‬وقد أخذت عملية االعتناء بالقرآن شكلها النهايئ ‪-‬وهي العملية التي قام‬ ‫املسترشق أُت ّو برتزل‪ )Otto Pretzl(13‬بعرض تفاصيلها يف الجزء الثالث من كتاب (تاريخ القرآن)‪،‬‬ ‫الذي أرشف عليه نولدكه‪ -‬يف نسخة القرآن‪ ،‬التي نرشتها لجن ٌة مرصية ملكية من الخرباء يف علوم‬ ‫القرآن يف عام‪192414‬؛حيث مل تحظ نسخة أخرى للقرآن مبثل رشع ّية وصدق ّية هذه النسخة‪.‬‬ ‫وتنبغي اإلشارة‪ ،‬بالعودة إىل املقارنة بني الكتاب املقدس والقرآن‪ ،‬إىل أنّه يوجد بينهام‪-‬عىل‬ ‫تطابق مه ّم وواضح‪ ،‬وذلك أ ّن كالً منهام عبارة عن نصوص‬ ‫الرغم من وجود االختالفات السابقة‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫التغي‬ ‫قدمية مكتوبة بلغات أجنبية بالنسبة إىل الكثري من قرائهام‪ ،‬وقد تع ّرضت هذه اللغات إىل ّ‬ ‫والتطور مقارنة بحالها يف األيام األوىل التي ُد ّونت فيها‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ ّن معظم املسلمني واملسيحيني‬ ‫يحتاجون إىل املساعدة لتأويل وتفسري‪ ،‬وإعادة صياغة‪ ،‬و‪ ،‬أحياناً‪ ،‬ترجمة هذه النصوص‪ .‬ونتيج ًة‬ ‫لذلك‪ ،‬ظهرت إىل الوجود مكتبات ضخمة من كتب التفسري‪ ،‬وعدد كبري من الرتجامت (يف حالة‬ ‫الكتاب املقدس)‪.‬‬ ‫‪11 -Th. Nöldeke Geschichte des Qorâns, II 13-15, 47-50;W. M. Watt, Bell’s Introduction to the Qur’ân, 40 ff.‬‬ ‫‪- 12‬لقد ت ّم تخفيف الصعوبات الناجمة عن تشابه صور بعض الحروف‪ ،‬من خالل إضافة عالمات صوتية خاصة‪ ،‬مثل الباء املهملة غري‬ ‫املنقوطة تصبح ب‪ ،‬أو ت‪ ،‬أو ث‪...‬‬ ‫‪[- 13‬أوت ّو بريتزل((‪Otto Pretzl(1893‬ـ ‪ ،)1941‬مسترشق أملاين يُع ّد أحد أبرز املسترشقني املتخصصني يف القراءات القرآنية‪ .‬عمل‪ ،‬إىل‬ ‫جانب برجشرتس‪ ،‬يف مرشوع نرش املؤلفات األساسية يف القراءات القرآنية‪ ،‬حيث قام بتحقيق كتا ْيب أيب عمرو عثامن بن سعيد الداين‪ :‬كتاب‬ ‫(التيسري يف القراءات السبع)‪ ،‬وكتاب (املقنع يف رسم مصاحف األمصار مع كتاب ال َّنقْط)‪ .‬انظر‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬موسوعة املسترشقني‪،‬‬ ‫دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1984 ،1‬م‪ 53 ،‬ـ ‪ ]54‬املرتجم‪.‬‬ ‫‪ .Xx (1932), 2-3.Der Islam  -14‬غريأ ّن الفضل يف إصدار الطبعة األوىل للقرآن ونرشها يعود إىل عامل أوريب؛ حيث قام غوستاف‬ ‫فلوجل(‪ ،)Gustav Flügel‬يف ليبزغ ((‪ ،Leipzig‬بنرش هذه الطبعة عام ‪1834‬م‪.‬‬ ‫وكل الطبعات التي سبقت الطبعة العثامنية‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫ملعرفة اإلشكاالت‪ ،‬التي أُثريت حول الطبعة األوىل للقرآن‪ّ ،‬‬ ‫‪, 40 ff.W. M. Watt, Bell’s Introduction to the Qur’ân‬‬ ‫العدد‬

‫(‪60 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫مل تكن املشكلة اللغوية‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬نقطة البداية التاريخية لنشأة كتب التفسري للكتاب املقدس‬ ‫والقرآن الكريم؛ بل كانت هذه البداية بسبب العدد املتزايد من املشكالت الواقعية‪ ،‬التي كانت‬ ‫تفرض نفسها عىل املؤمنني‪ ،‬والتي مل تتناولها النصوص املقدسة يف هذين الكتابني بصورة مبارشة‪.‬‬ ‫ملح ورسيع‪ ،‬فقد م ّرت‬ ‫مل تظهر الحاجة‪ ،‬بالنسبة إىل العهد القديم‪ ،‬إىل وجود تفاسري بشكل ٍّ‬ ‫أزمان وعهود مل يحاول فيها املؤمن الحائر أن يجد حالّ ملشكالته الطارئة‪ ،‬من خالل تأويل النصوص‬ ‫املقدسة‪ ،‬التي بني يديه؛ حيث كان يأمل‪ ،‬باإلضافة إىل ما سبق أن تلقّاه من النصوص املقدسة‪َ ،‬‬ ‫نزول‬ ‫ٍ‬ ‫تحل له مشكالته‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬سأل زعامء «يهودا» املنهكون‪،‬‬ ‫مزيد من نصوص الوحي التي ّ‬ ‫الذين كُتب لهم البقاء بعد تدمري الهيكل‪ ،‬يف عام ‪ 586‬قبل امليالد‪ ،‬نبيَّهم إرميا وحياً جديدا ً‪ ،‬ومل‬ ‫يحاولوا استنتاج طريقة للتعامل مع مشكالتهم من خالل العودة إىل كلامت إرميا السابقة‪.15‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فقد ظهرت الحاجة يف اليهودية واملسيحية إىل االنتقال من مرحلة «انتظار املزيد من الوحي» إىل‬ ‫مرحلة محاولة «تأويل النصوص املقدسة املعرتف بسلطتها الدينية‪ ،‬التي شكّلت مبجموعها الكتاب املق ّدس»‬ ‫بشكل متد ّرج استغرق وقتاً طويالً‪16‬؛ حيث كانت توجد لدى املسيحيني‪ ،‬ولسنوات عديدة‪ ،‬إمكاني ٌة ألن يرسل‬ ‫الله –تعاىل‪ -‬لهم رسوالً آخر‪ ،‬وكان لديهم‪ ،‬لسنوات عديدة‪ ،‬احتامل أن يتلقّوا رسالة رسولية لها سلطة دينية‪.‬‬ ‫أما يف حالة اإلسالم‪ ،‬فقد استغرقت مرحلة االنتقال من حالة انتظار الوحي إىل حالة تأويله ع ّدة‬ ‫ساعات فقط‪ ،‬فقد انقطع الوحي بشكل نهايئ مبوت رسول اإلسالم‪ ،‬ومن ث َ َّم مل يعد بإمكان الناس أن‬ ‫حل ساموي ملشكالتهم الجديدة‪ ،‬ألنهم فقدوا األمل‬ ‫أي ّ‬ ‫يطلبوا من رسولهم‪ ،‬أو من أي أحد غريه‪ّ ،‬‬ ‫متاماًيف أن يتلقوا املزيد من الوحي بعد وفاته‪ .‬لذلك‪ ،‬أصبح لزاماً عىل املسلمني فورا ً أن يلجؤوا إىل‬ ‫كل ما يستطيعون استثامره من دالالت نصوص الوحي املوجودة بني أيديهم‪ ،‬وعليه‪ ،‬فقد‬ ‫استثامر ّ‬ ‫و ّجهوا جهودهم شطر التأويل املكثف لهذه النصوص‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فقد كان عىل الرعيل األول من العلامء املسلمني من علامء الكالم‪ ،‬واللغة والنحو‪،‬‬ ‫والفقهاء‪ ،‬أن يبادر‪ ،‬ويأخذ عىل عاتقه‪ ،‬إبّان انقطاع الوحي مبارشة‪ ،‬مهمة تزويد املؤمنني بالهداية‬ ‫والتعاليم الدينية‪ .‬وهنا ميكن اإلشارة إىل أ ّن أول عامل مسلم بني هذا الرعيل األول‪ ،‬كان عبد الله بن‬ ‫عباس ابن عم الرسول‪ ،‬الذي كان أصغر منه بخمسني سنة‪ ،‬وعاش بني عامي (‪ 3‬قبل الهجرة‪68 -‬ه‪/‬‬ ‫‪ - 15‬إرميا ‪.42 :‬‬ ‫‪16- J. w. Doeve, Jewish Hermeneutics, 52 ff.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪61 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫‪687-619‬م)‪ .17‬ونستطيع‪ ،‬بعد االطالع عىل الجهود الكثيفة التي بذلها هؤالء العلامء‪ ،‬أن نقف عىل‬ ‫صدق ّية الخرب املأثور الذي يرت ّدد عىل ّ‬ ‫كل لسان‪« :‬العلامء ورثة األنبياء»‪.18‬‬ ‫لقد قام العلامء‪ ،‬بوصفهم ورثة األنبياء‪ ،‬مبه ّمتهم خري قيام‪ .‬فقد ك ّرسوا جهودا ً عظيمة لخدمة‬ ‫القرآن‪ ،‬ولك ّنهم مل ينفردوا بهذه الخدمة لوحدهم‪ ،‬فقد شاركهم فيها مجموعات أخرى من املسلمني‬ ‫كل هؤالء حياتَهم‪ ،‬وهم يزاولون مهنهم‬ ‫والنساخني‪ ،‬واملجلِّدين‪ ،‬والق ّراء‪ ،‬حيث قىض ّ‬ ‫مثل الخطّاطني‪ّ ،‬‬ ‫يف سبيل خدمة القرآن الكريم‪ .‬ولقد كان حفظ القرآن‪ ،‬حتى وقت قريب‪ ،‬املادة التعليمية الوحيدة‬ ‫يف التعليم االبتدايئ اإلسالمي‪ .19‬وميكن القول إ ّن الجهد الفكري‪ ،‬الذي كان يبذله األطفال لحفظ‬ ‫كل ما ميكن أن تتصوره املخيلة الغربية‪.‬‬ ‫القرآن يف جميع أصقاع العامل اإلسالمي‪ ،‬يتجاوز َّ‬ ‫لقد كانت مؤلفات املفرسين املسلمني موضع اهتامم دائم من ِقبل علامء الغرب املهتمني‬ ‫باإلسالم واملراقبني لشؤونه‪ .‬قد يكون هذا االهتامم الغريب مثار استغراب الكثري من املسلمني‬ ‫التقليديني‪ ،‬وذلك بسبب محدودية عناية علامء املسلمني بتاريخ التفسري بشكل مستقل‪ ،‬حيث‬ ‫مل يصبح من املألوف‪ ،‬وال من العمل االستثنايئ‪ ،‬أن نرى الباحثني املسلمني يؤلّفون كتباً مستقلة‬ ‫حول تاريخ التفسري إال ابتدا ًء من النصف الثاين من القرن العرشين‪ .20‬والكتاب الوحيد امله ّم يف‬ ‫الرتاث اإلسالمي‪ ،‬الذي اهتم بالتأريخ للتفسري هو كتاب السيوطي (طبقات املفرسين)‪ .‬وال ميكن‬ ‫الوصول إىل هذا الكتاب إال إذا استخدمنا النرشة الغربية له‪ ،‬وهي النرشة التي قام بها أحد علامء‬ ‫‪17 -EI2, I, 40, GAS I 25.‬‬ ‫‪18 -Wensink, A. J., A Handbook of Early Muhammadan Tradition, Leiden 1971². P 234.‬‬ ‫‪[- 19‬يشري املؤلف إىل حلقات «الكتاتيب»‪ ،‬التي كانت منترشة يف جميع أنحاء العامل اإلسالمي حتى وقت قريب‪ ،‬والتي ما زالت مستمرة‬ ‫حتى اآلن يف بعض املجتمعات اإلسالمية املعارصة‪ ،‬وبشكل خاص يف إفريقية‪ .‬وقد حلّت‪ ،‬اآلن‪ ،‬مدارس تحفيظ القرآن الكريم بأشكالها‬ ‫محل تلك «الكتاتيب»] املرتجم‪.‬‬ ‫املتنوعة يف معظم بالد العامل اإلسالمي ّ‬ ‫‪ -  20‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مصطفى الصاوي الجويني‪ ،‬منهج الزمخرشي يف تفسري القرآن وبيان إعجازه‪1968 ،‬م‪ .‬عبد الله محمود شحاته‪ ،‬منهج‬ ‫اإلمام محمد عبده يف تفسري القرآن الكريم‪1959 ،‬م‪ .‬محمد حسني الذهبي‪ ،‬التفسري واملفرسون‪1961 ،‬م‪ .‬عبد العظيم أحمد الغوبايش‪،‬‬ ‫تاريخ التفسري‪1971 ،‬م‪ .‬أبو اليقظان عطية الجبوري‪ ،‬دراسات يف التفسري ورجاله‪1971 ،‬م‪ .‬عفت محمد الرشقاوي‪ ،‬اتجاهات التفسري‬ ‫يف مرص يف العرص الحديث‪1972 ،‬م‪ [ .‬ميكن أن نضيف إىل الدراسات السابقة‪ ،‬قاسم القييس‪ ،‬تاريخ التفسري‪ ،‬بغداد‪1966 ،‬م‪ .‬ومحمد‬ ‫الفاضل بن عاشور‪ ،‬التفسري ورجاله‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪ .‬ومساعد مسلم آل جعفر‪ ،‬ومحي هالل الرسحان‪ ،‬مناهج املفرسين‪ ،‬بغداد‪1980 ،‬م‪.‬‬ ‫وعبد الغفور محمود مصطفى جعفر‪ ،‬التفسري واملفرسون يف ثوبه الجديد‪ ،‬القاهرة‪2007 ،‬م‪ .‬وصالح الخالدي‪ ،‬تعريف الدارسني مبناهج‬ ‫املفرسين‪ ،‬دمشق‪2008 ،‬م] املرتجم‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪62 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫وفضال عن ذلك‪ ،‬يبدو لنا أ ّن الجمهور‬ ‫ً‬ ‫مدينة ليدن‪ ،‬مورسينج (‪ )A. Meursinge‬يف عام ‪1839‬م‪.21‬‬ ‫اإلسالمي يُظهر قدرا ً من االهتامم باقتناء نسخ جميلة مزركشة‪ ،‬أو متل ّوة‪ ،‬أو مرتّلة من القرآن يوازي‬ ‫قدر اهتاممه باقتناء كتب التفسري‪.‬‬ ‫يُعد كتاب غولدزيهر (‪)Goldziher)(Richtungen der Islamischen oranauslegung‬أشهر‬ ‫مثرة من مثرات االهتامم الغريب بدراسة تاريخ التفسري‪ .‬وقد تُرجم هذا الكتاب إىل العربية بعنوان‬ ‫(املذاهب اإلسالمية يف تفسري القرآن)‪ .22‬كام يبدو من عنوان هذا الكتاب‪ ،‬إنه ال يُعنى برسد تأريخ‬ ‫زمني لكتب التفسري؛ بل هو محاولة لتصوير اتجاهات عدة ميكن استخالصها يف مجال تفسري القرآن‬ ‫من البداية إىل محمد عبده (ت‪1905‬م)‪ .‬فهذا الكتاب ال يق ّدم لنا تصنيفاً زمنياً ألدبيات التفسري‪ ،‬لذلك‬ ‫هو يرتك‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬اإلشارة إىل كثري من كتب التفسري‪ ،‬التي تحظى بإقبال الق ّراء عليها يف العامل‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ألنها ال تخدم الهدف الذي أراده غولدزيهر من وراء تأليف كتابه؛ أي تبيني معامل اتجاهات‬ ‫تفسري القرآن عند املسلمني‪ .‬فهو مل يُرش‪ ،‬يف كتابه هذا‪ ،‬إىل تفاسري مشهورة‪ ،‬مثل‪ :‬تفاسري ابن كثري‬ ‫(ت‪774‬ه‪1373 /‬م)‪ ،‬واآللويس (ت‪1271‬ه‪1854/‬م)‪ ،‬والنسفي (ت‪710‬هـ‪1310/‬م)‪ ،‬وأيب السعود‬ ‫(ت‪982‬هـ‪1574 /‬م)‪ ،‬وأيب حيان (ت ‪745‬هـ‪1344 /‬م)‪ ،‬ومل يظفر تفسري جالل الدين السيوطي‬

‫‪21- De Interpretibus Korani, Ed. A,Meursinge, Leiden 1839.‬‬ ‫[يف الحقيقة‪ ،‬أبدى العلامء املسلمون‪ ،‬عرب تاريخهم العلمي‪ ،‬اهتامماً ملحوظاً بالتأريخ لعلامء التفسري‪ ،‬من خالل عدد ال بأس فيه من‬ ‫الكتب التي حملت عنوان (طبقات املفرسين)‪ .‬من أشهر هذه الكتب التي وصلتنا اليوم‪( :‬طبقات املفرسين) للسيوطي‪ ،‬بتحقيق عيل‬ ‫محمد عمر ‪ ،‬نُرش يف مرص عام ‪1976‬م‪ ،‬وكتاب (طبقات املفرسين) لشمس الدين محمد بن عيل الداوودي (ت ‪945‬ه)‪ ،‬وهو تلميذ‬ ‫السيوطي‪ ،‬بتحقيق عيل محمد عمر‪ ،‬نُرش يف مرص عام ‪1972‬م‪ ،‬وكتاب (طبقات املفرسين) ألحمد بن محمد األدنه وي من علامء القرن‬ ‫الحادي عرش الهجري‪ ،‬بتحقيق الدكتور سليامن بن صالح الخزي‪ ،‬نُرش يف السعودية عام ‪1997‬م‪ ،‬ومن الكتب الحديثة‪ ،‬التي تابعت‬ ‫االهتامم العلمي بالتأريخ للمفرسين‪ ،‬نذكر‪ :‬كتاب (معجم املفرسين من صدر اإلسالم حتى العرص الحارض) يف مجلدين‪ ،‬لعادل نويهض‪،‬‬ ‫لبنان‪1983 ،‬م‪ .‬وقد قامت مجموعة من الباحثني‪ ،‬يف عام ‪2003‬م‪ ،‬بإصدار (املوسوعة امليرسة يف أمئة التفسري واإلقراء والنحو واللغة من‬ ‫القرن األول إىل املعارصين)‪ ،‬يف ثالثة مجلدات‪ ،‬واملوسوعة من نرش مجلة الحكمة الصادرة يف لندن] املرتجم‪.‬‬ ‫‪ -22‬ترجم هذا الكتاب عيل حسن عبد القادر‪ ،‬بعنوان‪ ،‬املذاهب اإلسالمية يف تفسري القرآن‪ ،‬القاهرة‪1944 ،‬م‪ ،‬وأُعيدت طباعته‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪.L. Gardet & M.-M Anawati, Introduction à la théologie musulmane, 26‬‬ ‫[ يف الحقيقة كانت ترجمة الدكتور عيل حسن عبد القادر لهذا الكتاب الرائد ترجمة جزئية‪ ،‬لذلك قام‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬صديقه الدكتور عبد‬ ‫الحليم النجار بإنجاز ترجمة كاملة لهذا الكتاب‪ ،‬وقد عنون ترجمته تلك بـ (مذاهب التفسري اإلسالمي)‪ .‬انظر مقدمة هذه الرتجمة‪ ،‬التي‬ ‫كتبها الدكتور النجار‪ ،‬إجنتس جولد تسهر‪ ،‬مذاهب التفسري اإلسالمي‪ ،‬ترجمة عبد الحليم النجار‪ ،‬دار اقرأ‪ ،‬بريوت‪،‬ط‪1985 ،3‬م] املرتجم‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪63 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫املحل (ت ‪864‬هـ‪ ،)1459 /‬املعروف بتفسري (الجاللني)‪ ،23‬وهو‬ ‫(ت‪911‬ه‪1505 /‬م)‪ ،‬وجالل الدين ّ‬ ‫تفسري منترش بني األوساط الشعبية للمسلمني‪ ،‬إال بإشارة موجزة يف الهامش‪.‬‬ ‫يفرتض غولدزيهر وجود خمسة مذاهب أو اتجاهات لتفسري القرآن عند املسلمني‪1 :‬ـ تفسري‬ ‫باألثر ‪ .2‬تفسري عقدي ‪ .3‬تفسري صويف ‪ .4‬تفسري مذهبي ‪ .5‬تفسري عرصي‪ .‬يصبح الجانب الضعيف‬ ‫يف هذا التقسيم واضحاً‪ ،‬عندما نرى أ ّن غولدزيهر قد تع ّرض لدراسة الزمخرشي‪ ،‬الذي يُع ّد املفرس‬ ‫املخصص للتفسري العقدي؛ أل ّن الزمخرشي‬ ‫األكرث أهميّة يف ميدان التفسري اللغوي والبياين‪ ،‬يف الفصل ّ‬ ‫متكلّ ٌم مبتدعٌ‪ ،‬وميثّل مدرسة املعتزلة يف العقائد‪.‬‬ ‫يف هذه الدراسة‪ ،‬سوف نركّز‪ ،‬بشكل رئيس‪ ،‬عىل ما درسه غولدزيهر يف الفصل األخري من كتابه؛‬ ‫أي الفصل املخصص لدراسة التفسري العرصي‪ .‬وليك نرسم صورة واضحة لتفسري القرآن يف مرص يف‬ ‫العرص الحديث‪ ،‬فإنّنا ندعو القارئإىل أن يتخ ّيل معنا مفسِّ ي القرآن ‪-‬كام سبق أن أرشنا إىل ذلك‬ ‫من قبل ‪ -‬وكأنهم يعملون معاً يف غرفة مستديرة كبرية يف مكانٍ ما وسط القاهرة‪ .‬ويضع يف باله‬ ‫أ ّن هؤالء املفرسين ينظرون إىل القرآن ومقتضيات تفسريه من ثالث زوايا مختلفة‪ :‬العلوم الكونية‪،‬‬ ‫اللغة والبيان‪ ،‬الشؤون اليومية والعملية للمسلمني يف هذا العامل‪.‬‬ ‫كل هؤالء الكتّاب مصادر تفسري واحدة‪ ،‬حيث يستخدم الجميع تفسري الطربي‬ ‫ويستخدم ّ‬ ‫كل‬ ‫(ت‪310‬هـ)‪ ،‬والزمخرشي (ت‪538‬هـ)‪ ،‬وابن كثري (ت‪774‬هـ)‪ ،‬ومحمد عبده (ت‪1905‬م)‪ .‬ويقتبس ٌّ‬ ‫منهم من هذه املصادر بحريّة واسعة‪ ،‬دون أن يشريوا‪ ،‬يف الغالب‪ ،‬إىل أسامئها يف كتبهم‪ .‬ويستخدمون‪،‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬معاجم لغوية واحدة‪ ،‬وهذه املعاجم هي البن منظور (ت‪711‬هـ)‪ ،‬والجوهري (ت‪393‬هـ)‪،‬‬ ‫والفريوزآبادي (ت‪817‬هـ)‪ .‬ويستخدمون‪ ،‬أيضاً‪ ،‬كتابني آخرين من كتب علوم القرآن هام‪ :‬أسباب‬ ‫كل هذه املصادر ُملك ّية عامة‪.‬ولذلك‬ ‫النزول للواحدي‪ ،‬وكتاب اإلتقان يف علوم القرآن للسيوطي‪ .‬وتُع ّد ّ‬ ‫وكل هؤالء‬ ‫فإنّه من النادر أن يت ّم الترصيح بها‪ ،‬واالعرتاف بفضلها يف حالة االقتباس‪ ،‬أو االقرتاض منها‪ّ .‬‬ ‫املفرسين يستخدم النص القرآين نفسه الذي نرشته لجنة مرصية ملكية من الخرباء يف عام ‪1924‬م‪.‬‬ ‫كل مفسِّ منهم كتباً خاصة ينفرد باستخدامها‪ ،‬من مثل تفاسري أيب حيان‪ ،‬والرازي‪ ،‬وأيب‬ ‫ويستخدم ُّ‬ ‫السعود‪ .‬ونجد‪ ،‬يف غرفة القراءة التي نتخيل وجودها‪ ،‬كتباً إضافية يبدو لنا يف الظاهر أ ّن صلتها‬ ‫بالقرآن ضعيفة‪ ،‬أو ال توجد لها صلة به عىل اإلطالق؛حيث نجد كتباً يف العلوم الكونية‪ ،‬والنقد‬ ‫‪23 -Goldziher, I.,Die Richtungen der Islamischen Koranauslegung,Leiden,1920.P 346.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪64 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫النيص‪ ،‬وفقه اللغة والبيان‪ ،‬كام نجد‪ ،‬أيضاً‪ ،‬منشورات عامة عن اإلسالم من قبيل ك ّراسات قادة‬ ‫الجامعات اإلسالمية‪ ،‬وكتب يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬وخطب ومواعظ دينية‪ ،‬ومجالت وجرائد وصحف‪.‬‬ ‫ويف الحقيقة أن الكثري من الكتب‪ ،‬التي أرشنا إليها أوالً [الكتب يف العلوم الكونية] ليست كتباً‬ ‫أصلية؛ بل هي كتب مقتبسة من الكتب الغربية‪ .‬وعىل الرغم من أ ّن األفكار الغربية كان لها تأثري‬ ‫كبري بشكل عام‪ ،‬إال أنه يبدو لنا أنّها مارست دورها بشكل رئيس عن طريق مصادر غري مبارشة‪،‬‬ ‫ويكاد يكون من املستحيل علينا أن نعرف املصادر األصلية لهذه األفكار‪ .‬وهذا األمر قد دفع بعض‬ ‫الباحثني إىل االعتقاد بأنّه من املمكن أن تكون هذه املصادر عبارة عن مصادر شفهية‪.‬‬ ‫كل مجموعة من املفرسين‬ ‫تتنوع االهتاممات واألنشطة يف الغرفة املتخيّلة‪ ،‬بحسب مركز اهتامم ّ‬ ‫فيها‪ .‬فلدينا مجموعة من املفرسين تشكّل قضية إثبات أ ّن العلوم الحديثة ال تتناقض مع القرآن؛ بل‬ ‫ميكن أن نستنبطها منه‪ ،‬محور اهتاممها‪ .‬ويرى أفراد هذه املجموعة امللتزمون بهذه القضية واملنافحون‬ ‫حق الفهم إال بعد انتشار العلوم الطبيعية والتطبيقية للقرن للتاسع‬ ‫عنها أ ّن القرآن ال ميكن أن يُفهم ّ‬ ‫عرش والقرن العرشين يف العامل اإلسالمي‪ .‬هذا النوع من التفسري يُس ّمى‪ ،‬يف اللغة العربية‪( ،‬التفسري‬ ‫العلمي)‪ .‬وهذا النوع من التفسري ال يحظى مبجموعة من املنارصين املتحمسني فحسب؛ بل يحظى‪،‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬مبجموعة من الخصوم األقوياء الذين يرفضون بش ّدة هذا النوع من التفسري‪ ،‬ويصفونه بأنّه‬ ‫«بدعة حمقاء»‪ .24‬سنتناول باملناقشة والتحليل التفسري العلمي يف الفصل الثالث من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫وتعترب مجموعة أخرى من املفرسين‪ ،‬داخل غرفة القراءة‪ ،‬أ ّن قضيتهم األساسية هي مساعدة‬ ‫قرائهم يف فهم القرآن كام فهمه الصحابة أيام نزول القرآن‪ .‬وبحسب هذه املجموعة‪ ،‬من املستحيل‬ ‫االستفادة من الهداية الروحية للقرآن‪ ،‬من دون أن يُفهم بالضبط املقصودمن العبارات القرآنيةمن‬ ‫الناحية اللغوية واألدبية‪ .‬ويبُدي علامء الدراسات القرآنية يف الغرب اهتامماً خاصاً بجهود مفرسي‬ ‫هذه املجموعة؛ ألنّه ال يُشرتط أن يكون الباحث مسلامً حتى يكون مهتامً باملعاين األدبية للقرآن‪.‬‬ ‫سوف نناقش التفسري األديب والبياين للقرآن يف الفصل الرابع‪ .‬وتتخذ مجموعة ثالثة يف «غرفتنا» من‬ ‫القضايا اليومية واالجتامعية للمسلمني يف هذا العامل بؤر ًة تتجمع حولها جهودها؛ حيث يتساءل‬ ‫أعضاء هذه املجموعة حول مدى تأثري القرآن الكريم يف واقع املسلمني وحياتهم االجتامعية‪.‬‬ ‫ويظهرون‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬قلقاً حول تأثري العامل الغريب بالحياة الروحية للمسلمني‪ ،‬وهم يرفضون‬ ‫تأثري األفكار الغربية يف مرص فيام يتعلق بالعدالة واألشواق االجتامعية‪ ،‬عندما تتعارض هذه األفكار‬ ‫مع املبادئ والقواعد املتوارثة للرشيعة اإلسالمية‪ .‬وهم يشكّكون يف الصبغة اإلسالمية للمجتمع‬ ‫‪- 24‬محمد كامل حسني‪ ،‬الذكر الحكيم‪.182 ،‬‬ ‫العدد‬

‫(‪65 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫املرصي‪ .‬لذلك هم يرون رضورة نرش رسالة القرآن يف املجتمع املرصي مبساعدة الجمعيات الدينية‪،‬‬ ‫ومنشوراتها الدورية‪ ،‬وذلك من خالل الخطب والدروس يف املساجد‪ ،‬وعرب قنوات الصحافة العامة‪.‬‬ ‫سنتناول التفسري العميل يف الفصل الخامس من خالل مناقشة مجموعة خاصة من التفاسري‪.‬‬ ‫نفسه يف جانب واحد من الجوانب الثالثة اآلنفة الذكر‪ .‬وعليه‬ ‫يبدو لنا أنّه مل يحرص ُّ‬ ‫َ‬ ‫أي مفسِّ‬ ‫فإ ّن التفاسري التي أنتجوها مل تكن حكرا ً عىل جانب واحد من جوانب التفسري‪ .‬ولكننا‪ ،‬عىل الرغم‬ ‫أي اهتامم إال بالقضايا التي‬ ‫املفس حنفي أحمد‪ ،‬الذي مل يُ ِبد ّ‬ ‫من ذلك‪ ،‬نجد بعض االستثناءات‪ ،‬مثل ّ‬ ‫تثريها اآليات الكونية يف القرآن‪ .‬وكذلك الدكتورة بنت الشاطئ‪ ،‬التي اقترصت‪ ،‬يف كتبها‪ ،‬بشكل رئيس‪،‬‬ ‫عىل تفسري القرآن يف ضوء اللغة واألدب والبيان‪ .‬غري أ ّن تقرير هذه الحقيقة ال ينفي أ ّن كتب التفسري‬ ‫يف العرص الحديث‪ ،‬الكبرية منهابشكل خاص‪ ،‬عبارة عن كتب تحوي مزيجاً من العلوم واملعارف‪ ،‬فهي‬ ‫تتض ّمن‪ ،‬فضالً عن القضايا العملية‪ ،‬واملواعظ والخطب العصامء‪ ،‬استطرادات لغوية وبيانية‪ ،‬وعلمية‪.‬‬ ‫غني بالدالالت إىل درجة أنّه قد يكون من‬ ‫يعتقد الكثري من املفرسين أ ّن القرآن الكريم ٌ‬ ‫كتاب ّ‬ ‫العبث أن نقرص املعاين العديدة لكلامته وآياته عىل معنى واحد‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬إنهم يقومون‪ ،‬أحياناً‪،‬‬ ‫بعرض قامئة كاملة من املعاين املحتملة لكلمة واحدة من غريب القرآن‪ ،‬من دون املجازفة برتجيح أحد‬ ‫هذه املعاين واختياره بوصفه هو املعنى «الحقيقي»‪ ،‬أو املعنى «الصحيح» لهذه الكلمة‪ ،‬أو تلك اآلية‪.‬‬ ‫وهذا املسلك يف التعامل مع املعاين القرآنية‪-‬عىل الرغم من أنّ بعض العلامء املرصيني‬ ‫لكل كلمة أو‬ ‫املعارصين يعرتض عىل املفرسين الذين ال يجتهدون يف تقرير معنى مح ّدد واحد ّ‬ ‫يفس البيضاوي (‪685‬هـ) الكلمة‬ ‫آية قرآنية‪ -‬له جذور يف الرتاث التفسريي‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ّ ،‬‬ ‫الغامضة (العاديّات) (وكذلك يفعل مع كل كلامت الجمع املؤنثة التي أقسم الله –تعاىل‪ -‬بها‬ ‫يف صدر سورة العاديات) بأنها تشري إىل املالئكة‪ ،‬أو النجوم‪ ،‬أو النفوس‪ ،‬أو الخيول‪ ،‬أو أيدي‬ ‫الرجال الذين يقاتلون يف سبيل اإلسالم‪.25‬‬ ‫‪ - 25‬رمبا ليس من فضول الكالم أن نشري‪ ،‬هنا‪ ،‬إىل أ ّن القول بتعدّدية املعاين موجود‪ ،‬أيضاً‪ ،‬عند علامء الالهوت املسيحيني‪ .‬فعىل سبيل‬ ‫كل‬ ‫كل التأويالت املختلفة هي تأويالت صحيحة املعنى‪ ،‬و‪ ...‬يجب أن تكون ّ‬ ‫املثال‪ ،‬إ ّن القديس توما األكويني يقول‪« :‬يحب القول بأ ّن ّ‬ ‫هذه التأويالت متفقة مع السياق»‪ .‬يقتبس توما األكويني هذه الفكرة من كالم القديس أوغسطني‪ ،‬الذي يقول فيه ‪« :‬حتى لو أخذنا‬ ‫باملعنى الحريف‪ ،‬فإ ّن املقطع الواحد من الكتاب املقدس ميكن أن يكون له أكرث من معنى واحد»‪.‬‬ ‫انظر املرجع التايل‪ ،‬الذي أخذنا منه النصني السابقني‪ .J. Wilkinson,Interpretation and community, 186:‬وعىل وجه العموم‪ ،‬إ ّن‬ ‫مشكلة الغموض يف األدب‪ ،‬والسيّام يف الشعر‪ ،‬ليست من البساطة مبكان‪ ،‬كام ميكن أن يتصور أحدنا‪ .‬وقد برهن إمبسون يف كتابه (أنواع‬ ‫العدد‬

‫(‪66 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫مييل املفرسون‪ ،‬يف العرص الحديث‪ ،‬إىل اقتباس أفكار بعضهم بعضاً بحرية واضحة‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬ ‫تقرتح الدكتورة بنت الشاطئ‪ ،‬وهي أستاذة يف اللغة العربية يف جامعة عني شمس الحكومية‪ ،‬حالّ‬ ‫للمشكلة‪ ،‬التي تثريها قضية الكلمتني اللتني أقسم بهام الله –تعاىل‪ -‬يف بداية سورة الضحى؛ أي القسم‬ ‫بالضحى‪ ،‬والقسم بالليل‪ ،‬وهام لحظتان متناوبتان يف اليوم الواحد‪ ،‬فهي تفرتض أ ّن الله يشري‪ ،‬بهذين‬ ‫القسمني‪ ،‬إىل التناوب املتساوي والطبيعي بني اللحظة التي يتلقّى فيها رسول الله الوحي‪ ،‬وتوازيها لحظة‬ ‫(والضحى)‪ ،‬واللحظة التي ال يتلقى فيها هذا الوحي‪ ،‬وتوازيها لحظة (والليل إذا سجى)‪ .26‬لقد اقتبس‬ ‫هذه الفكرة‪ ،‬محمد فرج العقدة‪ ،‬وهو أستاذ مساعد للغة العربية يف جامعة األزهر الدينية‪ .27‬وهذا‬ ‫االقتباس الفت للنظر‪ ،‬ومثري لالهتامم بشكل خاص؛ أل ّن بيئة جامعة األزهر تشكّل عاملاً مختلفاً عن العامل‬ ‫علمي بني هذين العاملني‪.‬‬ ‫الذي تشكّله بقية الجامعات الحكومية‪ ،‬إىل درجة أنّه يكاد ال يوجد أ ّي اتصال ّ‬ ‫ومم تجدر اإلشارة إليه أ ّن املفرسين املرصيني ال يكتفون باقتباس أفكار بعضهم بعضاً فحسب؛‬ ‫ّ‬ ‫بل إ ّن األمر قد يصل‪ ،‬أحياناً‪ ،‬إىل وجود صفحات كاملة متطابقة يف كتبهم‪ .‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬ ‫نجد أ ّن ما كتبه الشيخ محمد حجازي‪ ،28‬حول تع ّدد الزوجات‪ ،‬يتطابق بشكل كامل مع املقطع‪،‬‬ ‫الذي كتبه محمد عبد املنعم جامل‪ ،29‬يف تفسريه حول تع ّدد الزوجات‪ ،‬دون أن ينسب ما نقله‬ ‫إىل حجازي‪ .‬ونظرا ً إىل أ ّن عبد املنعم جامل قد أدرج بني أسامء مصادره اسم تفسري حجازي‪ ،‬وأنّه‬ ‫قد نقل نصوصاً نسبها إىل أصحابها املفرسين‪ ،‬مثل ما فعل مع النصوص‪ ،‬التي نقلها من الطربي‬ ‫واآللويس‪ ،‬وغريهام‪ ،‬فإنّنا ميكن أن نتجاهل االحتامل القائل إ ّن إغفال عزو جامل هذا املقطع بشكل‬ ‫خاص إىل حجازي ال يعدو أن يكون أمرا ً عرضياً‪ ،‬وميكن أن نتجاهل‪ ،‬أيضاً‪ ،‬االحتامل القائل إ ّن كال‬ ‫يبق أمامنا إال أن نذهب إىل أ ّن جامل‬ ‫املفرسين قد استخدم مصدرا ً مشرتكاً بينهام‪ ،‬وبهذا‪ ،‬فإنّه مل َ‬ ‫قد نقل نصاً طويالً من حجازي دون اإلشارة إىل اسمه‪.‬‬ ‫ال يحرص الجمهور املرصي اهتاممه بالتفاسري الحديثة فحسب‪ ،‬فام زالت تفاسري القرآن‪ ،‬التي‬ ‫كُتبت قبل القرن الثاين عرش امليالدي‪/‬السادس الهجري‪ ،‬مقروءة عىل نطاق واسع‪ .‬فعىل سبيل‬ ‫الغموض السبعة) عىل مدى تشعب وصعوبة قضية الغموض‪.‬‬ ‫‪.W. Empson’sSeven Types of Ambiguity‬‬ ‫‪- 26‬عائشة عبد الرحمن‪ ،‬بنت الشاطىء‪ ،‬التفسري البياين للقرآن الكريم‪1/17 ،‬ـ‪.26‬‬ ‫‪ - 27‬محمود فرج العقدة‪ ،‬تفسري جزء ع ّم‪.98 ،‬‬ ‫‪- 28‬محمد محمود حجازي‪ ،‬التفسري الواضح‪.71 /4 ،‬‬ ‫‪- 29‬محمد عبد املنعم الجامل‪ ،‬التفسري الفريد‪.502 ،‬‬ ‫العدد‬

‫(‪67 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫املثال‪ ،‬إ ّن تفسري (الجاللني)‪ ،‬املكتوب سنة (‪872-871‬ه‪1467-1466 /‬م)‪ ،‬قد طُبع يف القاهرة‪،‬‬ ‫عىل األقل‪ ،‬سبع مرات بني عامي ‪ 1926‬و‪1940‬م‪ .30‬و(تفسري الكشاف) للزمخرشي املكتوب عام‬ ‫‪1132/1131‬م‪ ،‬طُبع‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬خمس مرات قبل عام ‪1919‬م‪ .31‬وطُبع يف القاهرة‪ ،‬عىل األقل‪،‬‬ ‫ثالث مرات ما بني عامي ‪ 1926‬و‪1970‬م‪ .32‬قد يكون من الصعب أن نجد عاصمة غربية طبعت‬ ‫تفسريا ً للكتاب املقدس يعود تاريخُه إىل القرن الثاين عرش ثالث مرات يف غضون خمسني سنة‪ ،‬أو‬ ‫طبعت تفسريا ً يعود إىل القرن الخامس عرش سبع مرات يف خالل خمس عرشة سنة‪.33‬‬ ‫عىل الرغم من أ ّن الجمهور املرصي يتكلّم بالعربية‪ ،‬ويقرأ بها‪ ،‬وال يحتاج‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬إىل ترجمة القرآن‪،‬‬ ‫إال أنّنا شهدنا‪ ،‬يف الثالثينات بشكل خاص‪ ،‬نقاشاً وجدالً حول جواز ترجمة القرآن‪ .‬وقد كان هذا النقاش‬ ‫مرتبطاً بشكل صميمي بالجدل السيايس‪ ،‬الذي كان سائدا ً يومئ ٍذ حول مسألة «الجامعة اإلسالمية»بشكل‬ ‫خاص؛ حيث ألغت الحكومة الرتكية‪ ،‬بزعامة مصطفى كامل أتاتورك‪ ،34‬الخالفة العثامنية‪ ،‬وعمدت إىل‬ ‫تغيري لغة األذان من اللغة العربية إىل اللغة الرتكية‪ .‬وقد أراد حكام تركيا‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬تغيري لغة خطب‬ ‫الجمعة يف املساجد من العربية إىل الرتكية‪ ،‬وقاموا بدعم ترجمة القرآن من العربية إىل الرتكية‪.‬‬ ‫ونظرا ً إىل أ ّن قراءة القرآن يف الصلوات الخمس املفروضة يومياً واجبة‪ ،‬فقد «أصبحت مسألة ترجمة‬ ‫القرآن محور القضية‪ ،‬التي تساءل من خاللها الناس عن مدى جواز قراءة القرآن يف هذه الصلوات باللغة‬ ‫الرتكية بدل العربية»‪.35‬ويف الحقيقة أ ّن العلامء يف مرص قد قاموا بحمل أعباء مقاومة مرشوع ترجمة‬ ‫القرآن‪ ،‬بعد أن متكّن النظام الرتيك‪ ،‬بقيادة أتاتورك‪ ،‬من التغلّب عىل مقاومة إسالميي تركيا لهذا املرشوع‪.‬‬ ‫اتخذ رشيد رضا موقفاً متشددا ً يف الجدل‪ ،‬الذي ثار حول ترجمة القرآن‪ ،‬فلم يكن يستطيع‪،‬‬ ‫أي يشء من شأنه أن يؤ ّدي إىل إضعاف‬ ‫بوصفه من أنصار «الجامعة اإلسالمية»‪ ،‬إال أن يرفض ّ‬ ‫‪30 -Nussayr, Arabic Books Published in.. Egypt between 1926 & 1940, 26.‬‬ ‫‪ - 31‬يوسف إليان رسكيس‪ ،‬معجم املطبوعات العربية واملع ّربة‪.975 974- ،‬‬ ‫‪ (sic).Nussayr, ArabicBooks‬انظر‪32 -141/2 .:‬‬ ‫وقد طبع مصطفى الحلبي (تفسري الكشاف) يف أربعة أجزاء يف القاهرة عام ‪1966‬م‪.‬‬ ‫بدال من البحث عن تفاسري للكتاب املقدس‪ ،‬وأخذ القرن الثامن عرش‬ ‫‪- 33‬ولكن قد يختلف األمر‪ ،‬لو أ ّن أحدنا بحث عن ِس َي للسيد املسيح ً‬ ‫أو التاسع عرش بدالً من القرنني الثاين عرش والخامس عرش‪.‬‬ ‫‪- 34‬مصطفى كامل أتاتورك (‪1881‬ـ ‪1938‬م)‪ ،‬وصل إىل السلطة عام ‪.1922‬‬ ‫‪35 - N. Berkes,The Development of Secularism in Turkey, 487-489.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪68 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫الوحدة اإلسالمية‪ ،‬مثل إلغاء الخالفة‪ ،‬أو ترجمة القرآن من لغته العربية األصلية إىل واحدة من‬ ‫اللغات‪ ،‬التي يتكلم بها املسلمون‪ ،‬وهي لغات ال تؤ ّدي‪ ،‬يف نظره‪ ،‬إال إىل متزيق شمل املسلمني‪.‬‬ ‫وبحسب رشيد رضا‪ ،‬إ ّن اللغة العربية هي اللغة الحقيقية الوحيدة يف العامل اإلسالمي‪ ،‬وقد تب ّنى‬ ‫الرأي القائل بأ ّن عىل الحكومة الرتكية اعتامد اللغة العربية لغ ًة رسمية لها داخل تركيا نفسها‪،‬‬ ‫لتثبت أ ّن األتراك قد بقوا يف إطار اإلسالم‪.36‬‬ ‫بعد أن خفتت حدة ح ّمى الجدل السيايس‪ ،‬الذي رافق هذه القضية‪ ،‬وصل النقاش حولها إىل‬ ‫عب عن هذه الرؤية املرحوم‬ ‫نهاية منطقية‪ ،‬وهي النهاية التي متثّل الرؤية املرصية اليوم‪ .‬وقد ّ‬ ‫الشيخ محمود شلتوت (ت‪1963‬م)‪ ،37‬شيخ الجامع األزهر؛ حيث يرى هذا الشيخ أ ّن ترجمة القرآن‬ ‫أي مانع منها إذا نظرنا إليها عىل أنّها‬ ‫رضب من رضوب تفسريه‪ ،‬وعليه‪ ،‬فإنّه ال ميكن أن يوجد ّ‬ ‫تفسري ليس أكرث‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ ّن القرآن‪ ،‬يف نسخته املرتجمة‪ ،‬ال يصلح أن يكون مصدرا ً رشعياً الستنباط‬ ‫األحكام الرشعية منه‪ ،‬كام هو شأن القرآن الكريم بلغته األصلية‪.38‬‬ ‫وإذا علمنا أن مجموع ًة من املواعظ والخطب املسيحية ‪-‬عىل الرغم من أ ّن بعضها قد يكون‬ ‫لكل طاقات التعبري‬ ‫شديد اإلحكام والتأثري‪ -‬التي يستخدمها الوعاظ‪ ،‬والتي تعتمد عىل استثامر ذيك ّ‬ ‫املستخدمة يف ترجمة الكتاب املقدس‪ ،‬متناقض ٌة إىل ح ٍّد ما مع معاين الكتاب املقدس املد ّون بلغته‬ ‫األصلية‪ ،‬فإنّنا ال ميكن إال أن نُبدي إعجابنا بالحكمة الثاوية خلف املوقف الذي أخذه املسلمون‬ ‫إزاء قضية ترجمة القرآن الكريم‪.‬‬ ‫نحب أن نشري إىل أ ّن الشيخ شلتوت قد أجاز‪ ،‬ألسباب تقويّة‪ ،‬أن يستخدم املسلم‪ ،‬الذي ال‬ ‫وهنا‪ّ ،‬‬ ‫يحسن العربية‪ ،‬القرآ َن املرتجم يف صلواته الخمس املفروضة يومياً‪.‬‬

‫‪- 36‬محمد رشيد رضا‪ ،‬ترجمة القرآن وما فيها من مفاسد ومنافاة اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪1925 ،‬ـ ‪1926‬م‪ .‬وانظر‪ ،‬أيضاً‪ ،‬محمد املحياوي‪،‬ترجمة‬ ‫القرآن الكريم‪ :‬عرض لسياسة وفتنة الدين‪ ،‬القاهرة‪1936 ،‬ـ‪1937‬م‪.‬‬ ‫‪[ - 37‬محمود شلتوت (‪1963 _1893‬م)‪ :‬من أعالم التفسري والفقه واإلصالح الديني يف مرص والعامل اإلسالمي يف العرص الحديث‪ ،‬كان عضوا ً‬ ‫يف هيئة كبار العلامء‪ ،‬وعضوا ً يف مجمع اللغة العربية يف القاهرة‪ ،‬ثم أصبح شيخاً لألزهر إىل وفاته‪ .‬من مؤلفاته‪ :‬تفسري األجزاء العرشة‬ ‫األوىل من القرآن الكريم‪ ،‬اإلسالم عقيدة ورشيعة‪ ،‬القرآن واملرأة‪ ،‬القرآن والقتال‪ .‬انظر‪ :‬عمر رضا كحالة‪ ،‬معجم املؤلفني‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬ ‫دمشق‪ ،‬ط‪1993 ،1‬م‪ ]813_3/812 ،‬املرتجم‬ ‫‪ - 38‬محمود شلتوت‪ ،‬اإلسالم عقيدة ورشيعة‪.481 ،‬‬ ‫العدد‬

‫(‪69 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫تختلف لغة القرآن الكريم شيئاً ما عن اللغة العربية الفصيحة املستعملة يف مرص يف العرص‬ ‫الحديث؛ حيث نجد بعض الرتاكيب النحوية‪ ،‬وبعض األدوات واألسامء واألفعال‪،‬مستعملة بشكل‬ ‫حرصي تقريباً يف إحدى هاتني اللغتني دون اللغة األخرى‪ .‬وقد أ ّدى هذا االختالف بني اللغة العربية‬ ‫ّ‬ ‫الفصحى يف العرص الحديث‪ ،‬وبني اللغة العربية يف القرن السابع امليالدي املستعملة يف القرآن‬ ‫الكريم‪ ،‬إىل ظهور تفاسري سعت إلعادة صياغة لغة القرآن باللغة العربية الحديثة‪ .‬وهكذا‪،‬ميكن‬ ‫النظر إىل هذه التفاسري عىل أنّها أشبه ما تكون بالرتجمة له إىل اللغة العربية املعارصة‪.‬‬ ‫أه ّم وأكرب هذه التفاسري كتاب (املنتخب يف تفسري القرآن)‪ ،‬الذي أصدرته لجنة حكومية مرصية‬ ‫هي املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية‪ .‬وقد ظهرت أقسام من هذا التفسري يف مالحق مجلة (منرب‬ ‫اإلسالم)‪ ،‬التي يصدرها هذا املجلس‪.‬‬ ‫وعىل سبيل املثال‪ ،‬إ ّن معنى كلمة (الدين) يف اآلية الرابعة من سورة الفاتحة (مالك يوم الدين)‪،‬‬ ‫التي ترجمها بل (‪ )Bell‬بــــــ «صاحب القوة والسلطة يوم الحساب»‪ ،‬يختلف يف لغة القرآن‪،‬‬ ‫عن معناه املستعمل اليوم يف اللغة العربية املعارصة‪ .‬فإذا أُطلقت هذه الكلمة يف الكتابة العربية‬ ‫املعارصة‪ ،‬فإنّها تعني «الدين»‪ ،‬أو «اإلميان»‪ ،‬يف حني أنّها تعني يف القرآن الكريم «الدين»‪ ،‬أو «الطاعة»‬ ‫فس كتاب (املنتخب) هذه اآلية‪ ،‬قام بإعادة صياغتها عىل الشكل اآليت‪:‬‬ ‫أو «الحساب»‪ .‬ولهذا‪ ،‬عندما ّ‬ ‫«ملك يوم الجزاء والحساب»؛ ألن كلمتي الجزاء والحساب مفهومتان متاماً يف اللغة العربية املعارصة‪.‬‬ ‫وإذا عدنا إىل مقدمة تفسري (املنتخب)‪ ،‬فإننا نجد املرشفني عىل إعداده يخربون الق ّراء بأنّهم‪:‬‬ ‫كتبوا هذا التفسري «من أجل جعل (نص القرآن الكريم) مالمئاً للرتجمة إىل لغة أجنبية»‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫فإنّنا ال نرىامنعاً مينعنا من أن نع ّد تفسري (املنتخب) ترجم ًة للقرآن الكريم إىل اللغة العربية‬ ‫الفصيحة املستخدمة يف العرص الحديث‪.‬‬ ‫وقد أ ّدى وجود نوع من االختالف بني لغة القرآن واللغة العربية الفصحى يف العرص الحديث‬ ‫إىل بروز نوع آخر من التفاسري القرآنية‪ ،‬وهو التفسري املدريس املو ّجه إىل تالمذة املدارس الثانوية‪.‬‬ ‫أكرث كتب هذا النوع طباعة وتوزيعاً تفس ٌري مؤلّف من ثالثني جزءا ً صغريا ً‪ ،‬كتبه ثالثة رجال‪ :‬محمود‬ ‫محمد حمزة‪ ،‬أستاذ سابق يف دار العلوم‪ ،‬ومفتش سابق يف التعليم الثانوي والفني‪ ،‬وحسن علوان‪،‬‬ ‫املراقب يف وزارة املعارف‪ ،‬ومحمد أحمد برانق‪ ،‬املفتش العام يف التعليم االبتدايئ‪.39‬‬ ‫‪- 39‬نرشت هذا التفسري دا ُر املعارف يف القاهرة ‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪70 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫نص قرآ ّين قد يصل إىل‬ ‫طريقة تصنيف هذا التفسري بسيطة؛ حيث يضع املؤلفون‪ ،‬بعد إيراد ّ‬ ‫صفحة كاملة تقريباً‪ ،‬قامئ ًة تض ّم رشحاً بلغة عربية حديثة بسيطة للكلامت القرآنية الواردة يف النص‬ ‫املدروس‪ ،‬والتي يتوقعون أ ّن فهمها يثري بعض الصعوبة بالنسبة إىل تالمذة املدارس الثانوية‪ ،‬ومن‬ ‫ث َّم يعقدون فقرة تحمل عنوان«مجمل املعنى»‪ ،‬يقومون‪ ،‬من خاللها‪ ،‬بإعادة صياغة للمعاين العامة‬ ‫للنص‪ ،‬ميكن أن نع ّدها من قبيل الرتجمة املعنوية ملجمل النص املدروس‪ .‬وبسبب هذه الطريقة‬ ‫البسيطة‪ ،‬من املمكن أن يكون هذا «التفسري» نافعاً ومفيدا ً جدا ً للطالب الغربيني‪ ،‬الذين ميتلكون‬ ‫قاعدة معرفية ال بأس فيها يف اللغة العربية الفصحى‪ ،‬ويرغبون يف البدء بدراسة القرآن الكريم‪.‬‬ ‫تصنيف تفاسري‬ ‫مل يحاول جميع املفرسين املرصيني‪ ،‬الذين بدؤوا عملهم التفسريي بعد ‪1900‬م‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كاملة‪ .‬وهذا أمر يثري االستغراب؛ أل ّن جميع التفاسري الكالسيكية‪ ،‬التي كانت ال تزال يف أيدي الناس‬ ‫تفس القرآن كلمة كلمة من أ ّول سورة إىل آخر سورة‪ .‬ويُس ّمى هذا‬ ‫يف ذلك الوقت‪ ،‬تفاسري كاملة‪ّ ،‬‬ ‫النوع من التفاسري الكاملة‪ ،‬التي تراعي الرتتيب القرآين يف تفسريها التفس َري «املسلسل»‪.‬‬ ‫ويف الوقت الحايل‪ ،‬يوجد لدينا نحو عرشين تفسرياً من تفاسري القرن العرشين «املسلسلة»‪.‬‬ ‫وأسامء هذه التفاسري‪ ،‬بحسب ما وصل إليه علمي‪ ،‬عىل النحو اآليت‪:‬‬ ‫ •عبد الجليل عيىس‪ ،‬املصحف امليرس‪1961( ،‬م)‪.40‬‬ ‫ •عبد الكريم الخطيب‪ ،‬التفسري القرآين للقرآن‪1969_1967( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •أحمد مصطفى املراغي‪ ،‬تفسري املراغي‪1945( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •حافظ عيىس عامر‪ ،‬التفسري الحديث‪1959( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •ابن الخطيب‪ ،‬عودة التفسري‪1934( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية‪ ،‬املنتخب‪1961( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •محمود محمد حمزة‪( ،‬باالشرتاك مع حسن علوان‪ ،‬ومحمد أحمد برانق)‪ ،‬تفسري القرآن‬ ‫الكريم‪1952( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •محمد عبد املنعم الجامل‪ ،‬التفسري الفريد‪1952( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •محمد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬تفسري القرآن‪1959( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •محمد أبو زيد الدمنهوري‪ ،‬الهداية والعرفان يف تفسري القرآن بالقرآن‪1930( ،‬م)‪.‬‬ ‫ •محمد عيل السايس‪ ،‬تفسري آيات األحكام‪1953( ،‬م)‪.‬‬ ‫علام بأ ّن جميع‬ ‫‪- 40‬التواريخ املوضوعة بني قوسني هي تواريخ مقدّمة الطبعة األوىل من هذه الكتب‪ ،‬أو التواريخ التقريبية للطبعة األوىل‪ً ،‬‬ ‫هذه الكتب قد ت ّم نرشها يف القاهرة‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪71 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫املفس‪1905( ،‬م)‪.‬‬ ‫•محمد فريد وجدي‪ ،‬املصحف َّ‬ ‫•محمد عزة دروزة‪ ،‬التفسري الحديث‪1960( ،‬م)‪.‬‬ ‫•محمد محمود حجازي‪ ،‬التفسري الواضح‪1952( ،‬م)‪.‬‬ ‫•محمد رشيد رضا‪ ،‬تفسري املنار‪1935_1901( ،‬م)‪.‬‬ ‫•مصطفى السقا‪ ،‬الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪1967( ،‬م)‪.‬‬ ‫•سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪1960_1950( ،‬م)‪.41‬‬

‫األقل حجامً‪ ،‬التي تتناول‬ ‫ما عدا هذه الكتب الكبرية‪ ،‬إننا نجد عددا ً ال يُحىص من كتب التفسري ّ‬ ‫بالتفسري الكامل سورة واحدة‪ ،‬أو مجموعة من السور‪ .‬وميكن أن نع ّد كتب التفسري‪ ،‬التي كتبتها‬ ‫الدكتورة عائشة عبد الرحمن‪ ،‬املعروفة ببنت الشاطئ‪ ،‬أكرث هذه الكتب أهمية‪.‬‬ ‫ونجد‪ ،‬إىل جانب كتب التفسري املطولة‪ ،‬التي تتناول القرآن بكامله بصورة مسلسلة‪ ،‬مجموع ًة‬ ‫من التفاسري «املوضوعية»؛ التي تعالج موضوعات قرآنية معيّنة‪ ،‬من قبيل‪ :‬الصيام‪ ،‬والطالق‪،‬‬ ‫واملرأة‪ ،‬أو تعالج موضوعات مثل القيادة‪ .‬وغالباً ما يذهب العلامء‪ ،‬الذين يعملون يف ميدان‬ ‫التفسري املوضوعي‪ ،‬إىل التشديد عىل الحقيقة القائلة‪ :‬إ ّن «جمع القرآن» مل يت ّم إال بعد وفاة‬ ‫الرسول عليه السالم؛ ولذلك‪ ،‬ال يوجد‪ ،‬يف نظرهم‪ ،‬إال قليالً‪ ،‬أو ال يوجد أبدا ً؛ أدلّة «توقيفية»‬ ‫تغيت‪،‬‬ ‫تتعلق برتتيب آياته وسوره الحايل‪ .‬ويقولون إنّه بسبب األزمنة والعادات الثقافية التي ّ‬ ‫أي يشء مينع‪ ،‬يف الوقت الحارض‪ ،‬من إعادة ترتيب القرآن الكريم وفق موضوعاته‪،‬‬ ‫فإنّه ال يوجد ّ‬ ‫ومن ث َ َّم إنجاز (املصحف املب ّوب)‪ ،‬وهو املرشوع الذي تبناه ودعا إليه أمني الخويل (ت‪1967‬م)‬ ‫يف كتابه (مناهج تجديد)‪.42‬‬

‫‪ [- 41‬أغفل املؤلف ذكر تفسري كبري ومه ّم ظهر يف تلك املرحلة هو تفسري الشيخ طنطاوي جوهري (ت‪1940‬م) (الجواهر يف تفسري القرآن‬ ‫الكريم املشتمل عىل عجائب بدائع املكونات وغرائب اآليات الباهرات)‪ ،‬الذي نرشت مطبعة مصطفى البايب الحلبي طبعته الثانية يف‬ ‫القاهرة‪ ،‬سنة ‪1350‬هـ‪1932/‬م‪ ،‬وهو تفسري كامل للقرآن الكريم يقع يف ثالثة عرش مجلدا ً] املرتجم‪.‬‬ ‫‪  42‬أحمد الرشبايص‪ ،‬قصة التفسري‪ .163 ،‬أمني الخويل‪ ،‬مناهج تجديد يف النحو والبالغة والتفسري‪304 ،‬ـ ‪ .307‬ويف النجف (العراق) قام‬ ‫محمد باقر املوحد األبطحي بإعداد ونرش مصحف مب ّوب عام ‪1969‬م‪ ،‬وذهب إىل أ ّن القرآن نفسه أعطى املرشوعية الدينية لرتتيب القرآن‬ ‫منهجي‪ ،‬وذلك عندما قام بذكر قصة يوسف مرتبة بصورة منهجية يف سورة يوسف‪( .‬انظر‪ ،‬املدخل إىل التفسري املوضوعي‪ ،‬النجف‪،‬‬ ‫بشكل‬ ‫ّ‬ ‫‪1969‬م‪ ،‬ص ‪ .)8‬وانظر‪ ،‬أيضاً‪ ،‬محمد محمود حجازي‪ ،‬الوحدة املوضوعية يف القرآن الكريم‪( ،‬رسالة جامعية)‪ ،‬القاهرة‪1970،‬م‪ .‬وانظر ما‬ ‫كان يقوله محمد عبده يف تفسريه‪« :‬أول القرآن يف هذا الرتتيب‪( »..‬عبده‪ ،‬تفسري الفاتحة‪.)17 ،‬‬ ‫العدد‬

‫(‪72 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫إنه من املستحيل‪،‬ومن غري الرضوري‪ ،‬أن نضع حدا ً فاصالً ودقيقاً يفصل بني التفاسري‬ ‫وربا تكون‬ ‫«املوضوعية» للقرآن وبني الكتب التي تتناول القرآن‪ ،‬أو الكتب التي تتناول اإلسالم‪ّ .‬‬ ‫أي محاولة للفصل بينها عالمة مؤكّدة عىل «الزيف يف العمل العلمي»‪ .‬وكذلك األمر؛ ال ميكن وضع‬ ‫ّ‬ ‫ولعل‬ ‫ح ٍّد فاصل وقاطع بني التفاسري املوضوعية وبني التفاسري التقليدية الكاملة للقرآن الكريم‪ّ .‬‬ ‫أشهر كتاب ميثّل الصيغة الوسيطة بني هذه الصيغ والقوالب التفسريية هو كتاب (تفسري األجزاء‬ ‫نص‬ ‫العرشة األوىل)‪ 43‬للشيخ محمود شلتوت‪ ،‬الذي سبق أن أرشنا إليه‪.‬مل يتبع شلتوت يف تفسريه ّ‬ ‫فسها‪ .44‬فعىل‬ ‫القرآن كلمة كلمة‪ ،‬ولك ّنه كتب بشكل ّ‬ ‫موسع حول املفاهيم املركزية يف السور التي ّ‬ ‫موسع عن كلمة (الرب) التي تعني ‪-‬حسب‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬يف تفسريه لسورة البقرة‪ ،‬تحدث بشكل ّ‬ ‫قاموس (‪« -)lane‬التقوى‪ ،‬املعروف‪ ،‬طاعة الله ‪ .»...‬ولقد تك ّررت هذه الكلمة يف هذه السورة‬ ‫أكرث من خمس مرات‪ .45‬منها‪،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬اآلية رقم‪(:177‬لَّ ْي َس ال َِّْب أَن ت ُ َولُّوا ْ ُو ُجو َه ُك ْم ِق َب َل‬ ‫شقِ َوالْ َم ْغر ِِب َولَـ ِك َّن ال ِ َّْب َم ْن آ َم َن بِاللّ ِه َوالْيَ ْو ِم ِ‬ ‫اب َوال َّن ِبيِّ َني َو َآت ال َْم َل‬ ‫اآلخ ِر َوالْ َمآلئِ َك ِة َوالْ ِكتَ ِ‬ ‫الْ َم ْ ِ‬ ‫الصال َة َو َآت‬ ‫السآئِلِ َني َو ِف ال ِّرق ِ‬ ‫َاب َوأَقَا َم َّ‬ ‫السبِيلِ َو َّ‬ ‫َع َل ُح ِّب ِه َذوِي الْ ُق ْر َب َوالْ َيتَا َمى َوالْ َم َساكِ َني َوابْ َن َّ‬ ‫والضاء َو ِح َني الْبَأْ ِس أُولَـ ِئ َك ال َِّذي َن‬ ‫ال َّزكَا َة َوالْ ُموفُو َن ِب َع ْه ِد ِه ْم إِذَا َعا َه ُدوا ْ َو َّ‬ ‫الصا ِبرِي َن ِف الْبَأْ َساء َّ َّ‬ ‫َص َدقُوا َوأُولَـ ِئ َك ُه ُم الْ ُمتَّقُو َن)‪.‬‬ ‫يُع ُّد كتاب شلتوت مصدرا ً مهامً للباحثني‪ ،‬الذين يه ّيئون أنفسهم للتخصص يف الفكر اإلسالمي‬ ‫املعارص‪ ،‬ولكن هذا الكتاب ال يُع ّد مثاالً منوذجياً للتفاسري القرآنية يف العرص الحديث‪ .‬وقبل أن‬ ‫يظهر هذا التفسري عىل شكل كتاب‪ ،‬كان يخرج عىل شكل مقاالت منشورة عىل صفحات مجلة‬ ‫(رسالة اإلسالم)‪ ،‬وهي مجلة مخصصة لـ«التقريب بني املذاهب اإلسالمية»‪.46‬‬ ‫ومن املفهوم‪ ،‬أن يُظهِر دارسو اإلسالم‪ ،‬ومتابعو شؤونه يف الغرب‪ ،‬اهتامماً أكرب بتفاسري القرآن‬ ‫صدى كبريا ً فيه‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬أكرث من اهتاممهم‬ ‫الكريم‪ ،‬التي أثارت الرأي العام‪ ،‬وتركت‬ ‫ً‬ ‫بعرشات تفاسري القرآن األخرى التي مل ترتك األثر نفسه‪ .‬ويف الوقت الذي نكاد ال نجد فيه تفسريا ً‬ ‫للكتاب املقدس‪ ،‬من بني التفاسري الكتابية‪ ،‬التي ظهرت يف هولندا يف القرن العرشين‪ ،‬وصل إىل‬ ‫قسم العلامء القرآن الكريم إىل ثالثني جزءا ً لتسهيل تالوته‪ ،‬وألسباب عملية أخرى‪.‬‬ ‫‪ّ - 43‬‬ ‫‪ - 44‬انظر‪ ،‬أحمد الرشبايص يف كتابه قصة التفسري‪ ،‬عن الشيخ محمود شلتوت‪ ،‬ص ‪.165‬‬ ‫‪ - 45‬يف اآليات اآلتية‪ .224 ،189 ،177 ،44 :‬وانظر إرميا‪22 /7 :‬ـ‪.23‬‬ ‫‪ - 46‬مجلة (رسالة اإلسالم)‪ ،‬مجلة ربع سنوية إسالمية‪ ،‬صاحبها محمد املدين‪ ،‬دار التقريب بني املذاهب اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪1949 ،‬م‪،‬ظهر فيها‬ ‫تفسري شلتوت ابتداء من املجلد األول‪ .‬انظر مراجعة لتفسري شلتوت يف (مجلة األزهر)‪(112 ، 32 ،‬حزيران‪1960 ،‬م)‪ ،‬و‪.)1960 ،31( 1013 ،31‬‬ ‫العدد‬

‫(‪73 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫الصفحات األوىل يف املجالت الهولندية‪ ،‬فإ ّن معظم التفاسري‪ ،‬التي ظهرت يف مرص يف القرن العرشين‪،‬‬ ‫مل تح َظ هي األخرى باهتامم رجال الصحافة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإننا نجد يف مرص بعض االستثناءات‬ ‫امللحوظة‪ ،‬مثل تفسري أيب زيد الدمنهوري [الهداية والعرفان يف تفسري القرآن بالقرآن] (‪1930‬م)‪،47‬‬ ‫وكتاب أحمد خلف الله [الفن القصيص يف القرآن] (‪1947‬م)‪ ،48‬وكتاب مصطفى محمود [محاولة‬ ‫كبري من الصحافة بسبب طبيعتها الجدالية‪.‬‬ ‫باهتامم ٍ‬ ‫لفهم عرصي للقرآن] (‪1970‬م)‪ ،49‬التي ظفرت‬ ‫ٍ‬ ‫بالنسبة إىل املراقب الخارجي‪ ،‬من الصعوبة مبكان‪ ،‬إن مل يكن من املستحيل‪ ،‬أن مييز بني القضايا‬ ‫السياسية والقضايا الدينية‪ ،‬التي نتجت عن الفوىض الفكرية التي أثارتها تلك الكتب‪ .‬وبطبيعة‬ ‫كتب أخرىتناولت القرآن‪ ،‬وأحالت إليه بطريقة غري مبارشة‪،‬‬ ‫الحال‪ ،‬إ ّن األمر نفسه ينطبق عىل ٍ‬ ‫ولك ّنهاوقعت تحت طائلة االتهام من قبل املرجعيات الدينية املعرتف بها بسبب بعض اآلراء‬ ‫الجريئة الواردة فيها‪،‬لذلك فقد جلبت الكثري من املتاعب ملؤلفيها‪.50‬‬ ‫لقد كتب علامء الغرب الكثري عن األزمات واملشكالت‪ ،‬التي أثارتها هذه الكتب‪ .51‬لكن ال بُ َّد‬ ‫‪ - 47‬انظر ما قاله آرثر جيفري عن أيب زيد وتفسريه يف‪.A, Jeffery, Der Islam, XX (1932), 301- 308:‬‬ ‫‪48 J. Jomier, " Quelques positions actuelles de l’exégèse coranique en Egypt révélée par une polémique récente‬‬ ‫‪(1947-1951)", MIDEO I (1954), 39-72.‬‬ ‫‪ - 49‬مصطفى محمود‪ ،‬القرآن‪ ،‬محاولة لفهم عرصي للقرآن‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪ .‬سبق ملصطفى محمود نرش كتابه هذا عىل شكل مقاالت عىل‬ ‫صفحات مجلة أسبوعية (صباح الخري) يف بداية عام ‪1970‬م‪ .‬وقد كتبت الدكتورة بنت الشاطئ عدة مقاالت نقدية يف جريدة (األهرام)‬ ‫اليومية ردّت فيها عىل أفكار مصطفى محمود يف مقاالته تلك‪ ،‬وقد جمعت بنت الشاطئ مقاالتها يف كتاب مستقل حمل اسم (القرآن‬ ‫عب عد ٌد من علامء الدين البارزين عن رأيهم يف كتاب مصطفى محمود عىل صفحات مجلة‬ ‫والتفسري العرصي)‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪ .‬وقد ّ‬ ‫جمعية الشبان املسلمني (مجلة الشبان املسلمني)‪ .‬انظر عىل سبيل املثال‪.)1970 1-3-( 157 :‬‬ ‫‪- 50‬عىل سبيل املثال‪ ،‬طه حسني (يف الشعر الجاهيل) ‪1926‬م‪ ،‬أو عيل عبد الرازق (اإلسالم وأصول الحكم) ‪1925‬م‪.‬‬ ‫انظر‪.H. A. R. Gibb, Modern Trends in Islam, 54:‬‬ ‫‪- 51‬عىل الرغم من وجود عد ٍد كبري من الدراسات‪ ،‬التي تناولت كتاب خلف الله (الفن القصيص)‪ ،‬إال أ ّن هذه الدراسات ‪،‬كام يبدو يل‪،‬مل‬ ‫تنتبه إىل أ ّن خلف الله قد استخدم يف كتابه منهجية تفسريية ت ُدعى املنهج الطيبولوجي (‪ ،)typology‬وهي املنهجية التي استخدمها علامء‬ ‫الدين املسيحيون‪ ،‬وطبقوها يف دراسة العهد القديم‪ ،‬وهي منهجية قامئة عىل دراسة األنواع‪ ،‬أو الرموز واإلرهاصات املوجودة يف الكتاب‬ ‫املقدس‪ [ .‬أي دراسة األنواع والرموز والشخصيات املذكورة يف الكتاب املقدس عىل أنها مثاالت وتقريبات ألشياء أخرى‪ ،‬أو إرهاصات ألشياء‬ ‫وأشخاص ستحدث وتأيت يف املستقبل]‪ .‬انطلقت هذه النظرية املدعوة بـ(التفسري الطيبولوجي)‪ )typological) exegesis‬من مقطعني‬ ‫من رسالة بولس الرسول‪ ،‬أولهام‪« :‬لكن قد مل ََك املوت من آدم إىل موىس‪ ،‬وذلك عىل الذين مل يُخطئوا عىل ِشبه تعدّي آدم الذي هو مثال‬ ‫العدد‬

‫(‪74 )6‬‬

‫حازم زكريا محي الدين‬

‫الشخص اآليت»‪ .‬رسالة بولس الرسول إىل أهل رومية‪ ،‬اإلصحاح الخامس‪ .14 :‬وثانيهام‪« :‬فإين لست أريد أيّها اإلخوة أن تجهلوا أن آباءكم‬ ‫جميعهم كانوا تحت السحابة‪ ،‬وجمي ُعهم اعتمدوا ملوىس يف السحابة ويف البحر‪ ،‬وجميعهم أكلوا طعاماً واحدا ً روحياً‪ ،‬وجميعهم رشبوا رشاباً‬ ‫واحدا ً روحياً‪ ،‬ألنهم كانوا يرشبون من صخرة روحي ٍة تابَ َعت ُهم والصخرة كانت املسيح‪ ...‬وهذه األمور حدثت مثاالً لنا»‪ .‬رسالة بولس الرسول‬ ‫األوىل إىل أهل كورنثُوس‪ ،‬اإلصحاح العارش‪ .1-6 :‬إ ّن كلمة (الشخص)‪ ))figure‬الواردة يف مقطع رسالة الرسول بولس إىل أهل رومية‪ ،‬وكلمة‬ ‫(مثال)(‪ )example‬الواردة يف نهاية مقطع رسالة الرسول بولس إىل أهل كورنثوس‪ ،‬كلتا الكلمتني عبارة عن ترجمة لالسم اليوناين (‪،)tupoi‬‬ ‫التي اشتُ ّق منها مصطلح التفسري الطيبولوجي(‪ .)typological exegesis‬يف هذين املقطعني‪ ،‬يقدّم الرسول بولس تفسريا ً خاصاً جدا ً ملا جاء‬ ‫يف ِسفر الخروج اإلصحاح ‪ ( :21 :13‬وكان الرب يَس ُري أمامهم نهارا ً يف«عمود من غامم» ليهديهم الطريق [ يف الصحراء])‪ .‬واإلصحاح ‪:17‬‬ ‫فترضب الصخرة‪ ،‬فإنه يخرج منه ما ٌء فيرشب الشعب (بنو إرسائيل)» ‪.)..‬‬ ‫‪( :6‬فقال الرب ملوىس‪« :‬ها أنا قائ ٌم أمامك هناك عىل الصخرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومقاطع أخرى يف ِسفر الخروج‪ ،‬مثل‪ :‬اإلصحاح ‪ ،22 :14‬واإلصحاح ‪.4 :16‬‬ ‫) ‪:J. Wilkinson, Interpretation and community, 95 ff‬انظر(‬ ‫توسعوا يف تأويالت الرسول بولس‪ ،‬وجعلوا منها نظاماً اعتربوه‬ ‫إ ّن الالهوتيني الكاثوليك الرومان مثل‪))H. de Lubac:‬و(‪)J. Daniélou‬قد ّ‬ ‫قابالً لالنطباق عىل جميع نصوص العهد القديم‪.‬‬ ‫(انظر‪.)H. H. Miskotte, Sensus Spiritualis, 123 – 137:‬‬ ‫غري أنه من خالل اختزال «العمود»‪ ،‬و «الصخرة» إىل «ظالل لألشياء التي ستأيت»‪ ،‬فإن املفسِّ يذهب عكس قصد مؤلفي ومدوين نص‬ ‫العهد القديم‪ ،‬وعكس قصد الذين قننوا هذه النصوص‪ .‬وكذلك الجمهور‪ ،‬الذي ُو ِّجهت إليه هذه النصوص يف املقام األول‪ ،‬ال يعتقدون‬ ‫أي داللة أخرى‪ .‬ومن جهة‬ ‫بأ ّن هناك أشياء ستأيت‪ .‬بالنسبة إليهم هذه النصوص والقصص املروية فيها تحمل قيمة يف حد ذاتها‪ ،‬وال تحمل ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬عندما يتحدث القرآن عن األنبياء الذين جاؤوا قبل الرسول محمد‪ ،‬فإ ّن قصصهم‪ ،‬كام جاءت يف القرآن‪ ،‬تهدف‪ ،‬يف املقام األول‪ ،‬إىل‬ ‫اإلشارة بشكل دائم إىل محمد عليه السالم‪ ،‬وما سيحدث معه‪ ،‬وال تهدف إىل ذكر تواريخ األنبياء السابقني‪ ،‬إال يف أضيق الحدود‪( .‬راجع‪A.:‬‬ ‫‪ .)Jeffery, the Koran as Scripture‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬عندما يخربنا القرآن كيف كان الناس «يجعلون أصابعهم يف آذانهم»‪ ،‬عندما كانوا‬ ‫يستمعون إىل رسول الله نوح يدعوهم إىل الله تعاىل‪ ،‬فإ ّن العرب‪ ،‬الذين استمعوا لقصة نوح كام وردت يف القرآن أ ّول مرة‪ ،‬سيفكّرون‬ ‫كيف استُخف مبحمد من ِقبَل قومه أهل مكة‪ .‬سورة نوح‪5 :‬ـ‪ .7‬وعندما يسمع هؤالء الناس الدعاء‪ ،‬الذي دعاه نوح عىل قومه‪ ،‬والذي ورد‬ ‫ُوح َّر ِّب لَ ت َ َذ ْر َع َل الْ َ ْر ِض ِم َن الْكَا ِفرِي َن َديَّارا ً{‪ }26‬إِن ََّك إِن تَ َذ ْر ُه ْم يُ ِضلُّوا ِعبَاد ََك َو َل يَلِدُوا إِ َّل فَا ِجرا ً كَفَّارا ً{‪}27‬‬ ‫يف السورة نفسها‪َ ) :‬وق ََال ن ٌ‬ ‫َر ِّب ا ْغ ِف ْر ِل َولِ َوالِد ََّي َولِ َمن َدخ ََل بَيْ ِت َي ُم ْؤ ِمناً َولِلْ ُم ْؤ ِم ِن َني َوالْ ُم ْؤ ِم َن ِ‬ ‫والدي‬ ‫ات َولَ ت َ ِز ِد الظَّالِ ِم َني إِلَّ تَبَارا ً{‪ ،(}28‬فإنهم سيدركون‪ ،‬دون شك‪ ،‬أ ّن‬ ‫ّ‬ ‫محمد قد ماتا وثنيني قبل ظهور اإلسالم‪.‬‬ ‫يشري خلف الله يف كتابه (الفن القصيص)‪ ،‬بشكل غري مبارش‪ ،‬إىل املنهج الطيبولوجي يف تأويل النص القرآين‪ ،‬عندما يكتب عىل سبيل املثال‪:‬‬ ‫لكل رسول كام قلنا‪ ،‬وهي التي تصلح للنبي العريب عليه‬ ‫«أما صور هود وشعيب مثالً‪ ،‬ومحاورتهم األقوام‪ ،‬فهي الصورة العامة التي تصلح ّ‬ ‫السالم» (‪« ،)278‬وإنا لو حاولنا فهم ما يعرض لكل منهم (شخصيات الرجال يف القصص القرآين)‪ ،‬من انفعاالت نفسية‪ ،‬وتأثرات عاطفية‪،‬‬ ‫ال ب ّد لنا من فهم الظروف املحيطة بالنبي العريب‪ ،‬والعوامل املؤثرة يف الدعوة اإلسالمية؛ إذ هي التي تفصح لنا عن املواقف التي توضح‬ ‫وتجل صورته» (‪.)280‬‬ ‫لنا شخصية البطل ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪75 )6‬‬

‫نظرة عامة عىل دراسة القرآن وتفسريه‬

‫من التذكري‪ ،‬أيضاً‪،‬بأنه حتى أثناء ذروة االضطراب والجدل حول هذه الكتب الجدالية واملثرية‪ ،‬كان‬ ‫ينرش بني الناس املزيد من طبعات تفسري الجاللني‪ ،‬الذي ظهر يف القرن الخامس عرش امليالدي‪،‬‬ ‫كل تلك الكتب ذات الطابع الجدايل التي أرشنا إليها سابقاً‪.‬‬ ‫ويباع ويُد ّرس أكرث من ّ‬ ‫حافظت التفاسري املرصية الحديثة‪ ،52‬بصفة عامة‪ ،‬عىل الطابع الرتايث والتقليدي‪ .‬وميكن لنا أن‬ ‫نربهن عىل ذلك ليس من خالل اإلشارة إىل االهتامم الكبري‪ ،‬الذي يُبديه الجمهور املرصي العريض‬ ‫بالتفاسري «الكالسيكية» فحسب؛ بل منخالل اإلشارة‪ ،‬أيضاً‪ ،‬إىل املحتوى «الرتايث والتقليدي» للكثري‬ ‫من هذه التفاسري «الحديثة»‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ ّن الج ّدة واألصالة يف هذه التفاسري تكاد تكون استثنائية‪ ،‬والقاعدة فيها هي اقتباس‬ ‫وتحديث محتوى كتب التفسري القدمية‪ ،‬وتفسري الزمخرشيبشكل خاص‪ .‬ومن الصعوبة‪ ،‬غالباً‪ ،‬أن‬ ‫نفهم فقر ًة ما يف التفاسري الحديثة إذا مل نقم‪ ،‬أوالً‪،‬بالبحث عن جذورها يف تفسري الزمخرشي أو‬ ‫الجاللني‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬إ ّن التفاسري املرصية الحديثة تبقى جزءا ً ال يتجزأ من الرتاث العظيم للتفاسري الكالسيكية‪،‬‬ ‫كام تشري إىل ذلك بوضوح األعداد الوفرية ألجزاء بعضها‪ ،‬حيث إنّه ليس من السهولة أن ميأل أح ٌد‬ ‫نص ُدرس ألكرث‬ ‫كتاباً من ثالثني جزءا ً‪ّ ،‬‬ ‫كل جزء منها يزيد عىل مئتي صفحة باألفكار األصيلة حول ٍّ‬ ‫من ألف سنة‪.‬‬ ‫ولك ّننا إذا أردنا أن نبحث عن التجديدات الحقيقية يف التفاسري املرصية الحديثة‪ ،‬فإنّنا سنجدها‬ ‫فقط يف مؤلفات محمد عبده (ت ‪1905‬م)‪ ،‬وأمني الخويل (ت‪1967‬م)‪.‬‬ ‫‪  52‬إ ّن أه ّم التفاسري الحديثة‪ ،‬التي ظهرت يف العامل العريب خارج مرص‪ ،‬ما يأيت‪1 :‬ـ عبد القادر املغريب (تفسري جزء تبارك) عام ‪1919‬م‪ ،‬يف‬ ‫سورية‪ ،‬اقتفى فيه مؤلفه أسلوب ومنهج محمد عبده يف تفسريه لجزء ع ّم‪2 .‬ـ محمد عزة دروزة (التفسري الحديث‪ ،‬ترتيب السور حسب‬ ‫النزول)‪ ،‬فلسطني‪3 .‬ـ محمد الطاهر بن عاشور (تفسري التحرير والتنوير)‪ ،‬تونس‪.‬‬ ‫[رمبا كان األدق أن يقول املؤلف‪ :‬إ ّن أهم علامء التفسري‪ ،‬الذي ظهروا يف العامل العريب خارج مرص‪ ،‬بدالً من كالمه أه ّم التفاسري التي ظهرت‬ ‫خارج مرص‪ ،‬أل ّن تفسري جزء تبارك للشيخ عبد القادر املغريب (ت‪1956‬م)‪ ،‬والتفسري الحديث لألستاذ محمد عزة دروزة (ت‪1984‬م)‪ ،‬قد‬ ‫طُبعا أساساً يف مرص‪ .‬وتجدر اإلشارة إىل أ ّن املؤلف قد نيس اإلشارة إىل عامل سوري كبري كانت له ريادة يف علم التفسري يف بالد الشام يف‬ ‫العرص الحديث‪ ،‬هو جامل الدين القاسمي (ت ‪1914‬م) صاحب تفسري (محاسن التأويل)‪ ،‬الذي طبع تفسريه‪ ،‬أيضاً‪ ،‬يف مرص بعناية محمد‬ ‫فؤاد عبد الباقي] املرتجم‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪76 )6‬‬

‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬ ‫دراسة يف املداخل اللسانية ملرشوع الباحث الياباين‬ ‫إيزوتسو توشيهيكو‬ ‫*‬

‫عبدالله هداري‬

‫يقول إيزوتسو يف تعريفه لعلم الداللة « إن علم الداللة‪ ]...[ ،‬وكام أفهمه‪ ،‬دراسة تحليلية‬ ‫للمصطلحات املفتاحية الخاصة بلغة ما‪ ،‬تتطلع للوصول يف النهاية إىل إدراك مفهومي لـ«الرؤية‬ ‫للعامل» الخاصة بالناس الذين يستخدمون تلك اللغة كأداة ليس للكالم والتفكري فحسب‪ ،‬بل األهم‪،‬‬ ‫كأداة ملفهمة العامل الذي يحيط بهم وتفسريه‪ .‬إن علم الداللة بهذا الفهم نوع من «علم الرؤية للعامل‬ ‫(‪ )Weltanschauungslehre‬أو دراسة لطبيعة رؤية العامل وبنيتها ألمة ما‪ ،‬يف هذه املرحلة املهمة أو‬ ‫تلك من تاريخها‪ .‬وهذه الدراسة تستهدي بوسائل التحليل املنهجي للمفاهيم الثقافية التي أنتجتها األمة‬ ‫لنفسها وتبلورت يف املفاهيم املفتاحية للغتها‪.1».‬‬ ‫إذن‪ ،‬فعملية «التحليل الداليل» لتاممها عند إيزوتسو البد أن تقرتن بدعائم مفهومية الغنى عنها‬ ‫وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬مفهوم «الرؤية للعامل»‪.‬‬

‫يقوم هذا املفهوم عىل فكرة « أن لغة اإلنسان تشكل إدراكه للواقع أو أن العامل الذي يعيش فيه‬ ‫اإلنسان هو بناء لغوي [‪ ]...‬وقد ارتبطت باسمني أمريكيني هام إدوارد سابري وبنيامني يل وورف و[إن‬

‫*باحث من املغرب‪.‬‬ ‫‪- 1‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬علم داللة الرؤية القرآنية للعامل‪ .‬ترجمة وتقديم د هالل محمد الجهاد‪ .‬مركز دراسات‬ ‫الوحدة العربية‪.‬ط‪ .1‬بريوت‪2007 .‬م‪.‬ص ‪.32‬‬ ‫العدد‬

‫(‪77 )6‬‬

‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬

‫كانت] أكرث التصاقا باألخري»‪ .2‬دون أن نتجاوز الفلسفة األملانية تحديدا‪ ،‬والتي يعود لها الفضل يف‬ ‫نحت وإثراء هذا املفهوم من أمثال‪ :‬إميانويل كانط‪ ،‬وهيجل‪ ،‬ودلتاي‪ ،‬وماكس فيرب‪ ،‬وكارل ياسربز‪،‬‬ ‫وهيدجر‪ .3‬وحسب الباحث عبد الرزاق الدواي فقد دل هذا املصطلح يف بدايات ظهوره عىل ذلك‬ ‫املنظور الذي يقارب من خالله اإلنسان تصوره للعامل املحيط به‪ ،‬ويسري من ثم وفقه معتقداته‬ ‫وطريقة عيشه‪ ،‬هذا التحديد سيعرف تطورا سيلخص «الرؤية للعامل يف» الكيفية الخاصة لتصور العامل‬ ‫وإدراكه والتعامل معه‪ ،‬كام هي سائدة يف حقبة تاريخية معينة‪ ،‬أو داخل ثقافة معينة‪ ،‬أو يف مجال‬ ‫معريف معني‪.4‬‬ ‫‪ - 2‬جفري سامبسون‪ .‬املدارس اللغوية‪ .‬التطور والرصاع‪ .‬ت أحمد نعيم الكراعني‪.‬املؤسسة الجامعية للدراسات والنرش والتوزيع‪ .‬بريوت‪.‬‬ ‫ط‪1993 .1‬م‪ .‬ص ‪ .83‬ويحيل الباحث إيزوتسو إىل الربوفيسور (ليو فيسجريبر) من جامعة بون‪ ،‬والذي يعود له الفضل إىل جانب العلمني‬ ‫األمريكيني املذكورين يف تشكيل فكرة أن علم الداللة نوع من "علم الرؤية للعامل"‪ .‬أنظر‪ :‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.33‬‬ ‫ولإلطالع عىل هذه النظرية عند روادها األوائل سواء سابري أو وورف‪ ،‬ميكن اإلطالع عىل ‪:‬‬ ‫‪Sapir, Eduard . 1921. Language, New York. Harcourt.‬‬ ‫‪Sapir, Eduard. Language and Environment. American Anthropologist, New series, Vol. 14, No. 2(Apr. Jun. , 1912),‬‬ ‫‪pp. 226-242. by Blackwell Publishing.‬‬ ‫‪Sapir, Eduard. Language as a form of behavior. The English Journal. Vol. 16, No. 6(Jun. ,1927), pp . 421-433. by‬‬ ‫‪National concil of teachers of English.‬‬ ‫‪ ‬وحول فرضيتهام ميكن االطالع عىل الدراسة التالية‪:‬‬ ‫‪What is the Sapir-Whorf Hypothesis ?. Paul Kay and Willett. New series, Vol. 86, No. 1 (Mar. , 1984) , pp. 65-79.‬‬ ‫‪By Blackwell publishing.‬‬ ‫وميكن اعتامد مقالة ستانيل ناومان حول سابري ‪:‬‬ ‫‪Eduard Sapir (1884-1939). Stanley, Nawman. Enternational Journal of American Linguistics ; Vol. So, No. 4(oct. ,‬‬ ‫‪1984), pp. 355-357. By The University of chicago Press.‬‬ ‫‪  -3‬عبدالرزاق الدواي‪ .‬مجتمع املعرفة‪ ،‬معامل رؤية تكنولوجية جديدة للعامل‪ .‬مجلة عامل الفكر‪ .‬العدد ‪ 3‬املجلد ‪ .40‬يناير‪ -‬مارس ‪.2012‬‬ ‫ص ‪.96‬‬ ‫‪ - 4‬عبدالرزاق الدواي‪ .‬مجتمع املعرفة‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪ .96‬وحسب تصور تركيبي لعالقة اإلنسان بالعامل وأشيائه وأحداثه ‪..‬الخ‪ ،‬نجد‬ ‫مقاربة هايدغر التي تعترب اإلنسان فاعال ألنه مرتبط بفواعل إنسانية أخرى وبالعامل املادي‪ ،‬هذه العالقة أساسية ألنها تجعل من العامل‬ ‫ليس ذلك املعطى الخارجي عنا‪ ،‬يدرس عقليا وتأمليا فحسب‪ ،‬بل املسالة أعقد مام نتصور‪ ،‬إذ ال نقوم بعزل العامل لنتأمله‪ ،‬وإمنا مبفهمه‬ ‫باعتبارنا عنرصافيه‪ ،‬وفواعل ال تنفصل عن مواضيعه‪ ،‬ولهذا ال تتوقف الداللة فيام نصوره عن التولد املستمر‪ .‬انظر أحمد الوردين‪ ،‬نظرية‬ ‫املعنى بني التوصيف والتعديل والنقد‪ .‬مركز النرش الجامعي‪ .‬مركز النرش الجامعي‪ .2007 .‬ص ‪.145 .151‬‬ ‫العدد‬

‫(‪78 )6‬‬

‫عبدالله هداري‬

‫يُرجع اللغوي (جفري سامبسون) هذه الفرضية املشتهرة بـ (فرضية سابري وورف) إىل املدرسة‬ ‫الوصفية‪ ،‬باعتبارها تشكل تطورا طبيعيا لها‪ ،‬كام أنها بقدر ما اعتمدت عىل الكثري من أفكارها‪ ،‬فقد‬ ‫تعارضت حد التنافر مع الكثري من أفكارها األخرى‪.5‬‬ ‫وتعد هذه النظرية امتدادا كذلك ألفكار همبولت «االتجاه العقالين»‪ ،‬الذي حاول إقامة نظرية لغوية‬ ‫شاملة‪ ،‬ال تقترص عىل لغة بعينها‪ ،‬إذ اللغة لديه‪ « 6‬ملكة من عمل العقل‪ ،‬وهي فوق هذا قوة فعالة[‪،]..‬‬ ‫وليست مجرد تحصيل حاصل [‪ ،]..‬إذ لوالها ملا كان هناك أي نوع من التفكري‪ .‬وهذه القدرة الخالقة هي‬ ‫التي تجعل أعامل اإلنسان تتميز بالذكاء واإلبداع»‪ ،7‬ولهذا فقد تم تجاوز ذلك التقسيم املجحف تجاه‬ ‫ثقافات الشعوب‪ ،‬و تجاه قدرات اإلنسان الالمحدودة يف اإلبداع‪ ،‬باألخص مع تطور االتجاهات اللغوية‬ ‫يف أمريكا التي دمجت االنرتوبولوجيا باللغويات‪ ،8‬فرصنا نتحدث عن مميزات كل لغة وخصوصياتها‪،‬‬ ‫‪ - 5‬جفري سامبسون‪ .‬املدارس اللغوية‪ .‬مرجع سابق‪ .‬حيث توافقت مع نسبية " فرانس بوس" (‪ )Frans Boas)(1858-1942‬واختلفت مع‬ ‫االتجاه السلويك عند "ليو بلومفيلد" واتجاهه العلمي الصارم‪ .‬ص ‪ .84‬ويعترب "بوس" و"إدوارد سابري" (‪)Edward Sapir)(1884-1939‬‬ ‫امتدادا ألفكار همبولت‪ .‬كام واشرتاكهام كذلك " يف التعاون واالرتباط القوي بني االنرتوبولوجيا وعلم اللغة يف الجامعات االمريكية" ‪.‬أنظر ‪:‬‬ ‫ر‪.‬ه‪ .‬روبنز‪ .‬موجز تاريخ العلم (يف الغرب)‪ .‬ت أحمد عوض‪ .‬سلسلة عامل املعرفة‪.‬الكويت‪1997 .227.‬م‪ .‬ص‪ . 334‬ولالطالع بنوع من التوسع‬ ‫عىل أفكار كل من سابري وورف أنظر‪ ،‬أعالم الفكر اللغوي‪ ،‬التقليد الغريب يف القرن العرشين‪ .‬جون إي جوزيف‪ .‬نايجل لف‪ .‬تولبت جي‬ ‫تيلر‪ .‬ت أحمد شاكر الكاليب‪ .‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ .‬ج ‪.2006 .2‬‬ ‫‪ " - 6‬يرى همبولت أن اللغة عمل إبداعي ينطوي عىل الفعل‪ ،‬وليس شيئا يفعل" ‪ .‬روي هاريس وتولبت جي تيلر‪ .‬أعالم الفكر‬ ‫اللغوي‪ .‬التقليد الغريب من سقراط إىل سوسري‪ .‬ج‪ .1‬ت أحمد شاكر الكاليب‪ .‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ .‬ط‪2004 .1‬م‪ .‬ص‬ ‫‪ .228‬وملزيد التوسع يف نظرية وأفكار هذا العامل يرجع إىل الفصل الثاين عرش ضمن هذا الكتاب واملخصص ألفكار هذا األخري‬ ‫وطروحاته‪ .‬يقدم طه عبدالرحمن نقدا للنسبية اللغوية عند (همبولت) و (وورف) و (كواين) باعتبارها " تجعل من األلسن‬ ‫عبارة عن أنساق (متوحدة) ال صلة لرموز الواحد منها برموز اآلخر‪ ،‬وال تواصل بني = مستعميل األوىل ومستعميل الثانية؛ لذا‪،‬‬ ‫صح عندنا أن نسميها ب (النسبية اللغوية املنغلقة)"‪ .‬طه عبدالرحمن‪ .‬فقه الفلسفة ‪ --1‬الفلسفة والرتجمة‪ .‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬ ‫ط‪ .1995 .1‬ص ‪.145‬‬ ‫‪-  7‬أحمد مومن‪ .‬اللسانيات النشأة والتطور‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.60‬‬ ‫‪ - 8‬ميكن اإلطالع عىل الدراسة الهامة لريشارد هاندلر حول موقف سابري النقدي من الرومانسية والفردانية األمريكية ‪:‬‬ ‫‪Anti-Romantic Romanticism : Edward Sapir and the critique of American Indivdualism. Richard‬‬ ‫‪Handler. Anthropological Quarterly , Vol. 61, No. 4, culture theory and cultural crticism in boasian‬‬ ‫‪anthropology (oct. ,1988), pp. 1-13. By the George Washington University Institute for. Ethnographic‬‬ ‫‪research.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪79 )6‬‬

‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬

‫وتوفرها عىل منطقها الخاص‪ ،‬وحسب فرضية سابري‪-‬وورف‪ ،‬توفرها عىل «رؤية للعامل»‪ .9‬فاللغة هنا –‬ ‫حسب الفرضية نفسها – تتجاوز تلك األبعاد املثالية والرومانسية التي توقفت عند حدودها أعامل كل‬ ‫من هريدر وهمبولت‪ ،‬لتنسج عالقة متالزمة‪ ،‬بلغ يف وصفها الكثريون بـ«الحتمية» بني اللغة والثقافة‬ ‫والواقع‪ .‬ولهذا‪ ،‬عد سابري اللغة ناظام لشتات تفكرينا ومساهام أساس إن مل نقل أوحد يف تشيكل تصورنا‬ ‫للعامل املوضوعي‪.10‬‬

‫‪ .2‬املصطلحات املفتاحية‪.‬‬

‫تشكل املصطلحات املفتاحية غاية وناظام منهجيا أطر عمل إيزوتسو يف جل مرشوعه‪ ،‬الذي يروم‬ ‫الكشف عن « رؤية القرآن للعامل» ‪ ،‬فاملصطلحات املفتاحية هنا مقابل للمفاهيم املركزية‪ ،11‬إذ يقوم‬ ‫الباحث وفق «التحليل الداليل»‪ 12‬الذي يتبعه مبحاولة تحديد الصنف الداليل للمفردات‪ ،‬حيث تحمل‬ ‫املفردات داللتها األوىل (املفرتض كونها أصلية) والتي تحددت وفق الوظيفة الداللية التي التصقت بها‪،‬‬ ‫ضمن سياقات مختلفة‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬يعتمد تحليل إيزوتسو بداية عىل عملية مقارنة وتحليل وتركيب للمعطيات األولية املتوفرة‬ ‫حول املفردة‪ ،‬سواء معجميا أو ثقافيا‪ ،‬وكذلك تحليلها يف انسجامها والوعي التاريخي سكونيا أو حركيا‪.‬‬ ‫وذلك بعد أن تم جرد املفردات وفرزها من مجموع املعجم القرآين‪ .‬والبد من التنبيه أن الباحث يف‬ ‫توافقه مع الفلسفة اللغوية التي تؤطره‪ ،‬يؤكد دوما «عىل نحو دقيق إنه حيث ينتهي الشكيل الرصف‬ ‫‪ - 9‬مصطفى غلفان ‪ .‬يف اللسانيات العامة‪.‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ .‬بريوت لبنان‪.‬ط‪ .1‬ص‪.59‬‬ ‫‪ - 10‬نفسه‪ .‬ص ‪57‬‬ ‫‪ -11‬واملقصود ب "املفاهيم املركزية " تلك الفكرة األساسية التي يتم تكونها لدى الباحث بعد أن قام باألجرأة املطلوبة منهجيا‪ ،‬أي بعد‬ ‫دراسة املفردات يف سياقها االجتامعي والثقايف‪ ،‬وتحديد "النواة الحقيقية لبنيتها الداللية"‪ ،‬والتي تعني تلك الفكرة الضامة ملجموع صور‬ ‫وروردها ومتظهرها داخل سياقات استعاملية مختلفة‪ .‬ثم وبعد دراستها داخل السياق الخاص القرآين‪ ،‬تتكون لدينا فكرة مركزية مقابلة‬ ‫للمفردة داخل النص‪ .‬والتي تعني بعبارة أخرى والدة مفهوم يحمل دالالت جديدة مرتبطة بالنص وحده‪ .‬وتشكلها كمفوم تعني أنها متثل‬ ‫وعيا ومفهمة وتصورا معينا يتطابق وبنية النص املفاهيمية يف كليتها‪ ،‬تلك البنية التي تقدم لنا مجتمعة صورة عن العامل‪.‬سنتعرف عىل‬ ‫هذا املفهوم بتفصيل أكرب يف الفصول الالحقة‪ .‬أنظر ‪ :‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬املفهومات االخالقية‪-‬الدينية يف القرآن‪ .‬ت‪ ،‬عيىس عيل العاكوب‪.‬‬ ‫ط‪ .1‬دار امللتقى‪ ،‬حلب‪ ،‬سوريا‪2008 .‬م‪ ..‬ص ‪.104 94-‬‬ ‫‪ - 12‬يعرف ايزوتسو التحليل الداليل بكونه " ليس تحليال بسيطا للبنية الشكلية لكلمة ما‪]...[،‬إن التحليل الداليل يف تصورنا شيئ يعتزم‬ ‫الذهاب بعيدا وراء ذلك‪ ،‬ويسعى أن يكون علام للثقافة" أنظر توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬علم داللة الرؤية القرآنية‬ ‫للعامل‪ .‬ترجمة هالل محمد جهاد‪ .‬املنظمة العربية للرتجمة‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ .‬بريوت‪ .‬ط‪ .2007 .1‬ص‪.51‬‬ ‫العدد‬

‫(‪80 )6‬‬

‫عبدالله هداري‬

‫تبدأ املسائل الداللية ذات املغزى الحقيقي»‪ ،13‬ولهذا يتعامل ولغة القرآن باعتبارها معجام دالليا خاصا‪،‬‬ ‫يتقابل واملعجم العريب الجاهيل‪.14‬‬ ‫وتخضع عملية تحديد الصنف الداليل للمفردات كذلك‪ ،‬للتحليل السياقي الذي يقوم بوضع‬ ‫املفردات يف وضعيات مختلفة (تقابل‪ ،‬توافق‪ ،‬توازي‪ ،‬مركزية‪ ،‬ثانوية‪ ،‬عالقية)‪ ،‬ودامئا داخل السياق‪،‬‬ ‫سواء عىل مستوى الجملة‪ ،‬أو الحقل الداليل‪ ،‬أو النص كبنية ونظام يف جملته‪ .‬وتعني عملية التصنيف‬ ‫الداليل يف وجهها اآلخر‪ ،‬تحديدا للقيمة الداللية بتحديد وظيفتها داخل األسيقة سالفة الذكر‪ ،‬والتي‬ ‫تُقَو ُم تصورنا للفكرة األساسية التي ميكن أن نستجمعها حول املفردة‪ .‬إذن‪ ،‬ميكننا حسب هذا التحليل‬ ‫استخالص الوظيفة الداللية األوىل‪ ،‬والثانية وهكذا دواليك‪ ،‬إىل أن تتحدد معامل القيمة‪ 15‬الداللية‬ ‫للمفاهيم‪.‬‬ ‫لذلك فاملصطلحات املفتاحية باعتبارها تشكل حقال دالليا‪ ،‬ستندمج بالحقول الداللية األوسع للمعجم‬ ‫القرآين‪ ،‬لتنتظم داخل نظام تأوييل جديد كليا‪ ،16‬سترتابط حقوله الداللية وفق عالئق منطقية عامة‬ ‫ممكنة قامئة بني هذه الحقول الداللية‪ ،‬إما بتضمن حقل ألخر أو ملجموعة حقول‪ ،‬أو من خالل عالقة‬ ‫عرب حقولية ميكن وصفها بالتقاطعية بني حقول ال يتضمن واحدها اآلخر‪ ،‬أو عرب عالقة انفصال بني‬ ‫حقول «غري متامسة» حسب تعبري محمد غاليم‪ .17‬وال نعني بهذه اإلمكانات العالئقية املمكنة والقامئة‬

‫‪ - 13‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬املفهومات األخالقية‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.82‬‬ ‫‪ - 14‬وهو يف ذلك يتوافق مع فكرة " الوضع القرآين الخاص " عند أبو القاسم حاج حمد يف مرشوعه الفكري‪ .‬والذي ترد لديه الفكرة قريبة‬ ‫مام ورد عند إيزوتسو‪ ،‬وإن اختلفت مقدمات البحث املنهجية عند كل منهام‪ .‬دون أن نغفل التنبيه عىل سمة عدم الوضوح املنهجي‬ ‫يف مرشوع الحاج حمد‪ ،‬سواء يف كتابه "عاملية اإلسالم الثانية"‪ ،‬أو كتابه "منهجية القرآن املعرفية"‪ .‬و اليفوتنا التلميح أيضا لكون كلمة‬ ‫"الجاهيل" هنا‪ ،‬ال نبتغي منها تلك الحمولة السلبية املطلقة التي ألصقت باملجتمعات العربية يف مرحلة ما قبل اإلسالم‪ .‬ولكن نروم منها‬ ‫ذلك التاميز الداليل فحسب‪ ،‬املفارق ملا جاء به النص القرآين ‪.‬‬ ‫‪ - 15‬البد من اسرتعاء " التمييز بني الداللة ‪ Signification‬والقيمة ‪ . Valeur‬إن داللة العنرص اللغوي هي مدخله املعجمي‪ ،‬أي معناه‬ ‫املحايد املسجل يف املعجم‪ ،‬وهو معنى موضوعي يوجد باستقالل عن كل سياق لغوي وعن كل استعامل فعيل لهذا العنرص يف عالقته مع‬ ‫عنارص أخرى‪ .‬أما القيمة فهي الداللة التي يكتسبها هذا لعنرص أو ذاك يف= سياق معني من خالل طبيعة ونوعية العالقات التي تجمعه‬ ‫بغريه من العنارص‪ ".‬مصطفى غلفان‪ .‬يف اللسانيات العامة‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.262‬‬ ‫‪ -16‬إيزوتسو توشيهيكو‪ .‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬مرجع سابق‪.‬ص ‪.76‬‬ ‫‪ - 17‬محمد غاليم‪ .‬التوليد الداليل يف البالغة واملعجم‪ .‬دار توبقال للنرش‪ .‬الدار البيضاء املغرب‪.‬ط ‪1987 .1‬م‪.‬ص ‪.171‬‬ ‫العدد‬

‫(‪81 )6‬‬

‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬

‫بني الحقول الداللية حرصها فيام ذكر‪ .18‬وإمنا أردنا التنويه باختزال للعالئق املفرتض مركزيتها‬ ‫بني الحقول الداللية‪ -‬مع اسرتعاء الوجوب املنهجي تقدمينا لغريها يف موضع بحثي آخر ال تتسع‬ ‫للتفصيل فيه هذه الدراسة املختزلة ‪ ،-‬وحسب تعبري إيزوتسو» فإن أية شبكة معقدة من‬ ‫الرتابطات هي «معجم» يف وجهها اللغوي‪ ،‬وهي «رؤية للعامل» يف وجهها املفهومي»‪ .19‬رغم كل‬ ‫ذلك‪ ،‬قد يواجهنا إشكال‪ ،‬يتمثل يف السؤال عن املنهجية املثىل لتحديد املفاهيم املركزية؟‪ ،‬كام‬ ‫سيقابلنا تساؤل آخر ملح‪ ،‬عن كيفية التحديد الدقيق للمفهوم؟ ولعل ايزوتسو استشعر قيمة‬ ‫هذين املأزقني املنهجيني‪ ،‬إذ هام محط اختالف كبري‪ ،‬لذلك جعل من «املفاهيم املركزية» ذات‬ ‫طبيعة مرنة من حيث اختيارها وترتيبها‪ ،20‬ما يعني اعرتافه بنسبية العملية‪ ،‬وانحصارها يف إطار‬ ‫الفرضية املمكنة‪.‬‬ ‫أما املفهوم‪ ،‬وفق الرؤية املحددة سابقا‪ ،‬فهو نقطة جد معقدة ونسبية‪ ،‬يف توافق إجامعي كبري لدى‬ ‫العديد من املنظرين‪ ،‬تابعهم يف ذلك إيزوتسو يف تصوره للمفهوم‪ ،‬إال أنه أطر تصوره هذا باتجاهه‬ ‫الفلسفي يف فهم اللغة‪ ،‬إذ املفهوم – لديه – رغم ضبابيته‪ « ،‬ال يبدأ يف الظهور كوجود مستقل ذي حدود‬ ‫ثابتة مستقرة قليال أو كثريا‪ ،‬إال عندما يتخذ هيئة لغوية‪ ،‬أي كلمة»‪.21‬‬

‫‪ .3‬مقاربة «العلم ‪ -‬لغوية»‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫قد ال نبالغ إن قَرنا أهمية ما سمي باملقاربة العلم – لغوية حسب تعبري الباحث فضل الرحامن‬

‫‪ -18‬هنالك التقاسيم التي ميكن وسمها بالكالسيكية‪ ،‬من مثل الحركة‪ ،‬والزمن‪ ،‬واإلدراك‪ ،‬واللون‪ ،‬وامللكية والتعيني ‪..‬الخ‪ ،‬وميكن لهذه‬ ‫السامت أو الخصائص سواء إدراكية أو لغوية‪ ،‬أن تتوافق وبناها التصورية‪ ،‬لكن دون أن تعرب عن الدقة التامة أو تبلغها‪ ،‬ألن عدم‬ ‫رصامتها يف التحدد تابع لعدم الوضوح التام يف الداللة بالدقة الكافية‪ ،‬ونقصد أي عدم توافقها ومبدأ ‪ :‬نعم أو ال‪ ،‬وإمنا مجال الداللة‬ ‫يبقى رهينا بالبنى اإلدراكية واللغوية‪ .‬للتفصيل أكرث انظر ‪ :‬محمد غاليم‪ .‬املعنى والتوافق‪ ،‬مبادئ لتأصيل البحث الداليل العريب‪ .‬سلسلة‬ ‫أبحاث وأطروحات‪ .‬منشورات معهد الدراسات واألبحاث للتعريب بالرباط‪ .‬مارس ‪ .1999‬ص‪.252 .250. 248‬‬ ‫‪ - 19‬محمد غاليم‪ .‬املعنى والتوافق‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.67‬‬ ‫‪ - 20‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬مرجع سابق‪.‬ص ‪.59‬‬ ‫‪ - 21‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪ . 67‬واضح هنا إعتامد إيزوتسو عىل ما كان قد اسامه وورف ب " األمناط الخفية" والتي تفرس‬ ‫بالدور الذي تلعبه اللغة دون وعي منا يف صوغ الكثري من أفكارنا‪ ،‬أي تجاوز االعتقاد الكالسييك الذي يتصور اللغة معربا عن األفكار‪ ،‬إن اللغة والفكر هنا‪،‬‬ ‫متاهيان يؤثر كل منهام يف اآلخر‪ .‬ملزيد من التفصيل أنظر‪ :‬جون إي جوزيف‪ -‬نايجل لف‪ -‬تولبت جي تيلر‪ .‬أعالم الفكر اللغوي‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.85‬‬ ‫‪ -  22‬أنظر مقدمة املُ راجِع لكتاب "الله واإلنسان"‪ ،‬املفكر فضل الرحامن‪ .‬وهي مام ت ُرجم يف النسخة العربية كذلك‪ ،‬حسب ترجمة‬ ‫محمد جالل جهاد‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪82 )6‬‬

‫عبدالله هداري‬

‫باألساسني األولني ضمن املنهج املتبع هنا‪ ،‬تنزيال لرؤية إيزوتسو واستهداء مبعاملها املركزية‪ .‬فميزة هذا‬ ‫النوع من املقاربة تتمثل يف‪:‬‬ ‫تحقيق كفاية معرفية جد مستوعبة لآللية العلمية « علم الداللة « املوظفة يف قراءة القرآن‪.‬‬ ‫نظرا لالنشغال الطويل من قبل إيزوتسو بهذا العلم‪ ،‬وتتبعه لكل تفاصيله ونقاشاته املختلفة‪ ،‬إىل‬ ‫جانب الدراية بالرشطيات التنزيلية لعمليات األجرأة القرائية‪ .‬فمصطلح علم الداللة « يفرتق يف‬ ‫دالالته اإلجرائية عن «املعنى» يف دالالته الحدوثية‪ [ .‬فهذا العلم ] ليس هو املعنى‪ ،‬ولكنه طرق‬ ‫دراسة املعنى‪ .‬وبهذا يصبح جليا من وجهة نظر منهجية‪ ،‬امتناع العلم الدارس عن االختالط مبوضوع‬ ‫درسه»‪.23‬‬ ‫وعي املنهجية املقرتحة من قبل الباحث‪ ،‬بالحدود اإلبستمولوجية للمنهج‪ ،‬يؤكد أن هذا األخري يتحرك‬ ‫ضمن نسق الفرضية يف وعي تام بالحدود النسبية املتلبسة بالقارئ‪ ،‬واملتلبسة كذلك برتاكب البديهيات‬ ‫املؤطرة لنظام الرؤية املتبعة‪.‬‬ ‫ولذلك فام قدمه إيزوتسو‪ ،‬ودون أن يلح يف ذلك‪ ،‬ينسجم وروح العلوم املعارصة‪ ،‬التي مل تعد تقيم‬ ‫ذلك الفارق بني العلمي والالعلمي‪ ،‬كام وينسجم والتامسك املنهجي والفلسفي الذي البد أن تسرتعيه‬ ‫‪24‬‬ ‫أية فرضية تقرتح‪.‬‬

‫‪ .4‬علم داللة القرآن‬

‫أول ما قد يشد انتباهنا‪ ،‬التخصيص الذي أرفقه إيزوتسو بعلم الداللة يف عناوينه‪ ،‬فجعله»‬

‫‪ - 23‬منذر عيايش‪ .‬اللسانيات والداللة‪ :‬الكلمة‪ .‬دراسات لغوية‪ .‬مركز اإلمناء الحضاري‪ .‬ط‪ .1996 .1‬ص ‪ . 31-32‬دون أن ننفي هذا االختالط‬ ‫بتاتا‪ ،‬وإال فإنا نخالف ما سبق وأقرته املباحث املفهومية‪ ،‬والتي كان من أبرز خالصاتها؛ ذلك الفصل املستحيل للذات الدارسة أو املبدعة‬ ‫عن مادة درسها وإبداعها‪ ،‬يف أشكال نستطيع تفسري البعض منها‪ ،‬دون أن نستطيع تفسري البعض اآلخر يف عفويته‪ .‬وقريب من هذا املعنى‪،‬‬ ‫ما عرب عنه " همبولت " بالقول‪ " :‬اللغة‪ ،‬عامل موجود بني العامل الخارجي‪ ،‬والعامل الذي يتفاعل داخلنا"‪ .‬رفيق البوحسيني‪ .‬معامل نظرية‬ ‫للفكر اللغوي العريب‪ ،‬مقاربة ابيستمولوجية‪ ،‬املزهر منوذجا‪ .‬افريقيا الرشق‪ .2013 .‬ص ‪.32‬‬ ‫‪ - 24‬لعل هذا النوع من املقاربة‪ ،‬وهذا النوع من التنزيل لعلم الداللة‪ ،‬كان العامل األساس يف تجسري العالقة بني دراسات إيزوتسو والقارئ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬دون أن نغفل دور الرتجمة يف ذلك‪ .‬لكن األهمية تكمن أساسا يف االنعتاق من إسار اإليديولوجي واملحاولة ما أمكن تقديم قراءة‬ ‫علم – لغوية‪ ،‬وقراءة معرفية‪ ،‬بعيدة عن الحسابات الالمعرفية‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪83 )6‬‬

‫علم الداللة والرؤية القرآنية للعامل‬

‫علم داللة القرآن»‪ ،25‬بدل أن يظل املصطلح عىل عرفه يف عدم االقرتان بنص ما‪ ،‬أو مادة درس كيفام‬ ‫كانت طبيعتها‪ .‬لذلك فتحليل سبب اإلرفاق والتعالق‪ ،‬كفيل بتعرية معنى هذا املصطلح علميا‪.‬‬ ‫دفعا ألي لبس وتحقيقا للوضوح املنهجي‪ ،‬فليس املقصود باقرتان علم الداللة بالقرآن‪ ،‬تبيني مدى‬ ‫قدرة هذا األخري عىل املواكبة أو إعجازه وما إىل ذلك من التعابري التي تبني عن مدافعة حضارية ما؛‬ ‫مبعنى كون املصطلح املساق هنا ال يعدو مجرد توليد علمي ينسجم والتطور الحاصل يف العلوم اللغوية‬ ‫اليوم‪ ،‬يبني قدرتها عىل املواءمة مع االقتضاءات املتجددة لبنى اللغة‪/‬الثقافة حتى ال تنسلخ متاما عن‬ ‫صبغياتها‪ ،‬أو أن تصاب بالجمود ودون أن تساير الركب العلمي‪.26‬‬ ‫إن املقصود هو أن املقاربة املزمع تنزيلها عىل القرآن‪ ،‬هي ذات منحى داليل‪ ،‬سيطبق فيها منهج‬ ‫«التحليل الداليل أو املفهومي ملادة مستمدة من املعجم القرآين»‪ ،27‬فالقرآن كام تقبل مقاربات عدة‬ ‫داخل العمل الرتايث الضخم املوروث عرب املدارس التفسريية‪ ،‬سواء يف اعتامدها األثر‪ ،‬أو الفقه‪ ،‬أو‬ ‫الكالم‪ ،‬أو األشاري‪ ،‬أو اللغوي ‪..‬ألخ‪ ،‬يؤكد خاصيته املنفتحة عىل وجهات نظر عدة تتساوى كلها‬ ‫يف األهمية‪ ،‬إن مل نقل تعكس يف تكاملها صورة مركبة تحمل الكثري من أبعاد رؤية القرآن للعامل‬ ‫وللوجود‪ .‬لهذا فغاية املنهج املذكور إذن‪ ،‬حسب املعنى الذي أدرجناه سابقا لعلم الداللة عند إيزوتسو‪،‬‬ ‫هو» كيفية تبنني عامل الوجود يف منظور هذا الكتاب»‪28‬ـ أي القرآن ـ لهذا‪ ،‬فاالنشغال التام حسب‬ ‫مرشوع الرجل سينصب عىل دراسة املفاهيم الكربى التي يُعتقد أن لها الدور األبرز يف تحديد معامل هذه‬ ‫الرؤية القرآنية للكون‪ .29‬وهي منهجية علمية يؤكد (برتيل مالربج) معقوليتها يف إطار توافقه مع هذه‬ ‫الرؤية‪ ،‬إذ أنه من املعقول أن ينصب تفكرينا عىل دراسة املفاهيم والعالقات القامئة بينها‪ ،‬مام ترحل إلينا‬ ‫عرب التاريخ محمال بالكثري من رؤى العامل الخاصة بنا والتي ورثناها عن طريق اللغة‪.30‬‬ ‫‪- 25‬التسمية من وضع الباحث إيزوتسو يف كتابه الله واإلنسان‪ ،‬وقد اقتبسناها ألهمية إيرادها يف منت هذه الدراسة‪ ،‬وملا تلعبه من دور يف إيضاح الرؤية‬ ‫واملنهج التطبيقي الذي يروم الباحث إجراءهام عىل القرآن الكريم ثانيا‪ .‬أنظر ‪ .‬أيزوتسو‪ .‬الله واألنسان يف القرآن‪ .‬مرجع سابق ‪ .‬ص ‪.32 .31 .30 .29‬‬ ‫‪ - 26‬عبد السالم املسدي‪.‬مباحث تأسيسية يف اللسانيات‪ .‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ .‬بريوت لبنان‪ .‬ط‪ .2010 .1‬ص ‪.49‬‬ ‫‪ - 27‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان يف القرآن‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.30‬‬ ‫‪ - 28‬نفسه‪ .‬ص ‪.32‬‬ ‫‪ - 29‬توشيهيكو إيزوتسو‪ .‬الله واإلنسان‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.33‬‬ ‫‪ - 30‬برتيل مالربج‪ .‬مدخل إىل اللسانيات‪ .‬ت السيد عبد الظاهر‪ .‬مراجعة وتقديم صربي التهامي‪ .‬املركز القومي للرتجمة‪ .‬القاهرة‪ .‬ط‪ .2010 .1‬ص ‪ .222‬دون أن يعني ذلك انكفاء عىل الوجه التارخي‬ ‫من حيث تحميله املفردات الكثري من حموالت الوعي التاريخي للمفردات ومعانيها حول الوجود والوعي به‪ .‬بينام املنحى التاريخي يف الدراسة ال يعدو تقابال متوازيا من حيث األهمية والوجه‬ ‫اآلين إن مل نقل بنوع أكرب من األهمية ‪ -‬حسب التحليل الداليل املعمل عند إيزوتسو هنا‪ -‬للمنحى اآلين يف تجاوزه للمنحى السابق‪ ،‬لكن دون استغنائهام عن التكامل املنهجي والرضوري بينهام‪.‬‬

‫العدد‬

‫(‪84 )6‬‬

‫عبدالله هداري‬

‫يجمع جل الباحثني ـ ودون مبالغة يف ذلك ـ عىل عناية علم الداللة بالدراسة ملوضوع أوحد هو‬ ‫املعنى لغويا‪ ،‬رغم أن الداللة قد تطال جوانب عديدة غري لغوية‪ .‬كام يتفقون أيضا عىل الصعوبة‬ ‫والتعقيد البالغ الذي يشكله تحديد هذا العلم تبعا لتعقد تحديد موضوعه‪ ،‬وقد صنف كلود جريمان‬ ‫هذه املعضلة التي تجابه الباحثني يف التايل ‪:‬‬ ‫عدم قابلية املصطلح للتحديد بدقة‪.‬‬ ‫‪31‬‬ ‫تناول املصطلح ضمن تخصصات مختلفة ‪.‬‬ ‫ويرجع هذا التعقيد الذي يعرفه تحديد علم الداللة يف دراسته للمعنى‪ ،‬يف كونه أقل جوانب علم‬ ‫اللغة قابلية للمعالجة العلمية عىل أسس إمربيقية صارمة‪ ،32‬ولذلك وصف بلومفيلد هذه النقطة بـ‬ ‫«رؤية يائسة»‪ ،‬حينام قال‪ »:‬تعيني املعاين هو النقطة األضعف يف الدراسة اللغوية»‪ ،33‬حيث إن موطن‬ ‫الضعف هذا شكل دافعا النفتاح هذا العلم أكرث عىل التخصصات املختلفة‪ ،‬نظرا الحتياجه ملعارف فوق‬ ‫لغوية علها تستطيع مقاربة املعنى ومحاولة تفسريه‪ ،‬ما حدا بالعديدين العتبار ذلك التوظيف خارجا‬ ‫عن ميدان علم الداللة‪ ،‬ناسجا لحقل قد تسبغ عليه مسميات كثرية‪ ،‬دون أن تعني علمية املجال أو‬ ‫اقرتانه بعلم الداللة‪ .34‬إذن فاملعاين‪ 35‬التي ال يستقر لها قرار‪ ،‬العتامدها عىل مجال تداويل من املتكلمني‬ ‫والسامعني والسياق‪ ،‬يتحكمون يف رسم معامل املعنى‪ ،‬فاملعنى وليد تعالق ذايت وخارجي‪ ،‬ميكن أن‬ ‫نوصفه بالذايت ضمن النص والبنية والنظام وما متثله هذه املراجع من اختالف ومدى تأثريها يف تشكل‬ ‫املعنى‪ ،‬أما خارجيا فاملسألة تتداخلها حينا جوانب لغوية وحينا آخر جوانب الفوق لغوي من رؤى‬ ‫ومخيال ونفسيات ‪ ...‬ألخ‪ ،‬مام هو أقرب مليادين علم النفس املعرفية منه إىل األلسنية‪.36‬‬ ‫لذلك‪ ،‬فعلم داللة القرآن حسب إيزوتسو انسجام معريف وهذه املداخل االبستمولوجية‪ ،‬حيث هو‬ ‫رؤية للعامل تحتملها لغة القرآن «العربية»‪ ،‬وهو رؤية للعامل تفرتضها بنية املعرفة يف تركيبيتها داخل‬ ‫القرآن باعتباره «نص»‪ ،‬وهي رؤية للعامل تفرتضها كذلك بنية تفكري القارئ وموضعيات رؤاه‪.‬‬ ‫‪ - 31‬كلود جريمان – رميون لوبلون‪ .‬علم الداللة‪ .‬ت نور الهدى لوشن‪ .‬دامعة قاريونس‪ .‬بنغازي‪ .‬ط‪ 1997 .1‬م‪ .‬أنظر ص ‪.23 .22 .21 .20 .19‬‬ ‫‪ - 32‬ر‪.‬ه‪ .‬روبنز‪ .‬موجز تاريخ العلم (يف الغرب)‪ .‬ت أحمد عوض‪ .‬سلسلة عامل املعرفة‪.‬الكويت‪1997 .227.‬م ‪ .‬ص ‪.342‬‬ ‫‪ - 33‬نفسه‪ .‬ص ‪.342‬‬ ‫‪ - 34‬نفسه‪ .‬ص ‪.362‬‬ ‫‪ - 35‬للتوسع يف العوامل التي تؤطر تشكل املعنى‪ ،‬أنظر‪ :‬املعنى وتشكله‪( .‬الجزء األول)‪ .‬أعامل الندوة امللتئمة بكلية اآلداب منوبة‪ .‬يف‬ ‫‪ 17-18‬و‪ 19‬نوفمرب ‪ .1994‬تكررميا لألستاذ عبدالقادر املهريي‪ .‬تنسيق املنصف عاشور‪ .‬منشورات كلية اآلداب‪ .‬منوبة‪.2003 .‬‬ ‫‪ - 36‬نسيم عون‪ .‬األلسنية‪ .‬مرجع سابق‪ .‬ص ‪.148‬‬ ‫العدد‬

‫(‪85 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول‬ ‫الثالثة عرش للديانة اليهودية‬ ‫*‬

‫د‪ .‬أرشف حسن منصور‬

‫كان هدف ابن ميمون من األصول الثالثة عرش هو أن يحصل عىل إجامع كل الناس عليها عىل‬ ‫اختالف مراتبهم يف التصديق‪ :‬الربهانيون والجدليون والخطابيون‪ .‬ذلك ألن هذه األصول تتنوع‬ ‫بني األصول الفلسفية الربهانية الخالصة‪ :‬وجود الله‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬ونفي الجسمية عنه‪ ،‬و ِق َدمه؛‬ ‫واألصول الجدلية‪ :‬أنه األحق بالعبادة‪ ،‬وعلم الله بأفعال البرش؛ واألصول الخطابية الشعرية‪ :‬علو‬ ‫نبوة موىس‪ ،‬وأيام املسيح‪ ،‬ونفي نسخ التوراة‪ .‬إن هذه األصول بهذا الرتتيب وبنوعية كل أصل منها‬ ‫هي تحقيق ملرشوع الفارايب يف الجمع بني الفلسفة والدين‪ ،‬إذ قد سبق للفارايب أن ذهب إىل أن‬ ‫االجتامع البرشي ال يستقيم إال باعتناق الجمع آلراء صادقة حول طبيعة الوجود وطبيعة املبدأ‬ ‫األول وما يصدر عنه من مباديء ثوان وموجودات‪ ،‬وبتمثيل كل هذه املباديء للجمهور بطريقة‬ ‫خيالية شعرية تسهل عليهم تقبلها واالعتقاد فيها‪.‬‬ ‫إن هذه األصول وبالصياغة والرشح الذي قدمه ابن ميمون عليها تقف دليالً عىل أنه كان يتعامل مع‬ ‫الرتاث الفلسفي اإلسالمي بالطريقة التوفيقية والتلفيقية‪ ،‬وهي نفس الطريقة التي ظهرت واضحة يف‬ ‫«داللة الحائرين»‪ .‬فهو يجمع أفكارا ً فارابية مع أفكار رشدية ميكن أن تكون متعارضة مع بعضها البعض‪.‬‬ ‫وأكرب تعارض رأيناه هو أنه يصل بعدد األصول اإلميانية إىل ثالثة عرش يف مقابل األصول الثالثة لدى ابن‬ ‫رشد‪ .‬لكن نظرا ً لرغبته يف معاملة املعتقدات الخاصة باليهودية إىل أصول إميانية فقد زاد هذا العدد‪ ،‬يف‬ ‫حني أن أصول ابن رشد الثالثة مل تكن سوى نقاط االلتقاء العامة والكلية بني الرشيعة والحكمة‪.‬‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫اشتهر موىس بن ميمون (‪ )1204 – 1138‬بكونه أول من وضع للديانة اليهودية أصوالً اعتقادية‬ ‫يجب عىل كل يهودي اإلميان بها وأخذها تسليامً وتقليدا ً‪ ،‬ويف حالة إنكار أصل واحد منها لن‬ ‫* أستاذ مساعد بقسم الفلسفة‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة اإلسكندرية‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪86 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫يستحق اليهودي نصيباً يف العامل اآليت‪ .‬كانت هذه األصول الثالثة عرش محل اهتامم بالغ من قبل‬ ‫كل مفكري اليهود منذ عرص ابن ميمون وحتى اآلن؛ إذ كانت هدفاً للرشح والتفسري والتأويل‪ ،‬كام‬ ‫كانت أيضاً هدفاً للنقد والهجوم‪ .‬يف الصفحات التالية سوف أستعرض هذه املباديء‪ ،‬ثم أوضح‬ ‫دور الخلفية الفلسفية البن ميمون يف صياغتها‪ ،‬تلك الخلفية التي سيطر عليها الفارايب وابن سينا‬ ‫وابن رشد‪.‬‬

‫البواعث الفكرية والدينية‪:‬‬

‫لكن قبل أن نبدأ يف استعراض هذه األصول‪ ،‬يجب علينا اإلجابة عن السؤال التايل‪ :‬ملاذا مل يُقدم‬ ‫أحد من اليهود قبل ابن ميمون عىل وضع أصول إميانية لليهودية؟ لقد كانت اليهودية ديانة قامئة‬ ‫قبل ابن ميمون بألفي عام‪ ،‬فلامذا ظهرت الحاجة يف عرص ابن ميمون بالذات إىل صياغة هذه‬ ‫األصول؟ الحقيقة أن هذه األصول ذات طابع نظري بحت‪ ،‬ومل تكن املراحل التي مرت بها الديانة‬ ‫اليهودية قبل ابن ميمون يف حاجة إىل النظريات بل كانت يف حاجة إىل العمليات وحسب‪ ،‬أي يف‬ ‫حاجة إىل مجرد أوامر ونواه وقواعد عملية للسلوك‪ ،‬وإىل شعائر دينية فيام يخص العبادة والنظافة‬ ‫والعادات الغذائية ورشوط الذبح واألضحيات‪ ...‬إلخ‪ .‬وقد كان هذا هو حال اليهودية يف مرحلة ما‬ ‫قبل السبي ومرحلة املعبد (أي فرتة تواجدهم يف فلسطني وقت الحكم الديني للمعبد‪ ،‬أي ملؤسسة‬ ‫هيكل سليامن وحتى األرس البابيل سنة ‪ 605‬ق‪.‬م)‪ ،‬ومرحلة ما بعد الشتات التي يطلق عليها اسم‬ ‫اليهودية الحاخامية (نظرا ً لتويل حاخامات اليهود شؤون الدين والجامعات اليهودية بعد الشتات‬ ‫سنة ‪ 70‬م‪ .).‬أما بعد ظهور املسيحية واإلسالم اللذن ميزا نفسيها عن اليهودية مبجموعة جديدة‬ ‫وخاصة من العقائد‪ ،‬فقد ظهرت الحاجة من داخل هاتني الديانتني إىل صياغة أصول إميانية فارقة‬ ‫متيز أتباع كل دين عن أتباع األديان األخرى‪ ،‬ألن األوامر والنواهي والشعائر مل تكن لتستطيع القيام‬ ‫بهذا الدور التمييزي الفاصل بني دين وآخر‪ .‬ولذلك كان أول ظهور ألصول الدين من قبل الالهوت‬ ‫املسيحي‪ .‬أما ثاين ظهور ألصول الدين فكان يف اإلسالم‪ ،‬وقد كان املعتزلة هم أول من وضعوا أصوالً‬ ‫إميانية (األصول الخمسة التي وصلت إىل اكتاملها عند القايض عبد الجبار)‪ ،‬ثم قلدهم األشاعرة؛‬ ‫ووجدت األصول األشعرية صياغتها املكتملة مع الغزايل يف كتابه «االقتصاد يف االعتقاد»‪ .‬لكن كانت‬ ‫هذه األصول مجرد أصول «كالمية» متيز الفرق الكالمية اإلسالمية‪ ،‬إذ كانت أصول «املعتزلة» أو‬ ‫أصول «األشاعرة»‪ ،‬قدموها عىل أنها هي أصول «الدين»‪.‬‬ ‫ويف مواجهة هذه األصول ال ِف َرقية قام ابن رشد بوضع أصول أخرى أكرث كلية وعمومية وبعيدة‬ ‫عن التحزب الفرقي الكالمي‪ ،‬وذلك يف «فصل املقال»‪ ،‬إذ ذهب إىل أن أصول الرشيعة التي يقع لها‬ ‫التصديق من كل الطرق (الخطابية والجدلية والربهانية) والتي ال ميكن ألحد إنكارها إال بخروجه‬ ‫العدد‬

‫(‪87 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫عن اإلميان كله‪ ،‬هي ثالثة‪« :‬اإلقرار بالله تبارك وتعاىل‪ ،‬وبالنبوات‪ ،‬وبالسعادة األخروية والشقاء‬ ‫األخروي»‪ .1‬تتصف هذه األصول بأنها قليلة العدد للغاية‪ ،‬وعامة كلية تجمع عليها كل الفرق‬ ‫اإلسالمية؛ واألهم من هذا كله‪ ،‬أن كل األديان تجمع عليها كذلك‪.‬‬ ‫وتحت تأثري ازدهار مبحث أصول الدين يف الثقافة اإلسالمية كان ابن ميمون مدفوعاً إلقامة‬ ‫أصول مامثلة لليهودية‪ .‬ومل يكن ابن ميمون عىل صلة بالفكر املسيحي ولذلك مل يكن دافعه‬ ‫نحو وضع أصوله اإلميانية من الرتاث املسيحي بل من محيطه الثقايف والحضاري اإلسالمي‬ ‫وحده‪.‬‬

‫األصول يف إجامل‪:‬‬

‫وتتلخص األصول الثالثة عرش يف اآليت‪:‬‬ ‫‪1.1‬وجود الله‬ ‫‪2.2‬وحدانيته‪.‬‬ ‫‪3.3‬نفي الجسمية عنه‪.‬‬ ‫‪ِ 4.4‬ق َدمه‪.‬‬ ‫‪5.5‬أنه األحق بالعبادة‪.‬‬ ‫‪6.6‬النبوة‪.‬‬ ‫‪7.7‬علو نبوة موىس‪.‬‬ ‫‪8.8‬التوراة وحي من الله‪.‬‬ ‫‪9.9‬نفي نسخ التوراة‪.‬‬ ‫‪1010‬علم الله بأفعال البرش‪.‬‬ ‫‪1111‬الله يثيب من ينفذ أوامر التوراة ويعاقب من يخالفها‪.‬‬ ‫‪1212‬أيام املسيح‪.‬‬ ‫‪1313‬البعث‪.‬‬

‫‪ . 1‬ابن رشد‪ :‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪ .‬مع مدخل ومقدمة تحليلية للمرشف عىل املرشوع د‪ .‬محمد‬ ‫عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ .1997‬ص ‪.108‬‬ ‫العدد‬

‫(‪88 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫املضامني والخلفيات الفلسفية‪:‬‬

‫نبدأ اآلن يف عرض األصول الثالثة عرش‪ ،‬مركزين من رشح ابن ميمون لكل أصل عىل ما يهمنا يف‬ ‫تحليالتنا التالية‪:2‬‬ ‫«األصل األول‪ :‬وجود الخالق‪ .‬أي أن هناك موجودا ً يف غاية الكامل وهو علة كل املوجودات‪ ،‬وفيه مصدر‬ ‫وجودها وسبب دوامها يف الوجود‪ .‬وإذا استطعنا أن منحي وجوده فلن يكون ليشء سواه وجود‪ ،‬وإذا‬ ‫استطعنا أن منحي وجود كل يشء‪ ،‬فسوف يبقى هو موجود‪ ،‬ألنه مكتف بذاته وال يفتقر يف وجوده ليشء‬ ‫آخر غري ذاته‪ .‬وكل ما سواه من العقول [املفارقة]‪ ،‬أي املالئكة‪ ،‬واألجرام الساموية‪ ،‬معتمد عليه يف وجوده»‪.‬‬ ‫نستطيع أن نستشف من هذا األصل‪ ،‬أصوله الفارابية والسينوية‪ ،‬إذ هو إعادة صياغة لدليل‬ ‫الواجب واملمكن عىل وجود الله عند الفارايب يف «آراء أهل املدينة الفاضلة»‪ ،3‬و«السياسة املدنية»‪،4‬‬ ‫وعند ابن سينا يف الكثري من أعامله‪ .5‬ال يعرتف الكثري من الباحثني اليهود باألصل الفارايب – السينوي‬ ‫لهذا األصل اإلمياين‪ ،‬كام ال يالحظ أغلبهم‪ ،‬سواء من القدامى أو املحدثني‪ ،‬أن هذا األصل يحتوي‬ ‫يف رشح ابن ميمون له عىل الربهنة العقلية الفلسفية عليه من دليل الواجب واملمكن‪ ،‬رمبا لعدم‬ ‫رغبتهم يف إرجاع أصول اإلميان اليهودي إىل الفكر الفلسفي اإلسالمي‪ .‬لكن الوحيد الذي أشار‬ ‫بوضوح إىل األصل السينوي لهذا الربهان الخفي هو هاري ولفسون‪ .6‬وما يجب االنتباه إليه هنا‬ ‫‪ - 2‬اعتمدنا عىل النص الذي نرشه مناحم كيلرن‪:‬‬ ‫‪Menachem Kellner, Dogma in Medieval Jewish Philosophy. From Maimonides to Abravanel. (Oxford. Portland,‬‬ ‫‪Oregon: The Littman Library of Jewish Civilization, 1986), pp. 11 – 17.‬‬ ‫وهناك ترجمة أخرى أقدم لكنها ليست أكرث دقة‪:‬‬ ‫‪Alexander Meyrowitz: “Maimonides's Creed”. The Old Testament Student, Vol. 4, No. 2 (Oct., 1884), pp. 83-86.‬‬ ‫‪ - 3‬الفارايب‪ :‬كتاب آراء أهل املدينة الفاضلة‪ .‬قدم له وعلق عليه د‪ .‬ألبري نرصي نادر‪ .‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثامنة‪ ،2002 ،‬ص ‪.57 – 56‬‬ ‫‪ - 4‬الفارايب‪ :‬كتاب السياسة املدنية‪ ،‬امللقب مببادئ املوجودات‪ .‬حققه وقدم له وعلق عليه د‪ .‬فوزي مرتي نجار‪ .‬دار املرشق‪،‬بريوت‪.‬‬ ‫الطبعة الثانية ‪ ،1993‬ص ‪.48‬‬ ‫‪ - 5‬ابن سينا‪ :‬اإللهيات من كتاب الشفاء‪ .‬املحقق‪ :‬آية الله حسن زاده اآلميل‪ .‬قم‪ ،‬مؤسسة بوستان كتاب‪ 1428 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪50 – 49‬؛‬ ‫النجاة‪ .‬يف الحكمة املنطقية والطبيعية واإللهية‪ .‬نقحه وقدم له د‪ .‬ماجد فخري‪ .‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بريوت ‪ ،1985‬ص ‪261‬؛ املبدأ‬ ‫واملعاد‪ .‬نرش عبد الله نوراين‪ .‬معهد الدراسات اإلسالمية بجامعة ميتشجن‪ ،‬بالتعاون مع جامعة طهران‪ ،1984 ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪6 - Wolfson, Harry, The Philosophy of Spinoza: Unfolding the Latent Processes of His Reasoning. 2 volumes‬‬ ‫‪(Cambridge: Harvard University Press, 1934), vol. 1, pp. 127ff, 188ff.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪89 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫هو أن ابن ميمون قد رسب برهاناً عقلياً عىل وجود الله مستقى من الفلسفة اإلسالمية يف رشحه‬ ‫لألصل األول‪ .‬كام نالحظ يف هذا النص أن ابن ميمون يتعامل مع العقول املفارقة عىل أنها هي‬ ‫املالئكة باللغة الدينية‪ ،‬متبعاً يف ذلك الفارايب‪.7‬‬ ‫«األصل الثاين‪ :‬وحدانية الله‪ ...‬فهذا الذي هو مبدأ الوجود واحد‪ .‬ووحدانيته ليست وحدانية‬ ‫الجنس أو النوع‪ ،‬وليست وحدانية الفرد الذي ميكن أن ينقسم إىل وحدات عديدة‪ ،‬وليست مثل‬ ‫واحدية الجسم البسيط الذي ميكن أن ينقسم إىل أجزاء متامثلة إىل ما ال نهاية‪ .‬إنه باألحرى واحد‬ ‫بوحدانية تخصه وحده ال يشاركه فيها أحد»‪.‬‬ ‫ويف هذا األصل أيضاً يتبني األساس الفلسفي الذي يعتمد عليه ابن ميمون‪ ،‬الذي ليس سوى‬ ‫مفهوم ابن سينا عن وحدانية الله كام ورد يف إلهيات الشفاء‪ ،8‬ويف النجاة‪ ،‬ويف «املبدأ واملعاد»‪،‬‬ ‫والذي أعاد الغزايل صياغته يف «االقتصاد يف االعتقاد»‪ .9‬ففي رشح ابن ميمون لهذا األصل يستخدم‬ ‫مفاهيم فلسفية (الجنس‪ ،‬النوع‪ ،‬الفرد‪ ،‬الجسم‪ ،‬االنقسام‪ ،‬الوحدة‪ ،‬الجزء)‪ ،‬سبق لفالسفة اإلسالم‬ ‫تعريفها واستخدامها يف متييز وحدانية الله عن كل املعاين األخرى للواحد‪.‬‬ ‫«األصل الثالث‪ :‬نفي الجسمية عنه‪ .‬أي أن هذا الواحد ليس جسامً وليس قوة يف جسم‪ .‬وال‬ ‫تلحقه صفات الجسم سواء يف ذاته أو باعتبارها عرضاً له‪ ،‬مثل الحركة والسكون‪ ...‬وهو ليس‬ ‫منقسامً وليس متصالً‪ ...‬أو كام قيل‪ :‬ليس جالساً وليس قامئاً‪ ...‬فلو كان جسامً لتامثل مع األجسام‪.‬‬ ‫وكل ما قيل يف التوراة واصفاً إياه بصفات جسمية مثل التحرك من مكان آلخر‪ ،‬أو القيام والقعود‪،‬‬ ‫[أو النزول والصعود]‪ ،‬أو الكالم‪ ،‬وما يف ذلك‪ ،‬هو مجاز كله‪ ،‬واستعارات ورموز‪ ،‬أو كام قيل «التوراة‬ ‫تتحدث بلسان البرش»‪.‬‬ ‫وقد اتفق كل فالسفة اإلسالم عىل نفي الجسمية‪ ،‬ومعهم املعتزلة واألشاعرة‪ ،‬ما عدا الحشوية‬ ‫والحنابلة الذين أثبتوها‪ ،‬مع احتفاظ األشاعرة بجواز رؤية الله عىل الرغم من كونه ليس جسامً‪،‬‬ ‫لكن ليس هذا موضوعنا‪ .‬أما ابن رشد فقد كان موقفه مختلفاً‪ .‬لقد نفى الجسمية عن الله‪،‬‬ ‫لكنه أوىص بعدم الترصيح للجمهور بانتفاء الجسمية‪ ،‬وباالحتفاظ بهذا النفي للخاصة وحدهم؛‬ ‫‪ -  7‬الفارايب‪ :‬كتاب السياسة املدنية‪ ،‬ص ‪ ،80 – 79‬حيث يفرس الفارايب الوحي عىل أنه فيض من املبدأ األول عىل النبي بوساطة العقل‬ ‫الفعال‪ ،‬مام يعني أن مالك الوحي هو هذا العقل الفعال‪.‬‬ ‫‪ - 8‬ابن سينا‪ :‬اإللهيات من كتاب الشفاء‪ ،‬ص ‪.61 – 56‬‬ ‫‪ - 9‬الغزايل‪ :‬االقتصاد يف االعتقاد‪ .‬ضبطه وقدم له موفق فوزي الجرب‪ .‬الحكمة للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،1994 ،‬ص ‪.82 – 81‬‬ ‫العدد‬

‫(‪90 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫ذلك ألن الجمهور يصعب عليه تصور يشء موجود إال إذا كان جسامً‪ ،‬وإذا انتفت الجسمية‬ ‫عرس عليهم تخيل اإلله‪ .‬ويف ذلك يقول‪« :‬إنه من البني أنها من الصفات املسكوت عنها‪ .‬وهي‬ ‫إىل الترصيح بإثباتها يف الرشع أقرب من نفيها‪ .‬وذلك أن الرشع قد رصح بالوجه واليدين يف‬ ‫غري ما آية من الكتاب العزيز‪ .‬وهذه اآليات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات‪...10‬‬ ‫والواجب عندي يف هذه الصفة‪ ،‬أن يُجرى فيها عىل منهاج الرشع‪ ،‬فال يُرصح فيها بنفي وال‬ ‫إثبات»‪ .‬ومن بني األسباب التي يعطيها ابن رشد تربيرا ً ملوقفه يف عدم الترصيح بنفي الجسمية‬ ‫وترك الجمهور عىل ظاهر النص القرآين الذي يفيد التجسيم‪« :‬أن الجمهور يرون أن املوجود هو‬ ‫املتخ َّيل واملحسوس‪ ،‬وأن ما ليس مبتخيل وال محسوس فهو عدم‪ .‬فإذا قيل لهم‪ :‬إن هاهنا موجودا ً‬ ‫ليس بجسم‪ ،‬ارتفع عنهم التخيل‪ ،‬فصار عندهم من قبيل املعدوم‪ ،‬وال سيام إذا قيل‪ :‬إنه ال خارج‬ ‫العامل وال داخله‪ ،‬وال فوق وال أسفل‪ ...11‬إذا رصح بنفي الجسمية عرضت يف الرشع شكوك كثرية‬ ‫مام يقال يف املعاد وغري ذلك‪ ...‬إذا رصح بنفي الجسمية وجب الترصيح بنفي الحركة‪ .‬فإذا رصح‬ ‫بنفي هذا‪ ،‬عرس تصور ما جاء يف صفة الحرش من أن الباري سبحانه يطلع عىل أهل الحرش وأنه‬ ‫الذي يتوىل حسابهم‪.12»...‬‬ ‫لقد رأينا كيف أن ابن ميمون قد رصح يف األصل الثالث بنفي الجسمية‪ ،‬ويف نص ابن رشد‬ ‫السابق نراه يسكت عن الجسمية‪ ،‬وهو إىل تركها للجمهور أقرب من نفيها‪ .‬ألن الجمهور ال ميكنهم‬ ‫تصور يشء موجود إال إذا كان جسامً‪ ،‬وإذا قيل لهم إن الله ليس جسامً عرس عليهم تخيله‪ ،‬ألن‬ ‫الجمهور يتخيل فقط‪ ،‬إذ هو ال يستطيع أن يعقل الله أو يتصوره بالعقل‪ .‬يبدو أن ابن ميمون قد‬ ‫تقدم خطوة إىل األمام عىل ابن رشد يف هذا الشأن‪ ،‬فهو قد أرص عىل نفي الجسمية‪ ،‬وكذلك عىل‬ ‫اعتبار كل نصوص التوراة التي تفيد الجسمية مجاز واستعارات ورموز‪ ،‬وهو ما يتضمن الدعوة‬ ‫لتأويلها‪ ،‬ذلك التأويل الذي رصح ابن رشد بعدم جواز الترصيح به للجمهور‪ .‬وما يؤكد لنا أن ابن‬ ‫ميمون قد تقدم عن ابن رشد خطوة‪( ،‬وهي خطوة واحدة فقط ألن ابن رشد يشاركه يف النفي‬ ‫املطلق للجسمية وكل الخالف بينهام هو يف الترصيح بهذا النفي وحسب)‪ ،‬أن ابن ميمون قد أوىص‬ ‫يف «داللة الحائرين» بالترصيح بنفي الجسمية للجمهور‪ ،‬ومل يعذر هذا الجمهور بحجة جهله أو‬ ‫متسكه بظاهر النص‪ .‬يقول ابن ميمون يف ذلك‪« :‬فاعلم يا هذا‪ ،‬أنك متى اعتقدت تجسيامً أو‬ ‫‪ - 10‬ابن رشد‪ :‬الكشف عن مناهج األدلة‪ .،‬مع مدخل ومقدمة تحليلية ورشوح للمرشف عىل املرشوع د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ .‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،1998‬ص ‪.138‬‬ ‫‪ - 11‬املرجع السابق‪ :‬ص ‪.139‬‬ ‫‪ - 12‬املرجع السابق‪ :‬ص ‪.140‬‬ ‫العدد‬

‫(‪91 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫حالة من حاالت الجسم‪ ،‬فإنك تستفز غرية الرب وغضبه‪ ،‬وتوقد نار سخطه‪ ،‬و[أنك] كارهه وعدوه‬ ‫وخصمه‪[ ،‬و] أشد من عابد الوثن بكثري‪ .‬وإن خطر ببالك أن معتقد التجسيم معذور‪ ،‬لكونه ُريب‬ ‫عليه أو لجهله وقصور إدراكه‪ ،‬فكذلك ينبغي لك أن تعتقد يف عابد الوثن‪ ،‬ألنه ما يعبد إال لجهل أو‬ ‫لرتبية عىل منهج آبائهم‪ ...‬وإن قلت إن ظاهر النص يلقيهم يف هذه الشبهة‪ ،‬كذلك فلتعلم أن عابد‬ ‫الوثن إمنا دعاه لعبادتها خياالت وتصورات ناقصة‪ .‬فال عذر ملن ال يقلد املحققني الناظرين‪ ،‬إن كان‬ ‫مقرصا ً عن النظر»‪ .13‬إن ابن ميمون يتوجه بنفي الجسمية للجمهور ال للخاصة‪ ،‬وال يعذر الجمهور‬ ‫بحجة جهله أو قصور إدراكه أو اعتياده عىل معتقدات خاطئة ورثها من آبائه‪ .‬وهو فوق ذلك‬ ‫وكأنه يرد عىل ابن رشد عندما يقول «وإن خطر ببالك أن معتقد التجسيم معذور لكونه‪ ...‬وإن‬ ‫قلت إن ظاهر النص يلقيهم يف هذه الشبهة‪»...‬؛ فابن رشد هو الذي يعتقد أن معتقد التجسيم‬ ‫معذور‪ ،‬ألن ظاهر النص يدفعه إىل ذلك‪ ،‬إذ أن النصوص «هي إىل الترصيح بإثباتها يف الرشع أقرب‬ ‫من نفيها‪ .‬وذلك أن الرشع قد رصح بالوجه واليدين يف غري ما آية من الكتاب العزيز‪ .‬وهذه اآليات‬ ‫قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات»‪ .‬إن نص ابن ميمون السابق الذي يرصح فيه بنفي‬ ‫الجسمية عن الجمهور ويرد عىل من يعذر الجمهور يف اعتقاده الجسمية هو من األدلة النصية‬ ‫الهامة عىل أثر ابن رشد يف فكره‪ .‬صحيح أن هذا األثر يف هذه النقطة بالذات سلبي وليس إيجابياً‪،‬‬ ‫إذ أنها النقطة التي خالف فيها ابن ميمون ابن رشد‪ ،‬إال أنها تدل بوضوح عىل اطالع ابن ميمون‬ ‫عىل كتاب «الكشف» البن رشد‪.‬‬ ‫ونعود إىل ما كنا فيه‪ ،‬ونقول إن ابن ميمون قد وضع نفي الجسمية كأصل من األصول اإلميانية‬ ‫لليهودية‪ ،‬وهي أصول ليست للخاصة من الفالسفة بل للخاصة والجمهور يف الوقت نفسه‪،‬‬ ‫عىل الرغم من أن نفي الجسمية ال يستطيع استيعابه إال من تلقى تعليامً فلسفياً‪ .‬فامذا كان‬ ‫هدف ابن ميمون من ذلك؟ أستطيع أن أفرس ذلك بأن ابن ميمون كان يريد للجمهور (اليهودي‬ ‫بالطبع) أن يأخذ هذا النفي للجسمية تقليدا ً من الفالسفة‪ ،‬عىل أساس أن الذي ال يعرف ليس‬ ‫معذورا ً يف جهله وعليه تقليد من يعرف‪ .‬فالجمهور ليس معذورا ً يف نقص قدراته العقلية ألن‬ ‫الواجب عليه اتباع علامءه ومفكريه وفالسفته‪ .‬فابن ميمون هو الذي يقول يف «داللة الحائرين»‪:‬‬ ‫«فال عذر ملن ال يقلد املحققني الناظرين‪ ،‬إن كان مقرصا ً عن النظر»‪ .‬لقد صنع ابن ميمون‬ ‫للفيلسوف سلطة من داخل أصوله اإلميانية‪ ،‬وهي سلطة تأويل نصوص التجسيم والتي يجب‬ ‫عىل الجمهور التسليم بها‪ .‬إن ابن ميمون يوفر بذلك مكاناً مركزياً للتأويل العقيل املجازي‬ ‫‪ - 13‬ابن ميمون‪ :‬داللة الحائرين‪ ،‬عارضه بأصوله العربية والعربية د‪ .‬حسني أتاي‪ .‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪،2008‬‬ ‫ص ‪.87 – 86‬‬ ‫العدد‬

‫(‪92 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫والرمزي للنص التورايت ويجعله واجباً دينياً‪ ،‬ويفرض عىل الجمهور طاعة الفيلسوف‪ .‬وهو هنا‬ ‫يخرج عن املجال الرشدي متاماً ليدخل يف املجال الفارابوي‪ ،‬إذ ذهب الفارايب إىل أن الفيلسوف‬ ‫أفضل من الفقيه ومن املتكلم‪.14‬‬ ‫«األصل الرابع هو قدم الله‪ .‬ويعني أن هذا الواحد الذي وصفناه يتصف باألسبقية املطلقة عىل‬ ‫كل يشء آخر‪ ،‬وليس ملوجود سواه أسبقية عليه»‪.‬‬ ‫قد يعني هذا األصل يف ظاهره أن الله هو القديم وأن العامل محدث‪ .‬لكن ليس هذا هو التفسري‬ ‫الصحيح‪ .‬فالقدم هنا ميكن أن يكون قدماً من حيث األولوية األنطولوجية ومن حيث العلية‪ ،‬ال‬ ‫القدم مبعنى السبق الزماين‪ .‬ذلك ألن الفالسفة القائلني بقدم العامل يقولون أيضاً إن الله قديم‪ ،‬وأن‬ ‫قدمه هو أن العامل هو املعلول الدائم واألبدي له‪ ،‬وأن قدم الله هو أسبقية العلة عىل معلولها يف‬ ‫السببية ال يف الزمان‪ .‬وهذا هو موقف ابن رشد‪ ،‬ومن قبله موقف ابن سينا‪ .‬رمبا كان ابن ميمون‬ ‫يهدف ترسيب فكرة قدم العامل بهذا األسلوب املاكر‪ ،‬فهو أستاذ التخفي والرسية‪ .‬وهكذا فهمه‬ ‫أغلب مفكري اليهود‪ ،‬القدامى واملحدثني‪.15‬‬ ‫«األصل الخامس أنه هو األحق بالعبادة وأنه ال يجب أن يعبد سواه‪...‬وال تجب الطاعة والحمد إال له‪...‬‬ ‫وأن [العبادة والطاعة والحمد] ال تجب ألي موجود سواه‪ ،‬سواء املالئكة أو األفالك أو العنارص أو ما تركب‬ ‫منها‪ ...‬ألنها ال حيلة لها بدونه‪ ...‬وال متسك بالوسطاء يك تصل إليه بل وجه أفكارك نحوه هو وحده‪»...‬‬

‫‪ - 14‬عىل الرغم من أن آرثر هاميان قد أشار إىل هذا االختالف بني ابن ميمون وابن رشد‪ ،‬وأنه يخرج ابن ميمون عن املجال الرشدي‪ ،‬إال‬ ‫أنه مل ينتبه إىل تأثري الفاريب‪:‬‬ ‫‪Arthur Hyman, "Maimonides' 'Thirteen Principles,'" in Alexander Altmann, ed., Jewish Medieval and Renaissance‬‬ ‫‪Studies (Cambridge, 1967), pp. 119 – 144, (at 137 – 138, 141).‬‬ ‫أما الذي ركز عىل تأثري الفارايب يف ابن ميمون فهو ليو شرتاوس‪:‬‬ ‫‪Leo Strauss: “Some Remarks on the Political Science of Maimonides and Farabi”. Interpretation. Fall 1990, Vol.‬‬ ‫‪18, No.1, pp. 3 – 30.‬‬ ‫‪ - 15‬وأبرزهم ليو شرتاوس‪:‬‬ ‫‪Leo Strauss: “The Literary Character of the Guide of the Perplexed”, in Persecution and the Art of Writing.‬‬ ‫‪(Chicago & London: The University of Chicago Press, 1952), pp. 38 ff.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪93 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫هنا تتضح الخلفية الفلسفية البن ميمون بقوة‪ .‬ذلك ألن الكثري من املذاهب السابقة عليه‬ ‫واملعارصه له كانت تصور فعل الله يف العامل عىل أنه يتم من خالل تأثري النجوم والكواكب وحركاتها‬ ‫عىل العامل األريض‪ ،‬وكانت تصور الله عىل أنه ال يفعل مبارشة يف العامل بل عن طريق هذه الوسائط‪،‬‬ ‫وأن الله هو محرك العقول املفارقة (املالئكة) التي تحرك بدورها األفالك وما عليها من نجوم‪،‬‬ ‫فتُحدث هذه الحركة التغريات األرضية‪ .‬كانت هذه األفكار منترشة عىل نطاق واسع‪ ،‬يف األفالطونية‬ ‫املحدثة ويف املذاهب الغنوصية والعرفانية والصوفية‪ ،‬وبدأت يف االنتشار لدى القبالة اليهودية‪.‬‬ ‫وتأكيد هذا األصل عىل عدم فاعلية املالئكة (العقول املفارقة) واألفالك والعنارص بدون فعل الله‪،‬‬ ‫واعتبار كل األفعال هي أفعال الله مبارشة ألن هذه الوسائط ال يشء بدونه‪ ،‬يوحي بقوة أن هذا‬ ‫األصل موضوع خصيصاً لفئة الفالسفة واملفكرين واملتصوفني والعرفانيني الذين اعتقدوا يف الفعل‬ ‫املستقل لألفالك وتوجهوا نحو عبادتها من دون الله‪ ،‬أو عىل األقل نحو تفسري ظواهر العامل بردها‬ ‫ال إىل الله مبارشة بل إىل تأثري األفالك‪ .‬أي أن ابن ميمون يقف هنا ضد التفسري الطبيعي والفليك‬ ‫البحت ملا يحدث عىل األرض‪.‬‬ ‫وهنا نتلمس محاولة ابن ميمون لالنفالت من اإلطار الصدوري أو األفالطوين املحدث الذي‬ ‫حكم التأمالت الفلسفية يف الدين عند الفارايب وابن سينا‪ .‬ذلك ألن التصور الصدوري للكون‬ ‫يعطي لألفالك تأثريا ً مستقالً وفاعلية خاصة بها عىل الظواهر األرضية‪ ،‬وينظر إىل هذه الفاعلية‬ ‫عىل أنها فاعلية وسيطة بني العقول املفارقة وعامل ما دون فلك القمر‪ .16‬فالله حسب هذه الرؤية‬ ‫األفالطونية املحدثة ال يفعل يف العامل مبارشة‪ ،‬بل عن طريق تحريك العقول املفارقة لألفالك‪.‬‬ ‫وإرجاع ابن ميمون كل فاعلية يف العامل إىل الله مبارشة هو نفي من قبله للوضع املتميز الذي‬ ‫كانت تحتله األجرام الساموية وحركاتها يف املذاهب األفالطونية املحدثة‪ .‬وموقفه هذا يقرتب من‬ ‫موقف ابن رشد الذي رفض فكرة فعل الله يف العامل عن طريق وسائط‪ .‬وعىل الرغم من أن ابن‬ ‫ميمون قد كشف عن تأثر يف صياغته للمبدأ األول بالفارايب‪ ،‬إال أنه يف هذا املبدأ الخامس يكشف‬ ‫عن خلفية رشدية قوية تحاول االنفالت من الرؤية الصدورية والتصور الرتاتبي الصارم للكون من‬ ‫املبدأ األول إىل العقول املفارقة ونفوسها إىل عامل ما دون فلك القمر‪ .‬ابن ميمون إذن يكشف يف‬ ‫أصوله ال عن مجرد محاولة للجمع بني الفلسفة والدين‪ ،‬بل كذلك عن محاولة للجمع بني املشائية‬ ‫يف صورتها الرشدية واألفالطونية املحدثة يف صورتها الفارابية والسينوية‪ ،‬وهو جمع تلفيقي مييز‬ ‫فلسفته كلها‪.‬‬

‫‪ - 16‬بيار دوهيم‪ :‬مصادر الفلسفة العربية‪ .‬ترجمة د‪ .‬أبو يعرب املرزوقي‪ .‬دار الفكر‪ ،‬دمشق ‪ ،2009‬ص ‪.190 – 177‬‬ ‫العدد‬

‫(‪94 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫«األصل السادس هو النبوة‪ .‬يجب أن تعلم أن يف النوع البرشي أفرادا ً ميلكون استعدادا ً فائقاً‬ ‫ودرجة عالية من الكامل‪ .‬وعندما تكون نفوسهم مهيأة للكامل العقيل‪ ،‬فإن هذا العقل اإلنساين‬ ‫يتصل بالعقل الفعال‪ ،‬الذي يصدر عنه فيض هائل عىل العقل اإلنساين‪ .‬وهؤالء هم األنبياء‪،‬‬ ‫واتصالهم هو النبوة‪ ...‬لكن رشح هذا املبدأ يطول‪ ...‬ويكفي ما قررناه وما تقوله التوراة يف هذا‬ ‫الشأن‪.»...‬‬ ‫وهذا هو أقوى عنرص أفالطوين محدث يف فكر ابن ميمون‪ ،‬ورثه عن الفارايب الذي سبق له أن‬ ‫فرس النبوة عىل أنها فيض من العقل الفعال عىل النبي‪ ،‬عىل عقله أوالً ثم من عقله عىل مخيلته‪.‬‬ ‫وهذه النظرية الفيضية يف النبوة هي أوضح ما يختلف فيه ابن ميمون عن ابن رشد الذي فرس‬ ‫النبوة تفسريا ً طبيعياً ابتعد به عن األفالطونية املحدثة ونظريتها يف الفيض‪ .‬لقد كان ابن ميمون يف‬ ‫نظرية النبوة فارابياً متاماً ومل يكن رشدياً أبدا ً‪ .‬لكن املالحظ أن ابن ميمون ال يكتفي بوضع اإلميان‬ ‫بالنبوة باعتباره أصالً إميانياً وحسب‪ ،‬بل هو يفرس النبوة كام رأينا التفسري األفالطوين املحدث‬ ‫املشهور منذ الفارايب‪ ،‬ورمبا منذ إخوان الصفا من قبله‪ .‬فام معنى أن يدمج ابن ميمون نظرية‬ ‫فلسفية يف النبوة كتفسري لها وكرشح ألصل من أصول العقيدة اليهودية؟ أكان يهدف من ذلك‬ ‫جعل اليهود يؤمنون بالتفسري الفييض األفالطوين املحدث للنبوة مع إميانهم بالنبوة ذاتها؟ رمبا‬ ‫كان هذا هو هدفه‪ ،‬لكن املؤكد أن ابن ميمون كان يريد من هذه األصول الثالثة عرش أن تكون‬ ‫جامعة للفالسفة والجمهور معاً‪ ،‬فكأنه كان يربر للفالسفة ظاهرة النبوة تربيرا ً قريباً مام يعتقدونه‬ ‫يف الهيئة التي ترتب عليها الكون من عقل أول وعقول مفارقة تنتهي بالعقل الفعال‪ ،‬وما يعتقدونه‬ ‫من ملكات معرفية برشية تتدرج من الحس إىل املخيلة إىل العقل حتى تصل إىل الكامل العقيل‬ ‫األقىص الذي يقول عنه إنه هو الكامل الذي يؤهل النبي لالتصال بالعقل الفعال‪ .‬وهو يفرس النبوة‬ ‫عىل أنها اتصال من هذا النوع‪ ،‬ويفرس الوحي عىل أنه فيض من العقل الفعال عىل النبي‪ ،‬هادفاً‬ ‫بذلك الجمع بني إميان الجمهور بالنبوة ونظريات الفالسفة يف العقول املفارقة وملكات املعرفة‬ ‫البرشية‪ .‬وما كنا نراه من تفسري مجمل ونظري بحت للنبوة عند الفارايب عىل أنها فيض من العقل‬ ‫الفعال عىل النبي يف مؤلفات فلسفية للخاصة‪ ،‬نراه موضوعاً كأصل إمياين عند ابن ميمون‪ ،‬هادفاً‬ ‫بذلك إدخال العقالنية الفلسفية يف صميم اإلميان اليهودي‪.‬‬ ‫لكن املالحظ يف هذا األصل ورود مصطلحني ينتمي كل منهام إىل نظرية مختلفة يف‬ ‫النبوة‪« :‬االتصال» و«الفيض»‪ .‬لقد فرس ابن رشد النبوة عىل أنها اتصال بالعقل الفعال‪،‬‬ ‫وابتعد عن تفسريها عىل أنها فيض من العقل الفعال‪ ،‬نظرا ً اللتزامه املشايئ الصارم‬ ‫املبتعد عن نظرية الصدور والفيض لدى ممثيل األفالطونية املحدثة املسلمني‪ ،‬وأهمهم‬ ‫العدد‬

‫(‪95 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫الفارايب وابن سينا‪ .17‬لكننا يف هذا األصل نرى ابن ميمون يستخدم املصطلحني معا ً‪ .‬هل‬ ‫كان ابن ميمون يجهل انتامء كل مصطلح منهام إىل نسق معريف مختلف عن اآلخر‪،‬‬ ‫اختالف املشائية األرسطية عن األفالطونية املحدثة؟ هل كان يجهل نقد ابن رشد للعنارص‬ ‫األفالطونية املحدثة التي أدخلها الفارايب وابن سينا يف املنظومة األرسطية؟ من خالل‬ ‫خربتنا بنصوص ابن ميمون نستطيع القول إنه حتى ولو كان يعرف كل ما سبق‪ ،‬فمن‬ ‫املمكن أنه تعمد الجمع بني تفسريين مختلفني للنبوة‪ ،‬أي عىل أنها اتصال وعىل أنها‬ ‫فيض‪ ،‬نظرا ً لسوابق عديدة من جانبه‪ .‬فابن ميمون كان توفيقيا ً وتلفيقيا ً‪ ،‬إذ كان يتعمد‬ ‫الجمع بني اتجاهات فلسفية مختلفة‪ ،‬مشائية وأفالطونية محدثة‪ .‬وأبرز مثال عىل ذلك‬ ‫هو جمعه يف الرباهني الفلسفية عىل وجود الله بني برهان الواجب واملمكن الفارابوي‬ ‫والسينوي‪ ،‬وبرهان الحركة األرسطي يف «داللة الحائرين»‪ .18‬ولذلك فإنني أعتقد أنه جرى‬ ‫عىل نفس عادته يف الجمع التلفيقي عندما فرس النبوة عىل أنها فيض واتصال يف الوقت‬ ‫نفسه‪ .‬ورمبا كان يريد أن يجمع عىل أصوله املشائني والصدوريني من أتباع ملته‪.‬‬ ‫«األصل السابع هو علو نبوة موىس»‪ .‬واملقصود به أن نبوة موىس متميزة عن باقي النبوات‬ ‫وتعلوها جميعاً‪ ،‬عىل أساس أن كل النبوات ماعدا موىس كانت بوسائط‪ ،‬إما عن طريق ملك أو‬ ‫رؤيا أو حلم أو عالمة أياً كان نوعها‪ ،‬أما نبوة موىس فهي وحدها التي حدثت باالتصال املبارش بينه‬ ‫وبني الله‪ ،‬إذ كلمه الله مبارشة ووجهاً لوجه‪ ،‬وحدث بينهام حوار كام بني اثنني‪ .‬كام أن نبوة موىس‬ ‫تعلو باقي النبوات ألنه تلقى الرشيعة كاملة من الله‪ ،‬ومل تنزل رشيعة أخرى قبله أو بعده‪ ،‬وأن كل‬ ‫األنبياء السابقني هم مقدمة ملجيئه‪ ،‬وكل األنبياء الالحقني يستمدون رشعيتهم منه ورسالتهم للناس‬ ‫أن يطيعوا رشيعته‪ .‬وال ينىس ابن ميمون أن يفرس علو نبوة موىس تفسريا ً فلسفياً‪ ،‬إذ يذهب إىل أنها‬ ‫حدثت عن طريق العقل ال عن طريق املخيلة مثل باقي األنبياء؛ ذلك ألن الوحي الذي تلقاه موىس‬ ‫كان من أجل كامل عقله‪ ،‬فتلقى بذلك معرفة املبدأ األول للوجود وهو الله الواحد البسيط الذي‬ ‫ليس بجسم‪ ،‬وهي الصفات اإللهية الحقة‪ ،‬أما باقي األنبياء فإن الوحي كان عىل مخيلتهم ال عىل‬ ‫‪ )  17‬تناول ابن رشد موضوع االتصال بالعقل الفعال بطريق غري فييض عن طريق وصول النفس إىل كاملها األقىص باملعرفة‪ ،‬عىل أساس‬ ‫أن العقل الفعال ليس مجرد يشء يقع خارج النفس اإلنسانية وخارج العامل كله‪ ،‬بل عىل أساس أنه فينا‪ ،‬وصورة لنا‪ .‬وقد ظهرت هذه‬ ‫املعالجة يف أكرث من عمل‪ :‬ابن رشد‪ :‬مقال "هل يتصل بالعقل الهيوالين العقل الفعال وهو متلبس بالجسم؟" منشور يف كتاب‪ :‬تلخيص‬ ‫كتاب النفس البن رشد‪ .‬نرشة د‪ .‬أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬دار النهضة املرصية‪ ،‬القاهرة ‪ .1950‬ص ‪124‬؛ تلخيص كتاب النفس‪ .‬تحقيق‬ ‫وتعليق ألفرد ل‪ .‬عربي‪ .‬مراجعة د‪ .‬محسن مهدي‪ .‬تصدير أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم مدكور‪ .‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة ‪ ،1994‬ص ‪.132 – 129‬‬ ‫‪ )  18‬دليل الحركة هو من ص ‪ 269‬إىل ص ‪ ،273‬ودليل الواجب واملمكن هو من ص ‪ 273‬إىل ص ‪.277‬‬ ‫العدد‬

‫(‪96 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫عقولهم‪ ،‬عن طريق الصور الحسية والرموز واملجازات‪ .‬وهنا يتضح أن أساس متييز ابن ميمون لنبوة‬ ‫موىس هو أساس فلسفي‪ ،‬إذ يعتمد عىل نظرية املعرفة األرسطية ومتييزها بني امللكات املعرفية من‬ ‫حس ومخيلة وعقل‪ ،‬وعىل العالقة الرتاتبية بينها والصلة بني هذا الرتاتب والرتاتب الكوين للعقول‬ ‫املفارقة والتي تتضح يف املذاهب األفالطونية املحدثة‪ .‬كام أن متميزه لنبوة موىس عن نبوة باقي‬ ‫األنبياء عىل أساس أن نبوة موىس كانت بالعقل الخالص وأن نبوة باقي األنبياء كانت باملخيلة‪،‬‬ ‫يعتمد عىل النظرية الفارابية يف النبوة والتي ترجعها إىل فيض العقل الفعال عىل النبي‪ ،‬عقالً‬ ‫ومخيلة‪ ،‬بحيث تكون النبوة األكمل هي عن طريق العقل وتكون النبوة األنقص عن طريق املخيلة‪.‬‬ ‫«األصل الثامن هو أن التوراة وحي من الله‪ ...‬إذ يجب اإلميان بأن التوراة التي بني يدينا اليوم‬ ‫هي التي نزلت عىل موىس‪ ،‬وأن كل ما فيها من الله‪ ،‬والتي نزلت منه عن طريق ما يسمى مجازا ً‬ ‫بالكالم‪ ،‬وأن ال أحد يعلم كيفية هذا الكالم إال الذي تلقاه‪ .»...‬والواضح يف هذا األصل أن ابن ميمون‬ ‫يرد عىل املسلمني الذين يعتربون التوراة محرفة‪ ،‬إذ يرص عىل أنها صحيحة وأنها هي التي نزلت‬ ‫عىل موىس‪ ،‬وأنه ليس فيها زيادة من عند البرش‪ ،‬ألن «كل ما فيها من الله»‪ .‬لكن األمر الهام هنا‬ ‫هو أن ابن ميمون يعترب الوسيلة التي انتقل بها الوحي من الله إىل النبي‪ ،‬وهي الكالم‪ ،‬عىل أنه‬ ‫مجاز‪ .‬فقد انتقل الوحي من الله إىل النبي‪ ،‬وهذه حقيقة واقعة يف نظر ابن ميمون‪ ،‬وعقيدة إميانية‬ ‫يجب التسليم بها‪ ،‬أما القول بأن هذا االنتقال كان بالكالم فهو مجاز‪ ،‬ألن ال أحد يعرف الطريقة‬ ‫وال الوسيلة التي انتقل بها الوحي من الله إىل النبي إال النبي نفسه‪ .‬وهنا يظهر أثر املعتزلة يف ابن‬ ‫ميمون‪ ،‬والذين قالوا بحدوث القرآن‪ ،‬وبأن الله ال يتكلم عىل الحقيقة ألنه ليس جسامً يك يصدر‬ ‫عنه صوت‪ ،‬وأن الله خلق كالماً سمعه النبي لكنه مل يتكلم بنفسه‪ .‬كام يظهر تأثره بابن رشد‪ ،‬الذي‬ ‫قال يف «الكشف»‪« :‬وأما الحروف التي يف املصحف فهي من صنعنا‪ ،‬بإذن الله‪ .‬وإمنا وجب لها‬ ‫التعظيم ألنها دالة عىل اللفظ املخلوق لله وعىل املعنى الذي ليس مبخلوق»‪ .19‬واللفظ يف النص‬ ‫الديني مخلوق ألنه برشي‪ ،‬إذ أن النص الديني بلغة البرش‪ .‬وبذلك يكون اللفظ برشياً واملعنى‬ ‫إلهياً‪ .‬وأعتقد أن أفكار املعتزلة وابن رشد كانت يف ذهن ابن ميمون وهو يكتب رشحه لهذا األصل‪.‬‬ ‫والذي جعله يقول إن القول بأن الكالم كان وسيلة انتقال الوحي من الله إىل النبي هو قول مجازي‪،‬‬ ‫أنه ال يعتقد يف إمكان استخدام الله للغة برشية يك يتواصل مع البرش‪ ،‬ألن الله ال يتجسد يف أي‬ ‫صورة برشية حتى لو كانت بالكالم البرشي‪ .‬ويبدو من التحليل النيص الدقيق ملنطوق هذا األصل‬ ‫أن ابن ميمون مييز بني شيئني‪ :‬الوسيلة التي تواصل بها الله مع النبي‪ ،‬والوسيلة التي نقل بها النبي‬ ‫هذا التواصل للناس‪ .‬فالذي نعرفه عىل وجه اليقني أن النبي نقل إىل الناس ما تلقاه من الوحي‬ ‫‪ - 19‬ابن رشد‪ :‬الكشف عن مناهج األدلة‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫العدد‬

‫(‪97 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫بالكالم‪ ،‬لكن هذا ال يعني أن النبي نفسه تلقى الوحي من الله بالكالم‪ ،‬بل من املمكن أن يكون‬ ‫قد تلقاه بوسائل أخرى ال نعرفها‪ ،‬وهو فقط الذي يعرفها‪ ،‬لكنه (أي النبي) نقل إىل الناس بالكالم‬ ‫ما تلقاه من الوحي بوسائل أخرى‪ .‬هذا هو املتضمن يف نص ابن ميمون‪ ،‬وهو مبني عىل ما قاله‬ ‫ابن رشد‪ .‬أمل يقل ابن رشد إن اللفظ مخلوق‪ ،‬أي برشي؟ فالكالم البرشي هو طريقة التواصل بني‬ ‫البرش وبعضهم‪ ،‬لكنه ليس رشطاً أن يكون هو وسيلة التواصل بني الله والنبي‪ .‬وهنا نالحظ عىل‬ ‫هذا األصل ترسيب ابن ميمون ألفكار فلسفية ثورية داخل أصل من أصول الدين‪ ،‬وذلك بالتلميح‬ ‫واإلشارة الرسيعة التي تتضح من استخدامه لكلمة «مجاز» لوصف ما يعرف بكالم الله‪ .‬ويبدو‬ ‫أن ابن ميمون كان يريد إجامعاً بني فالسفة اليهود وجمهورهم عىل أصول واحدة‪ ،‬فهو يعطي‬ ‫للجمهور ما يعتقدونه من أن التوراة من الله‪ ،‬ثم يعطي للفالسفة ما يعتقدونه من أن كالم الله‬ ‫مجاز‪ .‬وابن ميمون هو أستاذ أساليب التخفي والبارع يف إخفاء مذهبه الرسي‪.‬‬ ‫«األصل التاسع هو نفي نسخ التوراة»‪ .‬ومن الواضح للغاية يف هذا األصل أنه يقف يف مواجهة‬ ‫املسيحية واإلسالم معاً‪ ،‬اللذان اعتربا اإلنجيل والقرآن عىل التوايل ناسخني للتوراة ويحالن محلها‪.‬‬ ‫فلام كانت نبوة موىس هي األعىل عىل كل نبوة أخرى‪ ،‬فمن املنطقي أن تكون توراته ثابتة ال تتغري‬ ‫وال تنسخها رشيعة أخرى‪ .‬والغرض من هذا األصل هو املحافظة عىل الديانة اليهودية نفسها وعىل‬ ‫التامسك الداخيل للمجتمع اليهودي والهوية اليهودية التي عامدها الدين‪ .‬وبذلك يكون هذا األصل‬ ‫ليس مجرد أصل إمياين‪ ،‬بل أصل سيايس اجتامعي من الدرجة األوىل‪.‬‬ ‫«األصل العارش هو علم الله بأفعال البرش»‪ .‬هذا األصل من األصول االعتقادية البحتة‪ ،‬وهو‬ ‫يضعه عن قصد يف مقابل قول بعض الفالسفة إن الله ال يعلم الجزئيات وأن علمه بالكليات فقط‪،‬‬ ‫مثل أرسطو وبعض فالسفة األفالطونية املحدثة والفارايب وابن سينا‪ .‬وكان يجب عىل ابن ميمون أن‬ ‫يضع هذا االعتقاد عىل أنه أحد األصول‪ ،‬ألنه هو الذي ينبني عليه الثواب والعقاب‪ ،‬فال ميكن لله‬ ‫أن يثيب ويعاقب ما مل يكن عاملاً بأفعال البرش الجزئية‪ ،‬ألن الثواب والعقاب هو عىل هذه األفعال‬ ‫الجزئية‪ .‬والواضح من هذا األصل أنه موضوع للجمهور يك يعرفوا أن الله يعلم أفعالهم وبالتايل‬ ‫يرتدعوا ويلتزموا الصواب؛ إنه أصل سيايس أيضاً‪ ،‬هدفه السيطرة عىل الجمهور‪ .‬فليس رجل الدين‬ ‫فقط وال الحاكم وحده هو الذي يبغي السيطرة عىل الجمهور‪ ،‬بل الفيلسوف أيضاً‪ ،‬ألن الفيلسوف‬ ‫ال يستطيع العيش يف مجتمع يسوده الفوىض‪.‬‬ ‫«األصل الحادي عرش هو الثواب والعقاب‪ .‬فالله يثيب من يطيع أوامر التوراة ويعاقب من يخالفها‬ ‫ويفعل املحرمات‪ .‬وأكرب ثواب من الله هو العامل اآليت‪ ،‬وأكرب عقاب هو الحرمان من هذا العامل اآليت‪.»...‬‬ ‫العدد‬

‫(‪98 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫املالحظ يف هذا األصل أنه مل يصف الثواب والعقاب بأنهام هام الجنة والنار‪ ،‬ومل يصفهام كذلك‬ ‫بأنهام النعيم والعذاب‪ ،‬بل يتحدث فقط عن «العامل اآليت»‪ .‬وأعتقد أن ابن ميمون قد تعمد عدم‬ ‫تصوير الثواب والعقاب بالجنة والنار كإشارة منه للفالسفة الذين يعتقدون يف أن التصوير الحيس‬ ‫للثواب والعقاب هو للعامة فقط بهدف الرتغيب والرتهيب بحسب عقولها القارصة وتفكريها‬ ‫املحدود‪ ،‬ومنهم ابن رشد‪ .20‬كام أنه يتجنب بذلك إشكالية البعث وهل هو جسدي أم ال‪ .‬فلو‬ ‫كان البعث لألجساد فسوف يكون الثواب والعقاب حسيني‪ ،‬يف صورة الجنة والنار‪ ،‬ولو كان البعث‬ ‫للروح فقط فإن الثواب والعقاب لن يكونا حسيني بل معنويني‪ ،‬مثل السعادة والشقاء (وهام‬ ‫املصطلحان اللذان يفضلهام ابن رشد)‪ .‬ولتجنب كل ذلك تحدث ابن ميمون عن الثواب باعتباره‬ ‫نصيباً من العامل اآليت‪ ،‬مع عدم تحديد طبيعة هذا العامل اآليت‪ ،‬والعقاب عىل أنه حرمان من هذا‬ ‫العامل اآليت‪ .‬وبهذه الصيغة يستطيع ابن ميمون الوصول إلجامع عىل أصوله من العامة ومن‬ ‫الفالسفة يف الوقت نفسه‪ .‬لقد كان ابن ميمون يكتب هذا األصل ويف ذهنه الخالفات اإلسالمية‬ ‫حول البعث‪ ،‬والتي وصلت إىل قمتها يف «تهافت الفالسفة» و»تهافت التهافت»‪.21‬‬ ‫«األصل الثاين عرش هو أيام املسيح‪ ،‬أي اإلميان والتوكيد بقدومه‪.»...‬‬ ‫وميأل ابن ميمون رشحه لهذا األصل بالكثري من آيات العهد القديم التي تتنبأ بقدوم املسيح‬ ‫املنتظر‪ .‬وهذا األصل هدفه األسايس مواجهة املسيحية والحفاظ عىل الكيان اليهودي والعقلية‬ ‫اليهودية من أن يتم اخرتاقها من املسيحية؛ ذلك ألن املسيحية تؤمن بقدوم املسيح وبأنه هو‬ ‫يسوع النارصي‪ ،‬أما اليهودية فال تؤمن بيسوع باعتباره املسيح وتنتظر شخصاً آخر غريه؛ وإذا اعتقد‬ ‫اليهود بيسوع فلن يعودوا يهودا ً‪ .‬ولذلك كان من الرضوري للمحافظة عىل اليهودية ذاتها التأكيد‬ ‫عىل أن املسيح مل يأت بعد وأنه ٍ‬ ‫أت يف املستقبل‪ .‬واستشهاد ابن ميمون بآيات العهد القديم الدالة‬ ‫عىل قدومه هو توكيد منه عىل الرشوط اليهودية التي يجب أن تتوافر يف املسيح‪ ،‬وغري املتوافرة يف‬ ‫‪ - 20‬ابن رشد‪ :‬الرضوري يف السياسة‪ .‬مخترص كتاب السياسة ألفالطون‪ .‬نقله عن العربية إىل العربية د‪ .‬أحمد شحالن‪ .‬مقدمة وتحليل‬ ‫ورشوح د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت ‪ ،1998‬ص ‪.89 – 80‬‬ ‫‪ - 21‬قد يعرتض علينا معرتض ويقول إن ابن ميمون قد ألف "مشناة التوراة" التي وضع فيها األصول الثالثة عرش حوايل سنة ‪ 1168‬أو‬ ‫‪ ،1169‬أي قبل أن يؤلف ابن رشد "تهافت التهافت" (‪ .)1180‬وردنا عىل هذا االعرتاض أن هذا صحيح بالفعل‪ ،‬لكن املعروف أن ابن‬ ‫ميمون كان دائم املراجعة ملؤلفاته‪ ،‬إذ أن ما سكت عنه يف مشناة التوراة ذاتها وهو خلق العامل‪ ،‬عاد يف أواخرأيامه إلضافته يف نسخة‬ ‫نهائية‪ .‬فحتى لو كان يؤلف املشناة وهو ال يعلم ب"تهافت التهافت"‪ ،‬فقد حصل عليه قبل أن يضع النسخة النهائية للمشناة‪ .‬حول‬ ‫التعديل الذي أجراه ابن ميمون عىل األصول الثالثة عرش‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫‪Menachem Kellner, Dogma in Medieval Jewish Philosophy, P. 33.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪99 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫يسوع النارصي‪ ،‬أي أن يكون قائدا ً عسكرياً وزعيامً شعبياً وطنياً يهزم أعداء اليهود ويحررهم من‬ ‫العبودية‪ .‬وهدف ابن ميمون من هذا األصل أن يحافظ لليهود عىل أملهم يف الخالص من الشتات‬ ‫واالضطهاد يف الدنيا وعدم انتظار اآلخرة‪.‬‬ ‫األصل الثالث عرش هو البعث‪ ،‬وقد رشحناه من قبل»‪ .‬وهذه هي أكرب خدعة مارسها ابن ميمون‬ ‫عرب كل مؤلفاته‪ ،‬إذ مل يرشح البعث من قبل‪ ،‬بل أقره وحسب‪ .‬هذه العبارة القصرية هي كل ما قاله‬ ‫فصل‪ ،‬ومل يأت بنصوص من التوراة كعادته‪ .‬ترك األمر هكذا ومل‬ ‫عن البعث‪ ،‬ومل يزد‪ ،‬ومل يرشح‪ ،‬ومل يُ ِّ‬ ‫يقل لنا ما طبيعة هذا البعث‪ ،‬هل هو لألبدان‪ ،‬أم للنفس فقط؟ هل هو عودة إىل نفس األبدان التي‬ ‫كانت يف الحياة الدنيا أم أن الله سيخلق لنا أبدانا أخرى جديدة؟ لقد تجنب ابن ميمون كل هذه‬ ‫اإلشكاليات مبهارة فائقة‪ ،‬وألقى لنا كلمة ثم هرب رسيعاً دون أن يشعر به أحد‪ .‬والجدير بالذكر أن‬ ‫موقف ابن رشد يف هذا الصدد هو القول بجواز عودة األنفس إىل أبدان أخرى ال إىل نفس األبدان‪،‬‬ ‫ألن ما يفنى ال يعود كام كان‪ ،‬والجواز ظني وليس بيقني‪ .‬أما أحوال املعاد فابن رشد مييل إىل تأكيد‬ ‫األحوال الروحية واعتبار السعادة والشقاء روحيان وعقليان ال حسيان‪ ،‬مع االحتفاظ بالتمثيالت‬ ‫الحسية للجمهور ألنهم ال يفهمون إال إياها‪ .22‬وقد جنب ابن ميمون نفسه كل هذه اإلشكاليات‬ ‫ومل يدخل يف هذا الطريق الوعر‪ ،‬واكتفى بإقرار «البعث» فقط‪ ،‬يف كلمة واحدة خاطفة‪ ،‬ومل يقل لنا‬ ‫شيئاً عن طبيعته أو كيفيته أو حاله‪.‬‬

‫تحليل ملجمل األصول وللمرشوع الفكري الكامن فيها‪:‬‬ ‫بعد عرضنا لألصول الثالثة عرش ورشحنا لكل أصل‪ ،‬نكون اآلن يف موضع ُ َيكِّننا من تحليل مجمل‬ ‫هذه األصول للكشف عن دلوالتها وأهداف ابن ميمون من وضعها بهذا العدد وبهذا الرتتيب‪.‬‬ ‫بعد فحصنا لهذه األصول الثالثة عرش‪ ،‬نالحظ أنها تجمع بني األصول الفلسفية البحتة واألصول‬ ‫العقائدية التي تشرتك فيها كل األديان واألصول الخاصة بالديانة اليهودية وحدها‪ .‬ذلك ألن نفي‬ ‫الجسمية من األصول الفلسفية الخالصة‪ ،‬والثواب والعقاب هو ما تشرتك فيه كل األديان‪ ،‬أما علو‬ ‫نبوة موىس وعدم إمكان نسخ التوراة واإلميان بقدوم املسيح (كام يفهمه اليهود) فهي أصول خاصة‬ ‫بالديانة اليهودية وحدها‪ .‬والحقيقة أن األصول بهذه الطريقة مرتبة حسب درجة العمومية‪ ،‬من‬ ‫األكرث عمومية إىل األقل‪ ،‬ومرتبة كذلك حسب درجات التصور العقيل‪ ،‬من األكرث تجريدا ً إىل األكرث‬

‫‪ - 22‬ابن رشد‪:‬الكشف عن مناهج األدلة‪ ،‬ص ‪.204 – 199‬‬ ‫العدد‬

‫(‪100 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫عينية‪ ،‬ومن التصوري إىل التخييل‪ ،23‬ومن الفلسفي إىل الديني‪ ،‬نهاية باألسطوري (قدوم املسيح)‪.‬‬ ‫وال شك أن ابن ميمون قد أقام هذا الرتتيب عن قصد ويف ذهنه نفس هذا التدرج‪.‬‬ ‫هذا الجمع املقصود بني األصول الفلسفية املجردة والعامة عمومية مطلقة من جهة‪ ،‬واألصول‬ ‫االعتقادية الخاصة بالديانة اليهودية من جهة أخرى‪ ،‬يخدم عند ابن ميمون هدفني‪ :‬الهدف األول‬ ‫هو أن يقيم إجامعاً بني الجمهور والفالسفة حول هذه األصول‪ ،‬بحيث يتمكن الفيلسوف من‬ ‫العيش يف سالم وانسجام مع مجتمع مستقر تسيطر عليه الرشيعة‪ ،‬ويستطيع الجمهور أيضاً قبول‬ ‫بعض املباديء الفلسفية البسيطة عىل أنها مباديء إميانية‪ ،‬مثل نفي الجسمية والنظرة الفلسفية‬ ‫للكون (العقول املفارقة والعقل الفعال)‪ ،‬والتربير العقيل للنبوة باعتبارها فيضاً من العقل الفعال‪،‬‬ ‫وهي نظرية فلسفية أراد ابن ميمون ترسيبها يف صورة أصل إمياين‪ .‬والحقيقة أن ابن ميمون‬ ‫بذلك كان ينفذ برنامج الفارايب الذي وضعه يف «مباديء آراء أهل املدينة الفاضلة» و«السياسة‬ ‫املدنية»‪ .‬فقد ذهب الفارايب إىل أن االجتامع البرشي يف حاجة إىل آراء صادقة يك يتامسك ويسوده‬ ‫النظام‪ .‬وامللة عند الفارايب هدفها متثيل هذه اآلراء الصادقة يف صور خيالية وتشبيهات واستعارات‬ ‫ومجازات يستطيع الجمهور استيعابها‪ .‬أما هدف ابن ميمون السيايس وهو أن يتمكن الفيلسوف‬ ‫من العيش يف املجتمع وسط جمهور متدين فقد استعاره من ابن رشد‪.‬‬ ‫أما الهدف الثاين فهو أن يضفي شيئاً من العقالنية عىل العقائد اليهودية‪ ،‬وذلك بتفسريها تفسريا ً‬ ‫فلسفياً‪ ،‬وإخفاء هذا التفسري الفلسفي يف صورة أصول وقواعد إميانية‪ ،‬والتعتيم عليه باعتباره تفسريا ً‬ ‫وتقدميه يف صورة رشح لألصول اإلميانية‪ ،‬مثلام نجد يف رشحه للوحدانية والقدم واألحقية بالعبادة‪،‬‬ ‫والنبوة واختالف نبوة موىس عن باقي األنبياء‪ .‬كام أن من أساليب التخفي التي اتبعها ابن ميمون‪،‬‬ ‫أن هذه األصول مل يضعها منفردة ومستقلة‪ ،‬بل أدخلها بني ثنايا رشحه عىل املشناة‪ ،‬يف الفصل الذي‬ ‫يتناول سلطة ومسؤوليات السنهدرين‪ ،‬أي املحاكم اليهودية وما يتعلق بها من قواعد إجرائية وقوانني‬ ‫وعقوبات‪ .‬ويف تناوله لعقوبة اإلعدام‪ ،‬ذهب إىل أن من يعاقب بها سوف يظل يهودياً ويحتفظ‬ ‫بنصيبه يف العامل اآليت‪ ،‬طاملا كان يؤمن باألصول الثالثة عرش‪ .‬أما الذي ال يؤمن بها‪ ،‬أو الذي ينكر أصالً‬ ‫واحدا ً فقط منها‪ ،‬فهو ال يستحق نصيباً من العامل اآليت‪ .24‬وبعد هذه «الفتوى» يرسد ابن ميمون‬ ‫أصوله الثالثة عرش‪ .‬إنه إذن أخفاها داخل رشحه الضخم عىل املشناة‪ ،‬ووضعها يف سياق التعليق عىل‬ ‫قوانني وإجراءات املحاكم اليهودية‪ .‬وهو كان يتوقع أن املتفحصني من الفالسفة سوف يصلون إليها‪.‬‬ ‫‪ -  23‬انظر يف ذلك‪ ،‬رضا الزواري‪ :‬املخيلة والدين عند ابن رشد‪ .‬دار صامد للنرش والتوزيع‪ ،‬صفاقس‪.178 – 150 ،2005 ،‬‬ ‫‪24 - Menachem Kellner, Dogma in Medieval Jewish Philosophy, P. 10.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪101 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫أثر ابن رشد يف التقسيم الداخيل لألصول‪:‬‬ ‫لقد تعرفنا حتى اآلن عىل األثر الفارابوي الواضح يف صياغة ابن ميمون لألصول الثالثة‬ ‫عرش‪ ،‬وأرشنا إىل أثر البن رشد أيضاً‪ .‬فهل هذا هو كل أثر ابن رشد أم أن هناك املزيد؟ هل‬ ‫يقف األثر الرشدي يف أصول ابن ميمون عىل املضامني الفلسفية لبعض هذه األصول‪ ،‬أم أن‬ ‫هناك أثرا ً آخر غري مالحظ؟ الحقيقة أن األثر الرشدي األكرب واألهم مل يظهر بعد‪ ،‬ألنه صعب‬ ‫االكتشاف للغاية‪ ،‬وابن ميمون كام علمنا هو أستاذ التخفي والرسية‪ .‬فامذا ميكن أن يكون‬ ‫هذا األثر؟‬ ‫إنه يف التقسيم الداخيل لهذه األصول ويف العالقة بينها‪ .‬لقد سبق وأن قلنا إن ابن رشد قد وضع‬ ‫ثالثة أصول فقط للدين‪ ...« :‬اإلقرار بالله تبارك وتعاىل‪ ،‬وبالنبوات‪ ،‬وبالسعادة األخروية والشقاء‬ ‫األخروي»‪ ،25‬والحقيقة أن األصول الثالثة عرش البن ميمون تتوزع داخلياً عىل هذه األصول الرشدية‬ ‫الثالثة‪ .‬فاإلميان بالله وبالنبوات وبالسعادة والشقاء األخرويني هي الفئات الثالث التي تنقسم إليها‬ ‫أصول ابن ميمون‪.‬‬ ‫ولسنا نحن الذين اكتشفنا هذه الحقيقة‪ ،‬بل الذي اكتشفها هو شمعون ديوران؛ وهو‬ ‫فيلسوف يهودي أسباين كان يعيش يف أواخر العصور الوسطى (‪ .26)1444 - 1361‬أعاد ديوران‬ ‫فحص األصول الثالثة عرش واختزلها يف ثالثة أصول‪ ،‬وهي نفسها أصول ابن رشد (اإلميان بالله‪،‬‬ ‫وبالنبوات‪ ،‬وبالسعادة والشقاء األخرويني)‪ ،‬ثم اعترب باقي أصول ابن ميمون مشتقة منها ونظر‬ ‫إليها عىل أنها أصول فرعية‪ .‬يقول ديوران‪ ...« :‬إذا عددنا األصول األساسية فسوف يكون لدينا‬ ‫ثالثة فقط‪ ،‬أما إذا عددناها مع األصول املشتقة فسنجد املجموع أكرث من ثالثة عرش‪ .‬لكن‬ ‫األصول األساسية ليست سوى ثالثة وال أكرث من ذلك»‪ .27‬ويقصد ديوران أن ابن ميمون كان‬ ‫مجربا ً عىل الوصول إىل ثالثة عرش أصل وأنه كان ميكنه أن يتوصل إىل عدد أكرث‪ ،‬لكن ما حكمه‬ ‫يف ذلك هو آيات التوراة التي كان يستخدمها للتدليل عىل كل أصل؛ فلام وجد أن اآليات التي‬ ‫أمامه تفرض عليه ثالثة عرش أصالً كان مضطرا ً إىل وضع هذا العدد‪ .‬لكن لو كان ابن ميمون قد‬ ‫‪ - 25‬ابن رشد‪ :‬فصل املقال‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫;‪26 - Hirsch Jacob Zimmels. “Duran, Simeon Ben Zemah”. Encyclopedia Judaica, Fred Skolnik, editor-in-chief‬‬ ‫‪Michael Berenbaum, executive editor. -- 2nd ed. (Thomson – Gale: 2007), vol. 6, pp. 58 – 60.‬‬ ‫‪27 - Duran, Ohev Mishpat, chapters viii – x, cited in, Menachem Kellner, Dogma in Medieval Jewish Philosophy, P. 86.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪102 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫نظر إىل األصول يف ذاتها برصف النظر عن اآليات التي تؤيدها وبالرتكيز فقط عىل األسايس منها‬ ‫لوجد أنها ثالثة أساسية فقط‪.28‬‬ ‫ثم يعمل ديوران بعد ذلك عىل اشتقاق األصول الفرعية من األصول الثالثة األساسية عىل النحو‬ ‫التايل‪ :‬األصل األسايس األول هو اإلميان بالله‪ ،‬واألصول املشتقة منه هي وحدانيته وقدمه ونفي‬ ‫الجسمية عنه وأحقيته بالعبادة‪ .‬هذه األصول الفرعية مع األصل األسايس تشكل األصول الخمسة‬ ‫األوىل يف قامئة ابن ميمون‪ .‬واألصل األسايس الثاين هو النبوة‪ ،‬ويشتق منه علو نبوة موىس‪ ،‬واملصدر‬ ‫اإللهي للتوراة‪ ،‬ونفي نسخها‪ ،‬وهذه هي األصول األربعة من السادس إىل التاسع يف قامئة ابن‬ ‫ميمون‪ .‬واألصل األسايس الثالث هو الثواب والعقاب (األصل الحادي عرش عند ابن ميمون)‪ ،‬وهو‬ ‫يفرتض علم الله بأفعال البرش (األصل العارش)‪ ،‬وأنه سيجازيهم إما يف الحياة الدنيا بقدوم املسيح‬ ‫(األصل الثاين عرش)‪ ،‬أو يف اآلخرة عند البعث (األصل الثالث عرش)‪.29‬‬ ‫لكن إذا كان تفسري ديوران صحيحاً‪ ،‬فلامذا مل يكتف ابن ميمون باألصول الرشدية الثالثة وحسب‪،‬‬ ‫وجعل أصوله تصل إىل هذا العدد الذي يجمع فيه بني ما هو عقيل فلسفي خالص وما هو عقدي‬ ‫إمياين بحت؟ إجابتي عن هذا السؤال أن ابن ميمون كان ملتزماً بنظرية الفارايب يف اآلراء املناسبة‬ ‫لالجتامع املدين‪ ،‬ويف أن هذه اآلراء يجب أن تشمل كل ما ميكنه أن يحث الجمهور عىل الطاعة‬ ‫والفضيلة‪ ،‬ويعطيهم نصيبهم من السعادة‪ ،‬مثل اإلميان بالثواب والعقاب‪ ،‬وأحقية الله بالعبادة‪30‬؛‬ ‫مضافاً إىل ذلك التزام ابن ميمون مبا قاله ابن رشد يف «تهافت التهافت» من أن الفالسفة هم أكرث‬ ‫الناس تعظيامً للرشائع‪ ،‬قابلني لكل معتقادتها ملا فيها من نفع للجمهور‪.‬‬ ‫ومل يكتف ديوران باختزال أصول ابن ميمون الثالثة عرش إىل األصول الرشدية الثالثة‪ ،‬بل اعترب‬ ‫أن هذه األصول الثالثة هي أصول الديانة اليهودية ذاتها‪ ،‬وأن تأويلها محرم والخطأ يف هذا التأويل‬ ‫غري معذور ويخرج املؤول عن اليهودية ويصري كافرا ً؛ أما الخطأ يف تأويل األصول الفرعية املشتقة‬ ‫فليس كفرا ً بل هو بدعة ميكن أن يُسامح عليها املؤول‪ .‬وهذا املعيار يف الحكم عىل تأويل األصول‬ ‫هو كام نرى رشدي متاماً‪ ،‬إذ سبق البن رشد أن نص عليه يف «فصل املقال»‪ ،‬إذ يقول‪« :‬وبالجملة‬ ‫‪28 - Ibid: P. 87.‬‬ ‫‪29- Ibid: loc.cit.‬‬ ‫‪ -  30‬الفارايب‪ :‬رشح رسالة زينون الكبري اليوناين‪ .‬منشور يف‪ :‬الرسائل الفلسفية الصغرى‪ .‬تحقيق وتقديم عبد األمري األعسم‪ .‬دار التكوين‪،‬‬ ‫دمشق‪ ،2012 ،‬ص ‪.246 – 245‬‬ ‫العدد‬

‫(‪103 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫فالخطأ يف الرشع عىل رضبني‪ :‬إما خطأ يُعذر فيه من هو من أهل النظر يف ذلك اليشء الذي وقع‬ ‫فيه الخطأ‪ ...‬وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس‪ .‬بل إن وقع يف مباديء الرشع فهو كفر‪ ،‬وإن‬ ‫وقع فيام بعد املباديء فهو بدعة»‪ .31‬مبعنى أن الخطأ يف تأويل يشء ما عدا املباديء الثالثة لإلميان‬ ‫ليس كفرا ً‪ ،‬أي ال يخرج املؤول من امللة‪ .‬وهذا هو نفس معيار ديوران‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الذي أشار إىل اختزال ديوران ألصول ابن ميمون الثالثة عرش إىل األصول الرشدية‬ ‫الثالثة هو الباحث يوليوس جومتان يف كتابه الشهري «فلسفات اليهودية»‪ .32‬كام أنه أشار إىل أن‬ ‫يوسف ألبو (‪ ، )1444 – 1380‬تلميذ ديوران‪ ،‬قد اتبع نفس الطريقة يف اختزال أصول ابن ميمون‬ ‫إىل أصول ابن رشد‪ ،‬متبعاً يف ذلك أستاذه ديوران‪ ،‬ومقدماً مربرات خاصة به كذلك‪ .33‬وقد تعرض‬ ‫جومتان لهجوم شديد عىل هذا الكتاب من الباحثني اليهود‪ ،‬ويبدو أن السبب يف ذلك يرجع إىل أنه‬ ‫زاد من الكشف عن األصول الفلسفية اإلسالمية للفلسفة اليهودية‪.34‬‬ ‫لكن الذي مل يتناوله جومتان هو عالقة أصول ابن رشد الثالثة بأصول ابن ميمون الثالثة عرش‪.‬‬ ‫فإذا كان ديوران قد حلل أصول ابن ميمون بدقة واكتشف أنها ت ُ َرد يف نهاية التحليل إىل األصول‬ ‫الرشدية الثالثة‪ ،‬وبنفس الرتتيب الرشدي‪ ،‬فهل كان ابن ميمون واعياً بذلك؟ وهل كان معتمدا ً‬ ‫فصلها وأخرج منها أصوالً فرعية مشتقة منها ليصل‬ ‫هو اآلخر عىل األصول الرشدية الثالثة بحيث َّ‬ ‫عددها إىل ثالثة عرش؟ لقد عرفنا من ديوران أن أصول ابن ميمون الثالثة عرش ترد إىل أصول‬ ‫ابن رشد الثالثة‪ ،‬فهل هذا يعني أن ابن ميمون نفسه اعتمد عىل األصول الرشدية وقام بالعملية‬ ‫العكسية‪ ،‬أي بتفكيك أصول ابن رشد الثالثة إىل ثالثة عرش؟ مل يتناول أحد من الباحثني هذه‬ ‫األسئلة‪ ،‬رمبا نظرا ً لكون معظمهم من اليهود‪ ،‬والباحثون اليهود‪ ،‬واملعارصون منهم عىل الخصوص‪،‬‬ ‫يتجنبون عن قصد الدخول يف إشكاليات تأثر ابن ميمون بابن رشد‪ ،‬فهم ال يريدون رد فكر ابن‬ ‫ميمون‪ ،‬أحد أهم وأكرب فالسفة اليهود عىل مر العصور‪ ،‬إىل ابن رشد‪.‬‬

‫‪ -  31‬ابن رشد‪ :‬فصل املقال‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫‪32 - Julius Guttmann, Philosophies of Judaism: The History of Jewish Philosophy from Biblical Times to Franz‬‬ ‫‪Rosenzweig. Translated by David W. Silverman. (New York: Anchor Books, 1966), pp. 278 – 280.‬‬ ‫‪33 - Ibid: pp. 282 – 283.‬‬ ‫‪ -  34‬يذكر جومتان اسم ابن رشد يف ‪ 51‬صفحة‪ ،‬وابن سينا يف ‪ 28‬صفحة‪ ،‬والفارايب يف ‪ 11‬صفحة‪ ،‬والغزايل يف ‪ 11‬صفحة‪ ،‬وهذا يفوق‬ ‫قدرة اليهودي عىل التحمل‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪104 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫إنني أميل إىل التأكيد عىل أن ابن ميمون كان يكتب أصوله الثالثة عرش ويف ذهنه أصول‬ ‫ابن رشد الثالثة‪ ،‬نظرا ً العتبارات كثرية‪ .‬منها أن االختزال الذي أجراه ديوران ألصول ابن ميمون‬ ‫إىل أصول ابن رشد يكشف لنا عن أن التقسيم الداخيل ألصول ابن ميمون هو يف متاثل تام‬ ‫مع أصول ابن رشد‪ ،‬وال ميكن أن يكون هذا التامثل قد حدث عرضاً‪ .‬كام أن ابن ميمون يأيت‬ ‫بأصوله يف الفصل الذي يتناول قوانني السنهدرين من رشحه للمشناة‪ ،‬وهي املحكمة الجنائية‬ ‫الدينية اليهودية‪ ،‬واملختصة بالحكم يف الجرائم الكربى ومنها الكفر‪ .‬ويف متييز ابن ميمون بني‬ ‫الذي ينتمي لليهودية عىل الرغم من جرامئه والذي يخرج عنها‪ ،‬يقوم برسد األصول الثالثة‬ ‫عرش التي إذا أنكر أحد اليهود واحدا ً فقط منها يصري كافرا ً‪ .‬هذه األصول إذن وظيفتها التمييز‬ ‫بني املؤمن والكافر بني اليهود‪ ،‬وهي نفس وظيفة األصول الثالثة عند ابن رشد‪ ،‬إذ هي التي‬ ‫تحدد َمن الكافر‪ ،‬بإنكار أحدها‪ ،‬و َمن املبتدع إذا أخطأ يف تأويل فروعها‪ ،‬ومن املعذور إذا‬ ‫كان من أهل العلم واالختصاص الذي ف ْرضه النظر يف هذه األشياء(‪ .)35‬هذا باإلضافة إىل أن‬ ‫ترصيح ابن ميمون يف األصل الثالث بنفي الجسمية ييش باطالعه عىل «الكشف عن مناهج‬ ‫األدلة»‪ ،‬إذ خالف ابن رشد الذي كان أميل إىل عدم الترصيح بنفي الجسمية للجمهور‪ .‬فقد‬ ‫نقد ابن ميمون يف هذا األصل كل من يرتك الجمهور لشبهة الجسمية متعذرا بجهل الجمهور‬ ‫ونشأته عىل أفكار خاطئة ومتسكه باملحسوس واملتخيل‪ ،‬وهي نفس األعذار التي قدمها ابن‬ ‫رشد لعدم الترصيح بنفي الجسمية للجمهور يف ذلك الكتاب‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫كان هدف ابن ميمون من األصول الثالثة عرش هو أن يحصل عىل إجامع كل الناس عليها‬ ‫عىل اختالف مراتبهم يف التصديق‪ :‬الربهانيون والجدليون والخطابيون‪ .‬ذلك ألن هذه األصول‬ ‫كام رأينا تتنوع بني األصول الفلسفية الربهانية الخالصة‪ :‬وجود الله‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬ونفي الجسمية‬ ‫عنه‪ ،‬و ِق َدمه؛ واألصول الجدلية‪ :‬أنه األحق بالعبادة‪ ،‬وعلم الله بأفعال البرش؛ واألصول الخطابية‬ ‫الشعرية‪ :‬علو نبوة موىس‪ ،‬وأيام املسيح‪ ،‬ونفي نسخ التوراة‪ .‬وقد الحظنا أن هذه األصول بهذا‬ ‫الرتتيب وبنوعية كل أصل منها هي تحقيق ملرشوع الفارايب يف الجمع بني الفلسفة والدين‪ ،‬إذ قد‬ ‫سبق للفارايب أن ذهب إىل أن االجتامع البرشي ال يستقيم إال باعتناق الجمع آلراء صادقة حول‬ ‫طبيعة الوجود وطبيعة املبدأ األول وما يصدر عنه من مباديء ثوان وموجودات‪ ،‬وبتمثيل كل هذه‬ ‫املباديء للجمهور بطريقة خيالية شعرية تسهل عليهم تقبلها واالعتقاد فيها‪.‬‬

‫‪ -  35‬ابن رشد‪ :‬فصل املقال‪ ،‬ص ‪.109 – 108‬‬ ‫العدد‬

‫(‪105 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫لكن أال ميكن أن يحدث اعرتاض من قبل الفيلسوف عىل هذا الجمع التلفيقي بني األصول‬ ‫الفلسفية واألصول الجدلية والخطابية؟ هل يرىض الفيلسوف أن ت ُجمع املباديء العقلية الربهانية‬ ‫الخالصة التي يتوصل إليها العقل وحده مع األصول االعتقادية األخرى التي يعتنقها الناس تسليامً‬ ‫وتقليدا ً؟ مل ير ابن ميمون أي تناقض يف هذا الجمع التلفيقي‪ ،‬ألن االجتامع املدين يف حاجة إليه‪.‬‬ ‫والذي يقدم املربر لذلك ليس الفارايب بل ابن رشد‪ ،‬الذي قال يف «تهافت التهافت» إن الفالسفة‬ ‫هم أكرث الناس تعظيامً للرشائع وملا فيها من إميان باملعجزات ومشاهد الثواب والعقاب ومن قواعد‬ ‫سلوكية وشعائر‪ ،‬ألن الفالسفة يدركون جيدا ً األهمية العملية والسياسية للرشائع‪ ،‬وخاصة يف ضامن‬ ‫السلم واألمن واالستقرار االجتامعي بضامنها لجمهور طيع سهل االنقياد‪ .‬وما قاله ابن رشد حققه‬ ‫ابن ميمون عملياً يف صورة تلك األصول الثالثة عرش‪.‬‬ ‫والحقيقة أن هذه األصول وبالصياغة التي رأيناها مع الرشح الذي قدمه ابن ميمون عليها يقف‬ ‫دليالً عىل أنه كان يتعامل مع الرتاث الفلسفي اإلسالمي بالطريقة التوفيقية والتلفيقية‪ ،‬وهي نفس‬ ‫الطريقة التي ظهرت واضحة يف «داللة الحائرين»‪ .‬فهو يجمع أفكارا ً فارابية مع أفكار رشدية ميكن‬ ‫أن تكون متعارضة مع بعضها البعض‪ .‬وأكرب تعارض رأيناه هو أنه يصل بعدد األصول اإلميانية إىل‬ ‫ثالثة عرش يف مقابل األصول الثالثة لدى ابن رشد‪ .‬لكن نظرا ً لرغبته يف معاملة املعتقدات الخاصة‬ ‫باليهودية إىل أصول إميانية فقد زاد هذا العدد‪ ،‬يف حني أن أصول ابن رشد الثالثة مل تكن سوى‬ ‫نقاط االلتقاء العامة والكلية بني الرشيعة والحكمة‪.‬‬ ‫وإذا كانت أصول ابن ميمون الثالثة عرش هي محاولة منه إلضفاء العقالنية عىل الديانة اليهودية‪،‬‬ ‫فإن هذه املحاولة مل تكن ناجحة متاماً‪ ،‬ألنها جمعت جمعاً تلفيقياً بني تراثني فلسفيني متعارضني‬ ‫وهام املشايئ واألفالطوين‪ ،‬مع عقائد دينية خاصة باليهودية وحدها‪ .‬وهذا هو السبب الذي جعل‬ ‫املفكرين التالني عىل ابن ميمون يختزلون أصوله الثالثة عرش إىل األصول الرشدية الثالثة وبنصها‬ ‫وبنفس ترتيبها الذي قدمه ابن رشد‪ ،‬وأبرزهم شمعون ديوران‪ ،‬ومن بعده يوسف ألبو‪ .‬إذ قد‬ ‫عادا إىل الصيغة الرشدية لألصول اإلميانية‪ ،‬رغبة منهام يف إضفاء املزيد من العقالنية عىل العقيدة‬ ‫اليهودية‪ ،‬تلك العقالنية التي وجدا أن أصول ابن ميمون ال تحققها متاماً‪.‬‬

‫بيبليوجرافيا‬

‫أوالً ‪ :‬املراجع العربية‪:‬‬ ‫ •ابن رشد‪ :‬الرضوري يف السياسة‪ .‬مخترص كتاب السياسة ألفالطون‪ .‬نقله عن العربية إىل العربية د‪ .‬أحمد‬ ‫شحالن‪ .‬مقدمة وتحليل ورشوح د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت ‪1998‬‬ ‫العدد‬

‫(‪106 )6‬‬

‫أرشف حسن منصور‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫•ابن رشد‪ :‬الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة‪ .‬مع مدخل ومقدمة تحليلية ورشوح‬ ‫للمرشف عىل املرشوع د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل ‪.1998‬‬ ‫•ابن رشد‪ :‬تلخيص كتاب النفس‪ .‬تحقيق وتعليق ألفرد ل‪ .‬عربي‪ .‬مراجعة د‪ .‬محسن مهدي‪.‬‬ ‫تصدير أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم مدكور‪ .‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة ‪1994‬‬ ‫•ابن رشد‪ :‬تهافت التهافت‪ .‬مع مدخل ومقدمة تحليلية ورشوح للمرشف عىل املرشوع‬ ‫الدكتور محمد عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1998‬‬ ‫•ابن رشد‪ :‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪ .‬مع مدخل ومقدمة‬ ‫تحليلية للمرشف عىل املرشوع د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1997‬‬ ‫•ابن رشد‪ :‬مقال «هل يتصل بالعقل الهيوالين العقل الفعال وهو متلبس بالجسم؟» منشور‬ ‫يف كتاب‪ :‬تلخيص كتاب النفس البن رشد‪ .‬نرشة د‪ .‬أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬دار النهضة املرصية‪،‬‬ ‫القاهرة ‪.1950‬‬ ‫•ابن سينا‪ :‬اإللهيات من كتاب الشفاء‪.‬املحقق‪ :‬آية الله حسن زاده اآلميل‪.‬قم‪ ،‬مؤسسة‬ ‫بوستان كتاب‪1428 ،‬ه‬ ‫•ابن سينا‪ :‬املبدأ واملعاد‪ .‬نرش عبد الله نوراين‪ .‬معهد الدراسات اإلسالمية بجامعة ميتشجن‪،‬‬ ‫بالتعاون مع جامعة طهران‪،1984 ،‬‬ ‫•ابن سينا‪ :‬النجاة‪ .‬يف الحكمة املنطقية والطبيعية واإللهية‪ .‬نقحه وقدم له د‪ .‬ماجد فخري‪.‬‬ ‫دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بريوت ‪1985‬‬ ‫•بيار دوهيم‪ :‬مصادر الفلسفة العربية‪ .‬ترجمة د‪ .‬أبو يعرب املرزوقي‪ .‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‬ ‫‪2009‬‬ ‫•رضا الزواري‪ :‬املخيلة والدين عند ابن رشد‪ .‬دار صامد للنرش والتوزيع‪ ،‬صفاقس‪،‬‬ ‫•الغزايل‪ :‬االقتصاد يف االعتقاد‪ .‬ضبطه وقدم له موفق فوزي الجرب‪ .‬الحكمة للطباعة والنرش‪،‬‬ ‫بريوت‪1994 ،‬‬ ‫•الفارايب‪ :‬الرسائل الفلسفية الصغرى‪ .‬تحقيق وتقديم عبد األمري األعسم‪ .‬دار التكوين‪،‬‬ ‫دمشق‪2012 ،‬‬ ‫•الفارايب‪ :‬كتاب آراء أهل املدينة الفاضلة‪ .‬قدم له وعلق عليه د‪ .‬ألبري نرصي نادر‪ .‬دار‬ ‫املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثامنة‪2002 ،‬‬ ‫•الفارايب‪ :‬كتاب السياسة املدنية‪ ،‬امللقب مببادئ املوجودات‪ .‬حققه وقدم له وعلق عليه د‪.‬‬ ‫فوزي مرتي نجار‪ .‬دار املرشق‪،‬بريوت‪ .‬الطبعة الثانية ‪1993‬‬ ‫العدد‬

‫(‪107 )6‬‬

‫أثر الفارايب وابن رشد يف صياغة موىس بن ميمون لألصول الثالثة عرش للديانة اليهودية‬

‫ مكتبة‬.‫ حسني أتاي‬.‫ عارضه بأصوله العربية والعربية د‬،‫ داللة الحائرين‬:‫ •موىس ابن ميمون‬ 2008 ‫ الطبعة الثانية‬،‫ القاهرة‬،‫الثقافة الدينية‬

:‫ املراجع األجنبية‬: ً‫ثانيا‬

• Guttmann, Julius, Philosophies of Judaism: The History of Jewish Philosophy from Biblical Times to Franz Rosenzweig. Translated by David W. Silverman. (New York: Anchor Books, 1966) • Hyman, Arthur: «Maimonides› ‹Thirteen Principles,›» in Alexander Altmann, ed., Jewish Medieval and Renaissance Studies (Cambridge, 1967), pp. 119 – 144 • Kellner, Menachem, Dogma in Medieval Jewish Philosophy. From Maimonides to Abravanel. (Oxford. Portland, Oregon: The Littman Library of Jewish Civilization, 1986) • Leo Strauss, Persecution and the Art of Writing. (Chicago & London: The University of Chicago Press, 1952) • Meyrowitz, Alexander: “Maimonides›s Creed”. The Old Testament Student, Vol. 4, No. 2 (Oct., 1884), pp. 8386-. • Strauss, Leo: “Some Remarks on the Political Science of Maimonides and Farabi”. Interpretation. Fall 1990, Vol. 18, No.1, pp. 3 – 30. • Wolfson, Harry, The Philosophy of Spinoza: Unfolding the Latent Processes of His Reasoning. 2 volumes (Cambridge: Harvard University Press, 1934)

‫العدد‬

108 )6(

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬ ‫*‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫امللخص‬

‫‪1‬‬

‫يُعترب الفيلسوف الفرنيس بول ريكور أحد أكرب فالسفة القرن العرشين لغزارة مدونته الفلسفية‬ ‫وخاصة لكونه قد نهل وتشبع من روافد الفلسفة القارية واالنغلوسكسونية‪ .‬انصب كل اهتاممه‬ ‫عىل التوفيق والوفاق بني التحليلية الربغامتية االنغلوسكسونية والفينمينولوجيا–التأويلية‬ ‫(الهرمنطيقا) األملانية‪ .‬حاول اإلجابة عن أسئلة العرص الحارقة املتصلة أساسا بتشخيص علل الذاتية‬ ‫الحديثة عىل ضوء مكتسبات العلوم اإلنسانية وخاصة أفعال الخطاب (‪)Les actes du discours‬‬ ‫لدى اوستني سورل سرتاوسن وريكنتي‪ .2‬بيد أن تحليالته مل تتوقف عند مستوى املعالجة البنيوية‬ ‫*أكادميي وباحث من تونس‪.‬‬ ‫‪ - 1‬مبناسبة املئوية األوىل لبول ريكور( ‪ )-2013 1913‬نقدم هذا العمل املتواضع اعرتافا باسهام ته الحاسمة يف تعميق الحوار الفلسفي‬ ‫واالتيقي والسيايس املعارص حول أمهات القضايا الراهنة‪ .‬من أهم مؤلّفاته نسوق ما ييل‪:‬‬ ‫‪Philosophie de la volonté. Tome I: Le volontaire et l'involontaire, Aubier, 1950.‬‬ ‫‪Histoire et vérité, Le Seuil, 1955.‬‬ ‫‪Philosophie de la volonté. Tome II: Finitude et culpabilité, Aubier, 2 volumes, 1960.‬‬ ‫‪De l'interprétation. Essai sur Sigmund Freud, Le Seuil, 1965.‬‬ ‫‪Le conflit des interprétations. Essais d'herméneutique I, Le Seuil, 1969.‬‬ ‫‪La métaphore vive, Le Seuil, 1975.‬‬ ‫‪Temps et récit. Tome I: L'intrigue et le récit historique, Le Seuil, 1983.‬‬ ‫‪Temps et récit. Tome II: La configuration dans le récit de fiction, Le Seuil, 1985.‬‬ ‫‪Temps et récit. Tome III: Le temps raconté, Le Seuil, 1985.‬‬ ‫‪La mémoire, l'histoire, l'oubli, Le Seuil, 2000.‬‬ ‫‪2 - Paul Ricœur, Soi même comme un autre, Paris, Seuil, 1990, Première étude, la « personne et la référence‬‬ ‫‪identifiante, pp. 39-107‬‬ ‫العدد‬

‫(‪109 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫والربغامتية‪ ،‬بل انفتحت عىل الروافد األنطولوجية واألنرثبولوجية والتأويلية كام اشتغل عليها‬ ‫هايدغر وهورسل وغادمري ودلتاي‪ .3‬وبذلك تكون فلسفة بول ريكور قد نهلت من الضفتني وعيا‬ ‫منها برضورة توحيد األقوال حول اإلنسان الراهن من أجل وضع نظاما فلسفيا متكامال قادر عىل‬ ‫استجامع الروافد املبعرثة وتوحيدها يف ذات جديدة تتعايش فيها الوحدة والتنوع‪.‬‬

‫الكلامت املفتاحية‬

‫محصلة‬ ‫الذات الحديثة‪ :‬ليست مدينة يف تك ّونها للمرحلة الوضعية‪-‬العلمية فقط‪ ،‬بل هي ّ‬ ‫املراحل املا قبل‪-‬العلمية أي املرحلة الالهوتية واملرحلة امليتافيزيقية‬ ‫الفكر ‪ :‬الحقيقة التي سيتم االعتامد عليها لتلمس مسار الفكر نحو الحقائق األخرى يف‬ ‫مسلسل البناء‪.‬‬ ‫فلسفات الوعي‪ :‬املمتدة من سقراط وأفالطون وديكارت و كانط ‪...‬فلسفات زهدية وثنائية‬ ‫تقوم عىل شطر اإلنسان اىل نصفني متفاضلني بالقيمة واملاهية‪ :‬جسد‪/‬روح‪.‬‬ ‫مل يستنفذ الفكر الفلسفي أقواله بعد حول مسألتي الذات والذاتية‪ ،‬ذلك أن انفجار ثورة‬ ‫اآلحاد عىل الكليات املستبدة إبان عرص الحداثة األورويب‪ ،‬وهذا االستبدال الضخم من عامل كان‬ ‫ممركزا حول الكليات الثابتة اىل آخر بات رهني التحكامت النزوية لكل ذات مل يكن لرييض كل‬ ‫النفوس املتأملة يف اإلحتفاظ باالنطولوجيا والتيولوجيا‪ .‬رغم ولعه وتأثره بالتحليلية الربغامتية‬ ‫االنغلوسكسونية‪ ،‬ظل ريكور ذلك الفليسوف املسيحي الربوتستنتي الذي ال يتخىل عن مطلب ال‬ ‫حقيقة‪« ‬الجامعة»‪ )Compréhensive( ‬باملعنى األرسطي للكلمة‪ .‬إنها الكليات ومقوالت الوجود‬ ‫الكربى أو بلغة ريكور الرسديات الجامعة والضامنة الستمرار العيش املشرتك‪ .‬يف أفق ما ميكن‬ ‫أن يعيد مكانة الحقائق الجامعة والرسديات املشرتكة وينهي االنقسامات والرشوخ التي كرستها‬ ‫فلسفات الذات وإيديولوجيات الفردنة (‪ )L’individualisation‬يتنزل الجهد واملسار الريكوري‬ ‫الطويل‪ .‬إنه جهد يرتئي رتق رشوخ عميقة يف مبيان الذات الحديثة والذات املعارصة وريثتها‬ ‫الطبيعية‪ .‬يح ّمل ريكور مسؤولية الفهم املرشوخ اىل مختلف تأويالت الحداثة الغربية‪ .‬لقد‬ ‫أوهمتنا التأويالت السائدة انه ال مناص لنا من القبول بإحداها‪ :‬إما االحتفال بالفردانية الظافرة‬ ‫وبالحريات الالمبالية منذ لحظة الكوجيتو الديكاريت وصوال إىل دعاة الليربالية والليربالية‪-‬الجديدة(‬ ‫سميث‪ /‬ستيورات ميل ‪ /‬بنتام‪ /‬رولس‪ /‬دواركن‪ .‬الخ)‪ .‬أو السخط عليها ألنها انترصت ملصالح‬ ‫األفراد عىل مصالح الجامعات‪ .‬وبالرضورة ألغت اإلحداثيات املشرتكة للتوافق عىل معايري مشرتكة‬ ‫‪3 - Ibid., pp .199-264‬‬ ‫العدد‬

‫(‪110 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫للعيش السوي ( وهو عني املوقف النقدي الذي يتزعمه يف عرصنا ما ميكن أن نسميهم بالفالسفة‬ ‫الجامعتيني (‪ )Les communautaires‬األطلنطيني عىل غرار ماك انتاير ‪ /‬فالزار‪ /‬ساندال وتايلور)‪.‬‬ ‫بحياديته عن هذين التأويلني املتطرفني‪ ،‬يسعى ريكور إىل تأسيس مقاربة توفيقية ووفاقية ممكنة‬ ‫تؤلّف بني منظومتي التنافر املطّرد أعني منظومة اآلحاد و منظومة الكليات‪ .‬تطمح القراءة‬ ‫التوفيقية والوفاقية إىل تجاوز التصورات الوضعية املبتورة لحركة التاريخ عامة وللذات الحديثة‬ ‫خاصة‪ :‬فالتاريخ ليس تعاقبا خطيا وتصاعديا لحقب يلغي بعضها البعض كام زعم ذلك مثال‬ ‫أوغست كونت‪ ،‬والذات الحديثة ليست مدينة يف تك ّونها للمرحلة الوضعية‪-‬العلمية فقط‪ ،‬بل هي‬ ‫محصلة املراحل املا قبل‪-‬العلمية أي املرحلة الالهوتية واملرحلة امليتافيزيقية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متكننا هذه القراءة التوفيقية والوفاقية من العدول عن الرهانات الضيقة التي فرضتها‬ ‫علينا الوضعية والنفعانية واإلجرائية‪ ،‬ومن مثة توحيد الشتات اإلبستمولوجي واألكسيولوجي‬ ‫واألنرثوبولوجي والسيايس إلنهاء وضعية «التشظي» املزدوجة‪ :‬يف مستوى معارف اإلنسان‪ ،‬ويف‬ ‫يتعي الرهان الوفاقي يف توحيد هذا الشتات والتبعرث وإنصاف‬ ‫مستوى بنية اإلنسان نفسه‪ّ .‬‬ ‫املصادر املك ّونة لهوية الذات الحديثة عىل قدر إسهاماتها التاريخية بعيدا عن األحكام املسبقة‬ ‫االقصائية واالنتقائية‪ .‬وعىل خلفية الوفاق واإلنصاف ينترص ريكور للروح التعددية الشاملة‬ ‫املكونة للذات الحديثة مانحا بذلك الجزئيات املنسية حق الظهور‪ ،‬متصديا بالتوازي للكليات‬ ‫املهيمنة‪ ،‬وال سيام للرؤية الكلية التقنوية الباسطة سلطانها بال هوادة عىل مجمل الوجود اإلنساين‪.‬‬ ‫كيف سينجز ريكور مرشوع الذات املتعددة الروافد‪ :‬هل بالقطع جذريا مع مناذج الذاتية‬ ‫الحديثة بدءا من منوذج الكوجيتو املتعايل وانتهاء اىل منوذج األنا الذرية أم بإعادة تأهيل الذات‬ ‫فينومينولوجيا وتأويليا استعداد لغرسها من جديد داخل الفضاء العمومي للعيش املشرتك؟‬

‫‪ .I‬الذات الحديثة‪ :‬من التعايل إىل التهاوي‬ ‫يف تقدميه لكتاب الذات عينها كآخر‪ 4‬يعلن ريكور أن استئناف فلسفة الذات يف هذه األزمنة‬ ‫التي سيطرت فيها املقاربات البنيوية واأللسنية عىل مجمل الدراسات اإلنسانية ليس باألمر الهني‬ ‫لكونه يقتيض منا تجاوز براديغم الكوجيتو الديكاريت وأضداده‪.‬‬ ‫‪ - 4‬جورج زينايت‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬الدار العربية للرتجمة ‪ ،‬بريوت‪2007 ،‬‬ ‫مالحظة‪ :‬نعتمد هنا ترجمة جورج زينايت للعنوان فقط‪ .‬أما نصوص ريكور التي سنستند عليها يف هذه الدراسة فهي من ترجمتنا الخاصة‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪111 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫الكوجيتو املتعايل‪ :‬الرباديغم الديكاريت‬ ‫يصف ريكور الكوجيتو الديكاريت باملتبجح واملتعايل (‪ )5Le cogito exalté‬ألن عملية تأسيسه‬ ‫وقعت يف العزلة التأملية أي خارج التاريخ ويف قطيعة مع الغريية الخارجية‪ .‬وال بأس أن نذكّر‬ ‫مبراحل واجرائيات تأسيس الكوجيتو الديكاريت‪ .‬انطالقا من تجربة الشك الشهرية يتوصل‬ ‫ديكارت اىل البداهة التالية‪ :‬الحواس ال ميكن أن تكون أساسا لبناء العلم والفلسفة ألن من‬ ‫خدعنا مرة ميكنه أن يخدعنا مرات أخرى‪ .‬لهذا وجب البحث عن نقطة ارتكاز جديدة وثابتة اي‬ ‫واضحة ومتميزة‪ .‬يجد ديكارت ضالته يف العقل‪ .‬بدال من البحث عن الحقيقة يف العامل الخارجي‬ ‫يجب رصدها داخل الذات‪ .‬لهذا يقرر ديكارت ايقاف تجربة الشك االفرتايض واالختباري يف هذا‬ ‫املستوى تحديدا أعني مستوى فعل الشك ذاته الصادر عن الجهة املفكرة يف االنسان‪ .‬واذن‬ ‫ال ميكن الشك يف الشك نفسه‪ .‬بهذا عاد الفكر إىل ذاته الخالصة بعيدا عن كل متثالت األشياء‬ ‫الطبيعية حيث كان تائها‪ .‬وهكذا تنقدح الحقيقة الحدسية األوىل‪ ،‬وهي «أنه موجود مادام شيئا‬ ‫مفكرا»‪ ،6‬هكذا وصل إىل نقطة االرتكاز التي كان يبحث عنها‪ ،‬وهي الكوجيتو‪.‬‬ ‫الكوجيطو هو الفكر الذي يدرك كينونته ووجوده يف فعل التفكري‪ ،‬إنه األنا الذي يشك ويفكر‪ ،‬ومبا‬ ‫أنه كذلك فهو يشء ما‪»،‬أنا يشء مفكر‪ ،‬أي أنا إدراك أو عقل»‪ .7‬الكوجيطو هو األنا الذي انطلق من‬ ‫الشك‪ ،‬والذي أدرك أن طبيعته هي الفكر‪ ،‬يف هذا الصدد يقول‪« :‬لقد اقتنعت قبال أنه ال يوجد يف‬ ‫العامل يشء عىل اإلطالق‪ ،‬ال سامء‪ ،‬ال أرض‪ ،‬ال نفس‪ ،‬ال أجسام… ولكنني متيقن من أين موجود… وال‬ ‫ميكن ألي كائن مهام كان قويا وشديد القوة أن يضللني ويجعلني ال يشء‪ ،‬مادامت أفكر»‪ .8‬إن إدراك‬ ‫الذات لذاتها تم بناء عىل الفكر فقط‪ ،‬ال عىل الجسم‪ ،‬فيقني الوجود أعطي له من قبل الفكر‪ ،‬وهذا‬ ‫يعني أنه ليك يعي وجوده ال يحتاج إىل شهادة الحواس أو إىل الجسم‪ ،‬يف كتابه»مبادئ الفلسفة»‪،‬‬ ‫يؤكد ديكارت عىل أن املعرفة بالفكر أوضح وأيرس من املعرفة بالجسم‪ ،9‬ذلك ألنه لو كانت املعرفة‬ ‫باألجسام واألشياء أيرس النتهى إليها الشك ‪ .‬لكن أسبقية املعرفة بالفكر جعلته يهتدي إىل أن املعرفة‬ ‫باألشياء األخرى تبقى منقوصة وفاقدة لليقني‪ .‬فالكوجيطو خالص مكتف بذاته‪ ،‬إذ ميكن أن يوجد‬ ‫‪5 - Paul Ricœur, Soi même comme un autre, Seuil, 1990, p.27‬‬ ‫‪ - 6‬ديكارت‪ :‬تأمالت ميتافيزقية يف الفلسفة األوىل‪ .، ،‬ترجمة‪ :‬كامل الحاج يوسف‪ ،‬تونس‪ ،‬رساس للنرش‪ ،2009 ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪ - 7‬نفس املرجع‪ ،‬التأمل الثاين‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪ - 8‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪ - 9‬رونيه ديكارت‪ :‬مبادئ الفلسفة‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫العدد‬

‫(‪112 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫ويشتغل ويؤدي مهامه حتى يف غياب الجسد‪ ،‬من هنا فالفكر أصبح هو النقطة األوىل والحقيقة‬ ‫التي سيتم االعتامد عليها لتلمس مسار الفكر نحو الحقائق األخرى يف مسلسل البناء هذا‪ .‬األنا فكر‬ ‫خالص‪ ،‬والنفس جوهر وظيفته التفكري فقط‪ ،‬وهي ذات طبيعة فكرية تجعلها متميزة عن الجسد‬ ‫الذي هو امتداد عاطل فحسب‪ .‬بهذا الكشف وبهذا التمييز بدأت مبادئ الفكر القديم‪ ،‬يف جانبه‬ ‫امليتافيزيقي تنهار‪ ،‬إذ يسقط التحديد القديم لإلنسان بكونه مزيجا من «املادة والصورة»‪ ،‬مل يعد‬ ‫اإلنسان حيوانا عاقال‪ ،‬ألن الحياة خاصية للجسم‪ ،‬وهذا األخري ليس شيئا ثابتا وقارا مادامت األرض‬ ‫التي يقف عليها تسبح يف الكون‪ .‬ما يتبقى هو الفكر الخالص‪ ،‬واإلنسان ال يقاس بامتداده وإمنا‬ ‫بالفكر‪ .‬هنا تظهر قيمة الرشوط النظرية التي أتاحت لديكارت إمكانية الترصيح بهذا القول‪ ،‬ذلك‬ ‫أن يف هذا القول مخالفات خطرية تكشف عن مدى خطورة املوقف الديكاريت يف مرحلته التاريخية‪.‬‬ ‫فالقول بأن اإلنسان فكر فقط‪ ،‬كان مبثابة رجة تهز أركان الفكر السكواليئ‪ ،‬ألن اإلنسان يف نظرهم‬ ‫يتموقع يف منزلة وسطى بني الفكر أو الصورة الخالصة (اإلله) وبني املادة الجامدة‪ ،‬وهو مزيج من‬ ‫املادة والصورة‪ ،‬والقول بأنه فكر خالص يعني وضعه يف منزلة اإلله‪ ،‬ويف هذا كفر وزندقة‪ ،‬وبهذا‬ ‫القول استحق غصب وسخط القامئني عىل امليتافيزيقيا القدمية‪ .‬الكوجيتو ‪»:‬أنا أفكر إذن أنا موجود»‪،‬‬ ‫كانت مبثابة الثورة الكوبرينيكية يف ميدان الفلسفة‪ .‬يعترب ظهور األنا املفكر كمحدد لإلنسان متردا‬ ‫عىل الجامعة و انسحابا من دائرة الخاضعني للكل‪ .‬يؤسس الكوجيتو قيمتني غري مسبوقتني يف تاريخ‬ ‫املثالية الفلسفية ‪ :‬أوالهام أن اإلنسان بوصفه فكر خالص بات مساويا لله‪ .‬والثانية هي ظهور مفهوم‬ ‫الذات الالمبالية بالعامل وبالغريية‪ .‬ما الذي يعيبه ريكور عىل الكوجيتو الديكاريت وهو الذي شكل‬ ‫املنعرج الحاسم يف ميالد الذاتية الحديثة وتحررها من سلطة القدامى؟‬ ‫انطالقا من األفق الفينومنولوجي‪ ،‬يعترب ريكور أن عملية تأسيس الكوجيتو رغم ثوريتها داخل‬ ‫سياق عرصها‪ ،‬افتقرت اىل حدين أساسيني ال بد أن يتموقع الوعي البرشي بينهام وهام العامل‬ ‫الطبيعي والعامل املجتمعي‪ .‬األنا الديكاريت صنع نفسه بنفسه يف عزلة تأملية خالصة وأثناء‬ ‫رصاعات سيكولوجية مفتعلة ونوبات شك افرتاضية ترتاءى لها يف أحالم اليقظة والنوم ويف‬ ‫وسوسات الشيطان املاكر‪ .‬كام تعزو حضورها يف العامل إىل حدس انقدح فجأة يف الذهن‪ .‬يختزل‬ ‫الرباديغم الديكاريت صريورة تك ّون انية الهوية حينئذ يف السجلني السيكولوجي والتذهيني مبقيا‬ ‫فقط عىل «أنا مضخّمة» ‪ .Un je grand format »10‬يقول بول ريكور ‪ »:‬تتسم هوية ‹كوجيتو –‬ ‫الهو‪-‬هو›’ ‪ Le Cogito de la même té‬املتمركز حول نواة األنا من خالل أفعال الشك واإلدراك‬ ‫واإلثبات والنفي واإلرادة وعدم اإلرادة والتخيل واإلحساس بالال‪-‬تاريخية‪An-Historique‬‬ ‫‪10 - J. Habermas, Ecrits politiques. Culture, droit, histoire, Paris, Cerf, 1990, p. 237‬‬ ‫العدد‬

‫(‪113 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫(‪.)...‬إنها هوية دقيقة‪ Ponctuelle‬وال‪-‬تاريخية «ألنا» يقع يف لجج التنوع‪ :‬إنها هوية ‹الهو› الذي‬ ‫يف ّر من بدائل الدميومة‬ ‫والتغي يف الزمن ألن هذا الكوجيتو ‹لحظوي› «‪ .11‬ال يثبت «األنا أفكّر»‬ ‫ّ‬ ‫انيّته داخل عامل البرش بل خارجه وبالتحديد داخل عامله الذايت‪ .‬فهذا األنا ليك يكون هو وليس‬ ‫غريه مجرب عىل استبطان قواه اإلدراكية الداخلية واختبار قدراته اإلستداللية خارج معطيات‬ ‫التجربة الحسية‪ .‬لذلك ال يجد حرجا يف االستعانة بالعقل النظري الرصف وباملنهج الريايض ويف‬ ‫نفس الوقت استدعاء الحدس والتدخل اإللهي‪ .‬إن الرغبة يف االنفصال من أجل تثبيت مركزية‬ ‫الهو‪-‬هو‪ ،‬يرتجم وهم هذه الهو واعتقادها يف مركزية التأ ّمل ضد العمل‪ ،‬ويف نفس الوقت يف‬ ‫مركزية األنا ضد النحن‪ ،‬وبالتايل ال تعري أهمية للتاريخ ولجدلية األنا واآلخر يف الصريورة التاريخية‪.‬‬

‫ثالوث التظنن املضاد للكوجيتو الديكاريت‬ ‫يقول ريكور‪ »:‬يلتقي الفيلسوف املعارص بفرويد غري بعيد عن نيتشه وال ماركس فيقف ثالثتهم‬ ‫أمامه أقطاب الظنــة (‪ )Le Soupçon‬وكاشفي األقنعة‪ .‬وينشأ مشكل جديد وهو مشكل زيف‬ ‫الوعي ومشكل الوعي بوصفه زيفا»‪.12‬‬ ‫يصف نيتشه فلسفات الوعي املمتدة من سقراط وأفالطون وديكارت وكانط بأنها فلسفات‬ ‫زهدية‪ Ascétique‬وثنائية تقوم عىل شطر اإلنسان اىل نصفني متفاضلني بالقيمة واملاهية‪ :‬جسد‪/‬‬ ‫روح‪ .‬وهي إذ توطن التفكري داخل الروح وتعتربه إحدى صفاتها‪ ،‬تلغي الدالالت األنطولوجية‬ ‫واملعرفية للجسد‪ ،‬وتلقي به يف خانة الزوائل واألعراض‪ .‬وتكتفي مبنحه صفة «الوعاء» او الحامل‬ ‫ويف اقىص حاالت التهجني واإلقصاء «قرب» ‪( Soma‬أفالطون) يتعني السعي اىل مغادرته نحو‬ ‫املوت املحرر للروح من قربها األريض‪ .‬يعترب نيتشه أن مثل هذه الفلسفات التي اختزلت األنا‬ ‫يف التفكري والفضيلة املتعالية عن نزوات الجسد‪ ،‬وقعت يف املحظور األقىص أال وهو العدمية‪.‬‬ ‫وتعني باختصار إبادة قوى الحياة وقهر الرغبات‪ 13‬من اجل مثل اعيل زهدي ال يوجد اال يف‬ ‫أوهام أصحابه‪.‬‬ ‫‪11 - P. Ricœur, Soi-même comme un autre p. .18‬‬ ‫‪12 - P. Ricœur, Le conflit des interprétations, Seuil, p.161-162‬‬ ‫‪ - 13‬يقول نيتشه‪" :‬انك تقول "أنا" وانت فخور بهذه الكلمة‪ ،‬بل هناك ما هو أعظم منها‪ ،‬إال وهو جسدك وعقلك العظيم‪ .‬هذا الجسد‬ ‫ال يقول أنا ‪ ،‬بل يكون أنا من خالل الفعل (‪ )...‬إن يف جسدك من العقل ما‬ ‫يفوق خري حكمة فيك"‪Nietzsche , Ainsi parlait Zarathoustra, ed Gallimard, pp.45-46‬‬ ‫العدد‬

‫(‪114 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫أما ماركس فيعترب الوعي نتاجا اجتامعيا‪ 14‬يتشكل تدريجيا وتاريخيا من خالل وضعنا الطبقي‬ ‫والتاريخي‪ .‬وبعبارة أخرى ليس هناك وعي فردي خارج السياقات الطبقية والتاريخية‪ .‬ال وجود النا‬ ‫أفكر خارج وجود األنا ذاته وتعينه يف طبقة اجتامعية واقتصادية محددة‪ .‬ولو افرتضنا وجود مثل‬ ‫هذه األنا عىل املنوال الديكاريت فال ميكن أن يكون تفكريها خارج األطر املكانية والزمانية وحتى‬ ‫إن توغل يف التجريد واملوضوعية والشكالنية فإنه حتام يخفي انتامء فكريا طبقيا وإيديولوجيا‬ ‫معينا‪ .‬يدعو ماركس إىل الحفر عميقا يف ثنايا الفلسفات املثالية وكشف أوهامها اإليديولوجية‬ ‫املتسرتة‪.‬‬ ‫يف حني يعترب فرويد أن األنا املتعايل لفالسفة الوعي تهاوى نهائيا نتيجة ما تعرض له من جروح‬ ‫نرجسية ثالثة ‪ Les trois blessures narcissiques‬زعزعت كربيائه‪ .‬يقول يف كتابه «مدخل إىل‬ ‫الساذجة تكذيبني خطريين‪ .‬أ ّما‬ ‫فيس‪ « :‬و ّجه العلم عىل مدى قرون إىل أنانيّة البرش ّ‬ ‫التّحليل ال ّن ّ‬ ‫كل البعد عن أن تكون مركز الكون‪ ،‬فهي‬ ‫التّكذيب األ ّول فقد كان مل ّا ّبي العلم أ ّن األرض بعيدة ّ‬ ‫الكوسمولوجي الّذي ال نكاد نستطيع متثيل عظمته‪ .‬فهذا‬ ‫ال تشكّل سوى جزء حقري من ال ّنظام‬ ‫ّ‬ ‫التّبيان األ ّول قد ارتبط عندنا باسم كوبرنيك ‪ )...( Copernic‬أ ّما التّكذيب الثّاين فقد و ّجهه البحث‬ ‫البيولوجي إىل البرشيّة مل ّا قىض عىل ا ّدعاءات اإلنسان قضاء تا ّما يف احتالله محالّ متميزا من نظام‬ ‫ّ‬ ‫الخلق وذلك بتنزيله ضمن مملكة الحيوان وبيان الطّابع ال ّدائم لطبيعته الحيوان ّية‪ .‬وقد أنجزت‬ ‫هذه الثّورة الثّانية يف أيّامنا هذه بفضل أعامل شارل داروين ‪ Darwin‬ووالص ‪ Wallace‬ومن أىت‬ ‫بعدهم‪ ،‬وهي أعامل قد أثارت عند املعارصين ردود فعل بالغة الح ّدة‪ .‬ويتوقّع أن يو ّجه تكذيب‬ ‫البرشي ‪ mégalomanie‬بفضل البحوث ال ّنفسانيّة الجارية يف أيّامنا‪ ،‬وهي‬ ‫ثالث إىل جنون العظمة‬ ‫ّ‬ ‫تبي لألنا أنّه مل يعد مبفرده س ّيدا حتى يف بيته‪ ،‬وأنّه قد أجرب عىل أن يرىض مبعلومات نادرة‬ ‫تريد أن ّ‬ ‫‪15‬‬ ‫ومج ّزأة عىل ما يجري خارج وعيه‪ ،‬ويف حياته ال ّنفسيّة‪« ...‬‬ ‫ع ّمق التحليل النفيس الجروح الرنجسية عندما كشف أن األنا ال ميثل عمق الشخصية بل فقط‬ ‫واجهتها الخارجية‪ .‬وفضال عن هذا فاألنا مل يتشكل بالتامرين التفكريية والتأملية‪ ،‬بل من خالل‬ ‫ترسبات العقد الطفولية‪ .‬وبالتايل فنحن ال نفهم عمق الشخصية من خالل ما تحاول إظهاره عىل‬ ‫شاشة وعيها بل من خالل الحفر يف مسكوت الوعي أي الالوعي‪.‬‬

‫‪14 - Marx et Engels, L’Idéologie Allemande, Œuvres choisies, Gallimard, p.131-133‬‬ ‫‪15 - Freud, Sigmund: (1916) Introduction à la psychanalyse‬‬ ‫العدد‬

‫(‪115 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫يحسم ريكور النزاع العنيف بني فلسفات الوعي وفلسفات الرجة والظنة بدعوته اىل التوفيق‬ ‫بني الثنائيات العسرية املكونة ملاهية اإلنسان عىل منوال العقل والجنون‪ /‬الحرية والرضورة ‪/‬‬ ‫الهشاشة واملسؤولية‪ /‬الوعي والالوعي وذلك يف إطار مرشوع أنرتوبولوجيا فلسفية شاملة توحد‬ ‫شتات اإلنسان‪ .‬عىل الذات أن تتخىل عن تعالويتها املزعومة وان تخضع ذاتها للمراجعة التأويلية‪.‬‬ ‫وعلينا أن ندفع نحو االستعاضة عن تعريف اإلنسان من «حيوان عاقل» إىل «حيوان يؤ ّول ذاته»‬ ‫(‪«.)Animals Self-Interpreting16‬وعندما نقول أن اإلنسان «حيوان يؤ ّول ذاته»‪ ،‬فهذا يعني‬ ‫«أنه دوما صنيعة تأويله ذاته وطريقة فهمه لألشياء التي لها معنى بالنسبة إليه»‪ .17‬هنا تكمن‬ ‫أهمية األنرثوبولوجيا‪-‬التأويلية القادرة عىل تخليص الذات املعارصة من أوهام التجوهر كام من‬ ‫إهانات التذرية‪ 18‬والتفكك‪ .‬يتعني عىل الهرمنطيقا أن تعود عىل امل ّؤول حتى يغتني بروافده‬ ‫املنسية واملكبوتة يف أعامقه‪ ..‬تلكم املتعلقة أساسا بالجسد والرغبة والخيال واألسطورة والذاكرة‪.‬‬ ‫من أوكد مهام الكوجيتو الهرمينوطيقي‪ 19‬مللملة كل هذا الشتات يف وحدة قادرة عىل منح اإلنسان‬ ‫توازنا انرثوبولوجيا وانطولوجيا وتحصنه من هشاشة وضعيته الوجودية‪.20‬‬

‫‪ .II‬التأسيس الفينمنولوجي للذات‬ ‫ال شك أن انهيار العامل القديم وانزياح اللوغوس من دائرة الوجود اىل دائرة املوجودات هو‬ ‫الحدث األبرز الذي ميز الحداثة الغربية منذ القرن السابع عرش‪ .‬اقرتنت لحظة الحداثة بحدثني‬ ‫متالزمني‪ :‬يتمثل األول يف ذلك االنقطاع الكيل عن العامل القديم وهجر ترسانته امليتافيزيقية‬ ‫الثقيلة‪ .‬أما الثاين فيعلن ميالد الذات والذاتية الظافرة‪ .‬أدى الحدث األول إىل أفول ميتافيزيقا‬ ‫الهوية‪ ،‬وتبعا لذلك انهيار القيم العبودية واإلقطاعية واألرستقراطية القامئة عىل نظرية ثبات‬ ‫‪16 - Self-Interpreting Animals", in Human agency and Languag " Charles Taylor Taylor Philosophical Paper‬‬ ‫‪I, Cambridge University Press, 1985,p.45‬‬ ‫ يقول تايلور أن تعريف اإلنسان بهذه الخاصية الهرمنطيقية بات من املوضوعات الرئيسة للفلسفة املعارصة والسيام لدى دلتاي‬‫وهايدغر وهابر ماس‪ .‬ويف املقابل وجدت خصام عنيدا يف شخص‬ ‫‪17 - Charles Taylor , Self-Interpreting Animals", in Human agency and Language, op.cit., p.72 .‬‬ ‫‪18 -Voir Charles Taylor, La liberté des modernes, Essais, traduits et présentés par  Philipe De Lara , Paris, PUF , 1997.‬‬ ‫‪19 - Jean Greisch, Le cogito herméneutique. - L'herméneutique philosophique et l'héritage cartésien, éditions,‬‬ ‫‪Vrin, Paris, 2000‬‬ ‫‪20 - Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne, Paris calmann-Lérvy , 1983.p.209‬‬ ‫العدد‬

‫(‪116 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫الطبائع واألدوار االجتامعية‪ .‬أما الحدث الثاين فقد أدى إىل تنامي قيم الحرية واملساواة القانونية‪.‬‬ ‫يف خضم عرص الثورات هذا سينبجس الوعي الفردي باحثا عن هوية فريدة ال تكون نسخة وفية لبنية‬ ‫الوجود امليتافيزيقي‪ ،‬بل نسخة وفية من ذاته‪ .‬ويعني هذا أن الرهان بات منصبا عىل مدى وفاء الذات‬ ‫لذاتيتها وخصوصياتها‪ ،‬ومدى مقاومتها للبداهات وألشكال التبعية السلبية املعطلة للحرية واإلبداع‪.‬‬ ‫اقرتنت الحرية الحديثة باستكشاف هوية األنا وبتح ّمل هذا األنا الناشئ مسؤولية وجودا عار‬ ‫من كل التحديدات القبلية الجاهزة‪ .‬أزاحت هذه الهوية الناشئة الهويات التقليدية الجاهزة‬ ‫وحازت تبعا لذلك عىل رضوب مختلفة من الحرية القانونية والسياسية واألخالقية واملعرفية‪.‬‬ ‫وبذلك تح ّول هذا األنا من موقع التابع إىل موقع املتبوع ‪ .‬أصبح العقل األداة املثىل لفهم العامل‬ ‫وفق ما يضعه هو فيه ال وفق ما ميليه عليه النظام الكسمولوجي‪ .‬تحررت الذات الحديثة من ثقل‬ ‫الهويات الجاهزة وباتت سيدة عىل ذاتها وعىل العامل‪ .‬بيد أن هذا الشعور باالعتداد واالستقاللية‬ ‫وثقتها املفرطة يف قدرات عقلها األدايت‪/‬النفعي والحسايب سيدفعها شيئا فشيئا إىل التخيل نهائيا‬ ‫عن ارتباطاتها والتزاماتها الثقافية واإلجتامعية بعد انهيار سنداتهام األنطولوجية‪ .‬من تبعات هذا‬ ‫التحرر املفرط هو تنامي النزعات الربغامتية الفردية يف العامل الحر وتاليش الحد الفاصل بني الحرية‬ ‫وحق االختالف وظاهرة النسبوية الناعمة (‪ 21)Relativisme doux‬التي تتساوى فيها كل اآلراء‬ ‫وال تحتكم اىل معايري موضوعية ومشرتكة‪ .‬إزاء وضع االنفالت الفردي واألخالقي يذكرنا ريكور أن‬ ‫رشوط استمرار ودوام العيش السلمي املشرتك تقتيض مالمئة العنارص الثالثة التالية‪:‬أوال الحياة‬ ‫الجيدة‪ .‬ثانيا‪ ،‬وهي ال تكون إال مع ومن أجل اآلخر‪ .‬ثالثا‪ ،‬وهذا الرشط ال يصح إال اذا توفرت‬ ‫مؤسسات عادلة‪ .22‬ال بد من إعادة تصويب حرية املحدثني وورثتهم من الليرباليني الجدد بشكل‬ ‫يحد من ال مباالتها ونزوتها ويعيد غرسها يف الفضاء العميل املشرتك‪ .‬وبعبارة أخرى أصبح هاجس‬ ‫ريكور هو قران الحرية الفردية باملسؤولية االتيقية‪.‬‬ ‫يف أفق إصالح انحرافات الذات الحديثة وما بعد الحديثة وإرفاق الحرية باملسؤولية االتيقية‬ ‫يدعونا ريكور اىل التفكري يف اآلخر بوصفه عني الذات‪« .‬اآلخر ‪ -‬يقول ريكور‪ -‬ليس ما يقابل الهو‬ ‫(‪ )Le Même‬بل ما يك ّون معناها الحميمي»‪.23‬‬

‫‪21 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, Paris, Seuil, 1990. p.28‬‬ ‫‪22 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit, p.202‬‬ ‫‪23 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit., p.380‬‬ ‫العدد‬

‫(‪117 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫إن متثل اآلخر بوصفه غريية ليست فقط خارجية بل داخلية هو إحدى رهانات اإلصالح‬ ‫الريكوري للذات الحديثة‪ .‬ولكن هل يستقيم إصالح كهذا دون أن يحرض العامل املوضوعي‬ ‫الجامع لالنا واآلخر كمكون قبيل لفينمينولوجيا الذات ؟‬

‫تتأسس فينمنولوجيا الذات عىل مقومني‪:‬‬

‫أوال‪ :‬التعاطي مع اآلخر كجزء من غريتنا الداخلية كام الخارجية‪ .‬ثانيا‪ :‬اإلقرار بأن وجود العامل‬ ‫مرتهن بوجود ذات تعيه وتقوله والعكس صحيح ذلك أن وجود الذات ال يكون إال يف عامل سخّر‬ ‫لها‪ .‬يقول ريكور‪«:‬الوجود يف العامل غري منفصل عن وجود الذات‪ .‬كالهام يفرتض اآلخر‪ .‬العامل غري‬ ‫موجود دون ذات فاعلة والذات ال توجد دون عامل مهيأ لها»‪ .24‬األنا الفينومينولوجية تقصد‬ ‫العامل وتنخرط يف حراكه وصخبه الدامئني‪».‬يفرتض وجود الذات حضور العامل بوصفه أفقا جامعا‬ ‫لتفكريه وفعله وإحساسه وباختصار الهتاممه»‪ .25‬تتشكل األنا الفينومينولوجية يف العامل ويف‬ ‫أمناط االنخراط والتك ّيف معه‪ .‬ال يتعلّق األمر بانية تعتقد يف «جاهزيتها» واكتاملها منذ البدء‪،‬‬ ‫ويف متيّز كيانها املج ّرد عن الجسم‪ .‬وال يتعلّق األمر أيضا بأنا يقظانية (نسبة اىل حي ابن يقظان)‬ ‫تشكّلت يف الوحدة الطبيعة أي دون وساطة برشية أو تعبريية‪ ،26‬أو «بأنا روبنسونية»‪ ،‬شبيهة‬ ‫يف وحدتها إما بالوحش أو باإلله عىل حد عبارة أرسطو‪ ،‬بل بنوع جديد من األنا يتموضع يف‪-‬‬ ‫تجسدا وانخراطا وقصدا وتحويال واستثامرا وترميزا‪ .‬فضال عن تشكله يف اللغة ويف مختلف‬ ‫العامل ّ‬ ‫شبكات التواصل الرمزي‪ .‬يقول ريكور‪ « :‬هذه هي فرضيتي يف العمل الفلسفي‪ :‬إين اسميها‬ ‫«التفكري املتجسد» أي الكوجيتو الذي مر عرب توسط كل عامل العالمات وذلك أن األنا أفكر إمنا‬ ‫يكون قد تجسد بعد يف كل مرة ضمن «أنا أكون» هي يف ظاهرها أنا مطمئنة‪ ،‬لكنها يف باطنها‬ ‫‪27‬‬ ‫تحمل الشك املؤمل»‬ ‫إن استيفاء هذه املهارات يظل مرشوطا بحضور األنا قبالة أنا أخرى‪ ،‬فهذا الحضور أو‬ ‫«الوجه لوجه» حسب تعبري لفيناس هو الذي يجعل التفكري يف العامل والكالم حوله ممكنا‪.28‬‬ ‫‪24 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit., p.360‬‬ ‫‪25 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit.,p..360‬‬ ‫‪ - 26‬أنظر مثال منوج حي ابن يقظان البن طفيل‪ ،‬وهو النموذج الذي يدافع عن إمكانية تعلّم اإلنسان من الطبيعة مبا يف ذلك اكتشاف‬ ‫العلل األوىل للحياة واملوت والبعث‪ ،‬وبالتايل قد ال يحتاج املرء يف عزلته ال إىل الكالم والتواصل مع اآلخر بل فقط إىل التأمل الباطني‪.‬‬ ‫‪ - 27‬ريكور‪ ،‬رصاع التأويالت‪ ،‬دراسات هريمينوطيقية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬منذر عيايش‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،2005 ،‬ص‪315.‬‬ ‫‪28 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit.,p.389.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪118 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫موسطة باآلخر وبالرمز وباللغة‪،‬‬ ‫وندرك من هذا أن عالقة األنا بالعامل ليست مبارشة بل ّ‬ ‫فالعامل –املوضوعي هو ما نتحاور بشأنه يف اللغة مع اآلخر‪ ،‬أما ما هو يف األصل خارج أدوات‬ ‫التواصل مع اآلخر فأمر ال ينتمي إىل وعينا التواصيل بل إىل ما هو يف ذاته‪ .‬بفضل تواصل األنا‬ ‫واآلخر أمكن للعامل أن يغدو عاملنا‪-‬نحن‪ ،‬وأمكن إخراجه من مجهوليته وغرائبيته واستمالكه‬ ‫يف مستوى األنا أكون‪.‬‬ ‫يتبي أن منوذج األنا التعددي املنشود ليس ذلك الرضب من األنا الال‪ -‬مبايل بجسده‬ ‫وعليه ّ‬ ‫وبالعامل‪ ،‬واملستغرق يف تأمالته امليتافيزيقية بعيدا عن فوىض العامل وصخبه (منوذج الكوجيتو‬ ‫الديكاريت والكانطي والهورسيل)‪ ،‬بل ذلك الذي يستغرقه اآلخر والعامل يف فعل جديل تتبادل فيه‬ ‫املواقع واالنتصارات‪ .‬وبهذه الخاصيات لن يكون السؤال عن كينونة األنا سؤاال حدسيا بل سيكون‬ ‫سؤاال فينزمينولوجيا حيث يذهب األنا أكون اىل األشياء ليقيم بني ثناياها باملعنى الهورسيل‬ ‫للقصدية (‪ . 29 )Intentionnalité‬وبهذا يكون قد تخىل عن صلفه يف التعايل عن الظواهر والتخيل‬ ‫بالخصوص عن التعاطي معها وكأنها أعراضا زائفة ال تحمل دالالت معرفية ثابتة‪ .‬ولذلك كان‬ ‫اإلغريق وال سيام أفالطون وأرسطو ينزعون عنها صفة الجوهرية واملاهوية ليضعونها إما يف املثل‬ ‫او يف الكليات الجامعة‪ .‬بالعودة اىل العامل الظاهرايت تغريت مرجعيات األنا املعرفية متاما‪ .‬مل تعد‬ ‫املعرفة عرفانا وإرشاقا أو بحثا عن التطابق بني موضوع معريف جاهز وذات تحمل يف داخلها‬ ‫بذور الحقيقة الخالدة‪ .‬أضحى العامل أمام الذات موضوعا لالستكشاف واملجاهدة‪ .‬وفق التصور‬ ‫الفينمنولوجي ال يحمل العامل يف ثناياه معرفة كامنة او حكمة ثاوية علينا التقاطها مبا توفر يف‬ ‫دواخلنا من استعدادات لتلقي مثل هذه الحكمة (املوقف الرواقي والعرفاين منوذجان)‪ .‬املعرفة‬ ‫ليست تطابقا وال تلقيا سلبيا ال يفرتض حضور اآلخر معنا وقبالتنا‪ .‬املعرفة الفينوميونولوجية‬ ‫والقصدية بالخصوص هي لقاء مزدوج مع عامل قد من طبيعتنا كام بني ذلك مرلوبونتي ثم مع‬ ‫آخر بوصفه شبيهنا الذي نتحاور معه من اجل ترويض أشياء العامل خدمة لصالحنا املشرتك‪ .‬إن‬ ‫الولوج يف العامل ويف األخر(عني الذات) ليس ولوج الذات يف موضوع غريب عن ماهيتها‪ ،‬بل‬ ‫ولوج الشبيه يف الشبيه واكتامل حلقات الطبيعة‪ .‬وبهذا تنزاح الثنائية الثقيلة للذات واملوضوع‬ ‫ليحل «اللحم» يف العامل والعامل يف «اللحم» دون أن‬ ‫ولتخارجهام الذي افتعلته املثالية الكالسيكية ّ‬ ‫يضمر أو يضمحل القصد أي وعي هذا االلتحام‪ .‬ذلك أن االلتحام دون قصدية قد يفهم عىل أنه‬ ‫رضب من الحلول باملعنى الصويف للكلمة‪ .‬والحال أن من أبرز مدلوالت االلتحام القصدي الحفاظ‬ ‫عىل البقاء ‪ .‬إذ ال بقاء خارج العامل إال بحسن البقاء فيه‪ .‬ولعل هذا هو مدلول لفظة «الكوناتيس»‬ ‫‪29 - Paul Riceour, Soi-même comme un autre, op .cit ., p.373‬‬ ‫العدد‬

‫(‪119 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫(‪ )Conatus‬االسبنوزوية حيث يعمل هنا كرغبة قصدية متصلة بانخراط اإلنسان يف العامل من‬ ‫اجلب البقاء وحسن البقاء‪ .‬إن االنخراط بقصدية يف عامل هو امتداد للحمنا يجعل من اإلدراك‬ ‫الفردي إدراكا لكيفيات االنخراط يف هذا العامل‪ .‬وبالنتيجة االرتقاء شيئا فشيئا من املستوى األول‬ ‫للبقاء «الكوناتيس» إىل مستوى الرغبة يف حسن البقاء من خالل اندماجنا يف اآلخر‪.‬‬

‫‪ .III‬التأسيس االنرثوبولوجي‪-‬التأوييل للذات‬ ‫بعد تحصيل تجربة اللقاء الفينومنولوجي املزدوج مع العامل ومع اآلخر‪ ،‬ينتقل األنا الفينومنولوجي‬ ‫اىل املرحلة املوالية والتي نسميها مبرحلة التأسيس االنرثبولوجي للذات‪ .‬يقتيض الدخول اىل هذه‬ ‫العتبة أن تطرح الذات عىل نفسها السؤال التايل‪« :‬من أكون؟» (‪.30?)Qui suis-je‬‬ ‫لكن قد يوحي هذا التأسيس برغبة الذات يف االنثناء عىل ذاتها عىل إثر فشلها يف تجربة الغريية‬ ‫املزدوجة (العامل واآلخر)‪ .‬وقد يوحي أيضا بأننا إزاء سؤال كينوين ’’مخيف’’‪ 31‬رمبا منذرا بإجابات‬ ‫غري فلسفية وقد تكون إيديولوجية مثرية لحرب اآللهة‪ .‬بيد أن ريكور رسعان ما يردف بالقول‬ ‫أن هذا السؤال عىل وجاهته يظل يف صيغته وإجاباته نظريا ومطلقا طاملا مل نفككه اىل منطوقاته‬ ‫األربعة التالية‪« :‬من يتكلم؟» (‪Qui parle‬؟) من يفعل؟ (‪Qui agit‬؟) من يرسد ذاته (‪Qui se‬‬ ‫‪raconte‬؟) من هي الذات األخالقية‪ -‬املسئولة؟ (‪Qui est le sujet moral d’imputation‬؟)‪.32‬‬ ‫عن السؤال األول يجيبنا علم اللغة وعن الثاين علم العمل وعن الثالث علم الرسدية وعن الرابع‬ ‫علم األخالق واالتيقا‪.‬‬ ‫إن إحالة السؤال الكينوين اىل مجال العلوم اإلنسانية املذكورة يراد منه القول إن مبحث الكينونة‬ ‫سواء يف صيغته الفردي او الجامعية‪ ،‬ال يهدف اىل استعادة البحث األنطولوجي القديم وال يكرتث‬ ‫بالبحث عن ماهية سابقة عىل وعينا أو بجوهر طمسته األعراض الحسية والجسدية‪ ،‬أو بلحظة‬ ‫تذكّر نسيان ما ملاهية ثاوية يف باطننا‪ .‬وال ينشد السؤال أيضا متييزا ألنا عن أخرى عىل خلفية‬ ‫إيديولوجيا تسعى لتربير التفوق العرقي والعنرصي لكيان عىل آخر‪ .‬بل تنحرص انتظارات السؤال‬ ‫‪30 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, Seuil, 1990, p.198‬‬ ‫‪31 - Ibid., p.198.‬‬ ‫‪32-  P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit, p.28 Voire aussi, P. Ricœur, Parcours de la reconnaissance, Paris,‬‬ ‫‪Stock, 2004, p.157.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪120 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫وتفريعاته يف كونه سؤاال يحرضنا بشدة عىل الفهم الفاعل أو عىل ذلك الفهم الذي ال ميكث يف‬ ‫مستوى املناظرات السجالية حول طبيعة اإلنسان‪ .‬إن مثل هكذا فهم ال ينشد التنظري أو اإلمساك‬ ‫مباهية منفلتة‪ ،‬بل يتوق للفعل يف اإلنسان ومعه يف إطار فلسفة تصف نفسها «بالعملية»‪.33‬‬ ‫‪34‬‬

‫*‪ -‬بأي معنى ميكن اعتبار الذات الفاعلة بديال عن الكوجيتو والكوجيتو‪-‬املضاد؟‬ ‫يقتيض إعادة تأسيس الذات انرثوبولوجيا وضع منهج تأوييل (هرمنطيقي) جديد من شأنه أن‬ ‫يفتح الذات عىل العامل‪ .‬لهذا يعترب ريكور أن التأويل الجديد للذات يجب أن يأخذ يف الحسبان‬ ‫انفتاح موضوع التأويل عىل التجربة والتاريخ الحي‪ .‬التأويل ليس فقط نوع من الفهم الذي‬ ‫يراد به استنطاق باطن النص من ظاهره (كام يعرفه الجرجاين أيضا)‪ ،‬بل الذهاب بالنص املؤول‬ ‫اىل الفعل أي اىل التجربة التاريخية وفتح آفاقه عىل الراهن والوجود‪-‬هنا (الدازين) باملعنى‬ ‫الهايدقري‪ .35‬وفضال عن ذلك يتبنى ريكور التعريف الغادمري للهرمنطيقا‪ ،‬وينأى عن حرصها يف‬ ‫مجرد العملية الفهمية مثلام فعل ذلك ويليام دلتاي‪ .36‬فإذا كان ماركس قد نبه سابقا اىل خطأ‬ ‫الفالسفة الجسيم حني اكتفوا بتأويل العامل دون أن يغريوه‪ ،‬فإن ريكور سيقول عىل إثره أن فالسفة‬ ‫الكوجيتو مل يفتحوا نوافذ األنا عىل الغريية والبينذاتية (‪ ، )L’intersubjectivité‬واكتفوا بهرمنطيقا‬ ‫صورية‪/‬تأملية حكمت عىل الخطاب الفلسفي املثايل بالتموقع خارج الصريورة التاريخية أي خارج‬ ‫الفعل‪ .37‬يجب أن منر دامئا من هرمنطيقا النص اىل مقتضيات الفعل‪ .38‬يقول ريكور‪« :‬توجد‬ ‫مسافة معتربة بني هرمنطيقا عني الذات (‪ )L’Herméneutique de Soi‬وفلسفات الكوجيتو‪ .‬أن‬ ‫تقول «عني الذات» (‪ )٠Le Soi -même‬ال يعني أن تقول األنا‪.»39‬‬ ‫‪33 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit, p..31‬‬ ‫‪34 - P.Ricoeur, Soi même comme un autre, Seuil, Paris, 1990, p. 27‬‬ ‫‪35 - J.Grondin, "Herméneutique", in Dictionnaire des notions philosophiques, dirigé par Sylvain Auroux, Paris,‬‬ ‫‪PUF, 1990, pp.1129-1133.‬‬ ‫‪36 - Georges.Hans.Gadamer: Méthode et vérité ,Seuil, Paris, 1976, p.148‬‬ ‫‪ - 37‬انظر تجديديات ريكور للهرمنطيقا لدى‪ :‬عبد الغني بارة‪ ،‬الهرمنطيقا والفلسفة‪ ،‬نحو مرشوع عقل تأوييل‪ ،‬الدار العربية للعلوم‬ ‫نارشون‪ ، 2008 ،‬ص‪361.‬‬ ‫‪ - 38‬وهذا هو مدار كتاب ريكور‪ Du texte à l’action:‬من النص اىل الفعل‪.‬‬ ‫‪39 -.P. Ricœur, Soi même comme un autre, op.cit, .p.30. voir aussi F. Doss : « « C’est donc par rapport à la tradition‬‬ ‫‪cartésienne que Ricœur va remonter le fil de ses études jusqu'à reconstituer la personne à partir de son extériorité‬‬ ‫‪d’un Soi qui n’est pas le moi » F.Doss, Ricœur, le sens d’une vie, op.cit.p.620‬‬ ‫العدد‬

‫(‪121 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫تكمن طرافة ورمبا عرس املحاولة الريكورية يف رغبتها االستعاضة عن مفهوم «األنا» املتهالك مبفهوم‬ ‫«عني الذات» (‪ . )Le Soi -même‬تتموقع «هرمنطيقا عني الذات «عىل مسافة متساوية من الكوجيتو‬ ‫الديكاريت املتبجح وأيضا من الكوجيتو النيتشوي املهان»‪ . 40‬تبرشنا الهرمنطيقا االنرثوبولوجية اذن‬ ‫مبيالد كوجيتو جديد هو ما يطلق عليه جون غريتش ‪ Greisch‬بالكوجيتو الهرمنطيقي‪ .41‬ال يجوز‬ ‫أن نفهم من مفهوم «عني الذات» انكفاء جديدا عىل األنا رغم أن ترشيح املفهوم ذاته سيعطينا هذه‬ ‫اإلمكانية‪ ،‬باعتبار أن لفظة «عني» تفيد أن اليشء يظل هو عينه أي «هو هو» أو «هو نفسه» مهام‬ ‫تغريت أعراض الذات ومهام داهمتها التأثريات الخارجية‪ .‬مثلام يفيد لفظ «عني» او «نفسه» الثبات‬ ‫يف الشخص والدوام البيولوجي واالستنساخ الجيني لنسله‪ .‬كام يفيد أيضا قدرة الشخص عىل إنشاء‬ ‫هوية‪-‬انية (‪ )Identité-Ipse‬قادرة عىل أن تبقى هي عينها بعد أن تكون قد انخرطت ومتاهت بعامل‬ ‫الصريورة‪ .‬يحيلنا مفهوم «عني الذات» إذن اىل ازدواجية هوية الشخص‪ :‬فهو من جهة هوية‪-‬ثابتة‬ ‫ومتكررة هي امتداد لهوية تناسلية عرقية رقمية‪ .‬ومن جهة أخرى يكون قادرا عىل نحت هوية فردية‪/‬‬ ‫حرة من خالل الفعل مع اآلخرين والتداول معهم باللغة وبالرموز ومختلف أشكال التواصل والتذاوت‪.‬‬

‫الهوية‪-‬الثابتة والهوية‪-‬املتحولة‬

‫الهوية الثابتة أو «الصلبة» (‪« )L`identité au sens du même‬تفيد االستمرارية يف‬ ‫الزمن(‪ )...‬حيث تواجه املختلف‪ ،‬أي املتغري واملتحول‪ .‬يف مقابل«الهوية االنية(‪L`identité au‬‬ ‫‪« )sens d`ipse‬وهي هوية ال» تفيد أي إثبات لنواة مزعومة ثابتة يف الشخصية »‪ .42‬إن الهوية‬ ‫باملعنى األول هي النوع أو الجوهر أو املاهية التي تكرر نفسها من خالل األعراض املؤقتة‪ ،‬أو قل‬ ‫إنها املثال الذي ال يحيا إال بنسخه‪ .‬أليست النسخة املنبثقة عن األصل أو «االنية» (‪ )Ipséité‬هي‬ ‫تلك الذات التي تحرض إىل العامل مجددة حياة النوع‪ .‬أو بلغة حنا آرنت أليس كل «قادم جديد»‬ ‫هو بداية جديدة لإلنسانية ؟‪ .43‬وإذن فالهوية‪-‬اإلنية ليست مجرد نسخة مطابقة لألصل من‬ ‫‪40 - Ricœur, soi même ..p.35‬‬ ‫‪41 - Jean Greisch, Le cogito herméneutique. - L'herméneutique philosophique et l'héritage cartésien, éditions, Vrin, Paris, 2000.‬‬ ‫‪42 - Paul Riceour., op.cit, p.13. Voire aussi F.Doss, « « la memêté évoque le caractère du sujet dans ce qu’il a‬‬ ‫‪d’immuable à la manière de ses empreintes digitales, alors que l’ipséité renvoie à la temporalité, à la promesse, à la‬‬ ‫‪volonté d’une identité maintenue en dépit du changement : c’est l’identité dans sa traversée des épreuves du temps‬‬ ‫‪et du mal ». F.Doss, Ricœur, le sens d’une vie,op.cit, p.620‬‬ ‫‪ - 43‬تقول ح‪ .‬آرنت ‪ " :‬يف كل عملية والدة يظهر شئ جديد ‪ .‬وباإلمكان القول انه مل يظهر أي إنسان قبل ذلك " أنظر ‪:‬‬ ‫‪. Hannah Arendt, La Condition de l’homme moderne, Paris , Calmman-Lévy,1983, p.200‬‬ ‫العدد‬

‫(‪122 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫املوروث‪ ،‬بل كيان جديد يحمل رشط استمرار النوع‪ .‬األصل يحرض كنوع ويختلف يف الفرديات‪.‬‬ ‫الحيوانية والنطق وهي الصفات املاهوية أو الطبائع الثابتة يف النوع البرشي تتجدد يف الفرديات‪.‬‬ ‫رشوق الشمس وغروبها ودورانها حول األرض وتعاقب الليل والنهار والفصول طبائع كسمولوجية‬ ‫تتكرر منذ األزل ولكنها ال تتشابه أبدا ‪ .‬فالتكرار هنا ليس رتيبا ولو كان كذلك لتعطلت حركة‬ ‫الخلق ولتوقف السيالن األبدي‪ .‬إننا بالفعل «ال ميكن أن نسبح يف نفس النهر مرتني»‪ .‬ذلك‬ ‫يبسط لنا تالزم الصريورة يف صلب الجوهر أو الحركة يف صلب‬ ‫هو الدرس الهرياقليطيس الذي ّ‬ ‫التكرار‪ ».‬الهوية‪ ،‬جدلية موت وحياة مستمرة ‪« :‬ثبات» يف الذات (‪« )Constance‬وتحولية»‬ ‫(‪« ، )Mutabilité‬ذاكرة» (‪ )Passeité‬و«مستقبلية» (‪« )Futiration‬بحيث ال ميكن أن نتمثلها‬ ‫إال من منظور تاريخاين (‪)Historial‬هايدغري تحرض من خالله رضوب األزمنة حيث تتبادل‬ ‫الظهور واالحتجاب دون أن تتناىف»‪. 44‬‬ ‫وهكذا تتصالح النقائض العسرية داخل ماهية الهوية بحيث يتعذّر عىل االندماج أن يقوم‬ ‫دون اختالف‪ ،‬كام يتعذّر عىل الوحدة أن تقوم دون ثنائية ‪ .45‬الهوية هي إذن «لوغوس الكرثة»‬ ‫‪ :46‬ففيها تلتقي رضوب األزمنة وكل طبقات وأبنية األنا الفردية والجامعية‪ .‬فقدر الهوية أن‬ ‫تحيا منثنية عىل انشطارها إىل «هوية التشابه والثبات والجامعة» و»هوية االختالف و التعاكس‬ ‫والغريية»‪ ،47‬وبعبارات أخرى يتحكّم يف بنيتها قانوين «التفريد» (‪ ) Individuation‬و»التوحيد»‬ ‫(‪ :48)Unification‬فكل هوية تحيل يف نفس الوقت إىل ذاتها أي إىل الفرادة والفردية «الرقمية»‬ ‫(‪( )Identité Numérique‬مبدأ االختالف) واىل التو ّحد باألنظمة الثقافية الكربى (‪Identité‬‬ ‫‪ (49 )Essentielle‬مبدأ الوحدة)‪.‬‬

‫‪44 - Triki Fathi, La Stratégie de l'identité, Paris, Arcantères Edition,1998, p.32‬‬ ‫‪45 - Pierre Moessinger, Le jeu de l ' identité, Paris, ,PUF, 2000, p. 97.‬‬ ‫‪46 - Fernando Gil, «  Identité » ,in Encyclopédia Universalis , France S.A.1996, Corpus 11, p .896 .‬‬ ‫‪47 -I.Sow, "Identité masculine- identité féminine, esquisse théorique d 'une analyse culturelle", Actes du colloque,‬‬ ‫‪Psychologie différentielle des sexes,Tunis 16-20 Octobre 1984, p. 38‬‬ ‫‪48 -Paul Rasse / Nancy Nidol , Unité et Diversité, Les identité culturelles dans le jeu de la mondialisation,‬‬ ‫‪L’Harmattan,2001, Introduction, p. 14-15.‬‬ ‫‪49 - Alain Montefior, "Identité ", in, Dictionnaire d’Ethique et de philosophie morale, dirigé par Monique Canto‬‬‫‪Sperber, Paris, PUF,1996 ,pp.740-741‬‬ ‫العدد‬

‫(‪123 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫هكذا ينثني كل شخص عىل عنارص ثبات متنحه استمرارا يف الزمن وامتدادا يف اآلخرين الذين مضوا‬ ‫والذين مل ميضوا والقادمون يف املستقبل‪ .‬إنها إحداثيات أمان حيث متنحنا إحساسا بالجذور واالنتامء‬ ‫للزمن املطلق‪ .‬و يف مسار مواز تفتح اإلنية اإلرث الثابت عىل الغرييات الخارجية و قد تع ّرض الذات‬ ‫اىل خطر الذوبان يف اآلخرين من خالل االنخراط يف عالقات القوة واسرتاتيجيا االستقطاب‪ .‬إن الغاية‬ ‫من هذا االنفتاح هو الفوز يف نهاية املطاف بفلسفة عملية قادرة عىل وضع تصور اتيقي وسيايس‬ ‫لهذه الذات التي ال تحقق «الحياة الجيدة» باملعنى األرسطي اال بواسطة اآلخرين وداخل مؤسسات‬ ‫عادلة‪ .‬يقول ريكور‪ »:‬ميكن القول أن الرهان اإلشكايل ملجمل الدراسات (الواردة يف عني الذات‪)...‬‬ ‫هو الفعل اإلنساين وان مفهوم الفعل ال يفتأ يف التوسع عىل امتداد هذه األبحاث‪ .‬وبهذا املعنى‬ ‫‪50‬‬ ‫فالفلسفة التي تنبعث من هذا األثر تستحق أن نطلق عليها صفة العملية»‬ ‫تؤسس الهرمنطيقا الريكورية لفلسفة عملية‪ /‬لفلسفة الذات الفاعلة‪ /‬املتأملة وامللتزمة‬ ‫والقادرة ‪ .Sujet capable51‬يتشكل هذا الرباديغم عرب الفعل والزمن‪ .‬إنها (أي الذات الجامعة)‬ ‫بناء متواصل غري قابل لالنغالق والنهائية‪ .‬يقول ريكور‪ »:‬إن ما نسميه الذات ليس باملعطى‬ ‫منذ البدء‪ .‬وإذا أعطيت فهناك خطر أن تختزل اىل ذات نرجسية‪ ،‬أنانية هزيلة «‪ .52‬يف مقابل‬ ‫األنا املثايل املنقطع عن العامل ‪ /‬املكتف بفهم ذاته دون وسطات العامل واآلخر والتاريخ والرموز‪.‬‬ ‫الذات العملية‪/‬امللتزمة والفاعلة تتشكل هويتها عرب املا‪-‬يحدث ‪ L’A-dvenir‬أي عرب الصريورات‬ ‫الزمنية‪ .‬ألمر كهذا فنحن ال نفهم هويتنا اال من خالل الرسد‪.‬هنا تكمن مركزية الهوية الرسدية‬ ‫لدى ريكور‪.‬‬

‫الهوية الرسدية ‪ :‬اكتامل الفعل اإلنساين يف الرسد والذاكرة‬

‫يحتل الرسد بكل معانيه‪ :‬األديب والروايئ والتـأريخي والديني مكانة مركزية يف فلسفة الهوية‬ ‫الريكورية‪ .‬ونعني بالرسد امللفوظ واملكتوب معا أي الحكاية والرواية والقصة والحدث التاريخي‪.‬‬ ‫يتعني الرسد يف مواضع عدة‪ :‬اآلثار املادية والخطية والفنية والشفوية‪ .‬انه يف كل حاالته إعادة‬ ‫‪50-  Ricœur, « On peut dire que l’ensemble de ces études à pour unité thématique l’agir humain , et que la notion d’action‬‬ ‫‪acquiert, au fil des études, une extension et une concrétion sans cesse croissantes. Dans cette mesure, la philosophie qui‬‬ ‫‪se dégage de l’ouvrage mériterait d’être appelé philosophie pratique » . Soi même comme un autre, op.cit, p.31‬‬ ‫‪51 - P. Ricœur, Parcours de la reconnaissance,, Stock, Paris, 2004, p.146‬‬ ‫‪ -52‬بول ريكور‪" ،‬الحياة بحثا عن الرسد" ضمن كتاب‪ :‬الوجود والزمان والرسد ‪ ،‬فلسفة بول ريكور‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬املركز‬ ‫الثقايف العريب الدار البيضاء‪،1999 ،‬ص‪55.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪124 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫متثل ملا حدث وما مر من أحداث‪ .‬انه تذكر وتوثيق مادي ورمزي يف املخيال الجمعي لحدث‬ ‫أو أحداث يرمي من ورائها الراوي أو املؤرخ أو الفنان إىل اإلمساك بلحظة عابرة وتثبيتها يف ال‪-‬‬ ‫زمنية متخيلة‪ .‬الرسد هو شكل آخر من الوجود الفردي والجامعي قبل الحدث ‪/‬أثناءه وبعده‪.‬‬ ‫انه الفعل يف كل أزمنته‪ .‬انه الفعل املروي‪ ،‬او الفعل املتلفظ به يف كل مراحله‪ .‬لكن الرسد ليس‬ ‫متلفظا فحسب‪ ،‬بل هو نص واثر يحمل دالالت ال حرص لها‪.‬‬ ‫هل ميثل الرسد بأنواعه آلية من آليات بناء الهوية الفردية وانفتاحها عىل التاريخانية؟‬ ‫ميثل الرسد امتدادا للهوية االنية داخل زمنيات الوجود وزمنية اآلخر‪ .‬يقول ريكور‪« :‬الهوية‬ ‫الشخصية هي هوية زمنية»‪ .53‬ملا كان الفرد عرض وممكن يف الوجود‪ ،‬فإنه بحاجة دوما لحضور‬ ‫اآلخر حتى يستقيم وجوده ويستكمل حاجياته باالجتامع والتعاون مع أشباهه‪ .‬كام أنه ال ميسك‬ ‫مبعاين حياته‪ ،‬إال متى أصبح جزءا من سرية جامعته املدنية والتاريخية واللغوية‪ .‬فبحكم عرضية‬ ‫وجوده‪ ،‬ال ميكنه أن يضفي ماهية أو معنى عىل حياته الجزئية طاملا مل تنخرط هذه يف منوال الحياة‬ ‫الجامعية‪ .‬إن الجامعة هي التي متنح اذن معنى الحياة ألعضائها حني تدرجهم يف منظومة رسديتها‬ ‫اللفظية واملادية‪ .‬وهي بذلك تعرتف بوجودهم بشكل حضوري او غيايب أي بشكل تاريخاين( ال يتقيد‬ ‫بزمنية معينة)‪.‬‬ ‫ال ينفصل االعرتاف الوجودي باألشخاص العابرة من طرف الجامعات عن االعرتاف بحضور‬ ‫ذكراهم يف الوعي الجامعي‪ .‬يستكمل االعرتاف بواسطة الرسد او التدوين الحلقة األخرية للهوية‬ ‫الفردية‪ .‬وليس هذا فحسب فرواية أحداث حياتنا من طرف اآلخرين ال مينحها معنى فحسب‪ ،‬بل‬ ‫مينحها بالخصوص خيطا ناظام فتصبح سلسلة أحداث مرتقية ومجاهدة انتهت إىل تحقق هدف‬ ‫نهايئ او تلوس‪ Telos‬تسري عىل هديه الجامعة الحاضنة‪.54‬‬ ‫إن الرسد أثر وذكرى ووثيقة يراد من خاللها تثبيت نوع من التلوس الجامعي الذي مينح‬ ‫الجامعة إحداثيات هويتها التاريخية والثقافية‪ .‬لكن الرسد بالنسبة لبول ريكور ليس فقط‬ ‫‪53 - P. Ricœur, Parcours de la reconnaissance,, op.cit, p.180‬‬ ‫‪54 - P. Ricœur, Soi même comme un autre, «  McIntyre, dans After Vertue, appelle unité narrative de la vie et dont‬‬ ‫‪il fait une condition de la projection de la « vie bonne ». Il faut que la vie soit rassemblée pour qu’elle puisse se‬‬ ‫‪placer sous la visée de la vraie vie. Si ma vie ne peut être saisie comme une totalité singulière, je ne pourrait jamais‬‬ ‫‪souhaiter qu’elle soit réussie, accomplie » op, cit. 190‬‬ ‫العدد‬

‫(‪125 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

‫اإلمساك بالذكرى من التاليش والتصدي للنسيان واالعرتاف باألسالف‪ ،‬بل هو عنوان استمرارية‬ ‫االنية عرب الزمن والتغريات والوفاء بوعودها‪« :‬رغم التحول ننتظر من اآلخر أن يجيب عن‬ ‫املساءلة عن أفعاله باعتباره هو نفسه الذي قام باألمس بفعل ما وال بد أن يحاسب اليوم عليه‬ ‫وان يتحمل يف الغد تبعات فعله‪ .‬ولكن هل يتعلق األمر بنفس الهوية؟ أال يتوجب إذا أخذنا‬ ‫الوعد (‪)La promesse‬كقاعدة لكل العقود واملواثيق والتفاهامت أن نتحدث عن وجود متاسك‬ ‫لالنا رغم التحول‪ ،‬أي متاسك مبعنى الوفاء بالوعد ؟»‪ .55‬الهوية الرسدية تعني الهوية الزمنية التي‬ ‫استطاعت الصمود أمام السيالن األبدي للحركة والزمن‪ .‬إنها الهوية التي حققت املعادلة العسرية‬ ‫بني استمرار طبيعتنا عرب الزمن واستقرار االنية‪.56‬‬ ‫ميكن الرسد من تأسيس «أنطولوجيا اتيقية» وتاريخية للهوية يف آن واحد لكونه ترحاال‬ ‫ّ‬ ‫مستمرا وراء املعنى املنكشف تارة واملحتجب طورا خلف األحداث واملمكنات العرضية‪ .‬تراهن‬ ‫انطولوجيا الرسد عىل وصل أزمنة التاريخ ببعضها البعض يف إطار رؤية تاريخانية للتاريخ يلعب‬ ‫فيها مبدأ «الرد الفينومينولوجي» الهورسيل (‪ L›époché‬االيبوخيا)‪ -‬أي رد األزمنة الطبيعية‬ ‫إىل زمانية الحضور الدائم‪ 57‬دورا مركزيا يف فهم التاريخ والحياة الفردية أو الجامعية ككل ال‬ ‫يتجزأ‪.‬‬ ‫يستلهم ريكور نظرية الرسد عىل ما يبدو من مقاربة آنا أرنت ويستعني يف نفس الوقت‬ ‫بالتحليلية الوجودية الهايدغرية‪ .‬ذلك أن «عطوبية األوضاع اإلنسانية» واستحالة اكتامل الفعل‬ ‫السد‪ .‬فهو املسافة الفاصلة بني‬ ‫الفردي والهوية الفردية وكذا الجامعية‪ ،‬ليس لها من حل سوى ّ‬ ‫الفعل وفاعله من جهة وبني فعل الفاعل والفاعلون اآلخرون من جهة أخرى‪ .‬ففي مساحة‬ ‫الكل ال فقط لفعل جزئ بل للحياة ككل ال يتجزأ‪ .‬وتكون‬ ‫هذه املسافات نقبض عىل املعنى ّ‬ ‫السد الشفوي ( تعداد‬ ‫عملية قبض املعنى التائه منا –إبان انخراطنا يف الفعل‪ -‬ال فقط يف ّ‬ ‫السد التدويني والوثائقي( تدوين سرية‬ ‫مناقب وخصال شخص ما بعيد وفاته)‪ ،‬بل وأيضا يف ّ‬ ‫حدث بطويل فردي أو جامعي أو مجرد تدوين سرية ذاتية) ‪ .‬إن الذاكرة األخالقية الجامعية هي‬ ‫التي تظهر الغائية الثاوية وراء أفعالنا ومن خالل وعرب الرسد‪ .‬ويسمح الرسد التدويني بإخراج‬ ‫‪ - 55‬بول ريكور‪،‬العادل‪ ،‬ص‪391 .‬‬ ‫‪56 - « L’identité narrative fait tenir ensemble les deux bouts de la chaine : la permanence dans le temps du caractère‬‬ ‫»‪et celle du maintien de soi ‬‬ ‫‪57 - P. Ricoeur , Temps et récit ,T III- Le Temps raconté- , Paris, Seuil, 1985,  p. 38.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪126 )6‬‬

‫مصطفى بن متسك‬

‫الحدث الفردي أو الجامعي من لحظة زمانيته الضيقة إىل لحظة التاريخ الرحبة والدامئة‪ .‬وبذلك‬ ‫‪58‬‬ ‫السد املد ّون ليس‬ ‫نقاوم النسيان املهدد لذاكرتنا الفردية والجامعية بالتاليش والتحريف‪ .‬إن ّ‬ ‫فقط إمساك بالذكرى بل قد يكون منهجا تربويا وأخالقيا تنقل مبوجبه الخربات والتجارب إىل‬ ‫السد هو لحظة التجميع التأليفي ملختلف املراحل املبعرثة من حياتنا‪ .‬انه لحظة‬ ‫اآلخرين‪ّ .‬‬ ‫اإلمساك مبختلف ردهات حياتنا ككل ال ينفصم‪.‬‬ ‫انتهت تأويلية الذات إىل اإليغال يف إشكالية العرص الراهن وأعني بها إشكالية الهوية‪ .‬بيد‬ ‫أن ريكور ال يتعاطى معها بالشكل اإليديولوجي رغم أنه ال يخفي يف الكثري من املواضع ميالنه‬ ‫العقدي للمسيحية الربوتستنتية‪ .‬تدفعنا تأويلية هويتنا اىل إظهار التعدد الحال يف دواخلنا بني‬ ‫عنارص ثبات نتعرف من خاللها اىل ذواتنا ما حيينا وعنارص تح ّول متكننا من التكيف والتالؤم مع‬ ‫منطق الصريورة الطبيعية واالصطناعية أعني صريورات املجتمع‪ .‬وفضال عن هذا ندرك ان تحقق‬ ‫الغائية النهائية لذواتنا غري قابل للتحقق اال يف استكامل اآلخرين لحياتنا من بعد رحيلنا ويف‬ ‫حفظهم لذكرانا من النسيان ويف استذكار أثارنا ومآثرنا عرب الزمن‪ .‬تلك هي امتدادات ذات تريد‬ ‫أن ال تكون عني ذاتها بل وأيضا عني اآلخر‪.‬‬

‫مرسد املراجع واالحاالت‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫•جورج زينايت‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬الدار العربية للرتجمة ‪ ،‬بريوت‪2007 ،‬‬ ‫•ديكارت‪ :‬تأمالت ميتافيزيقية يف الفلسفة األوىل‪ .، ،‬ترجمة‪ :‬كامل الحاج يوسف‪ ،‬تونس‪،‬‬ ‫رساس للنرش‪.2009 ،‬‬ ‫•عبد الغني بارة‪ ،‬الهرمنطيقا والفلسفة‪ ،‬نحو مرشوع عقل تأوييل‪ ،‬الدار العربية للعلوم‬ ‫نارشون‪2008 ،‬‬ ‫•الوجود والزمان والرسد ‪ ،‬فلسفة بول ريكور‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬سعيد الغامني‪ ،‬املركز الثقايف‬ ‫العريب الدار البيضاء‪1999 ،‬‬ ‫•ريكور‪ ،‬رصاع التأويالت‪ ،‬دراسات هريمينوطيقية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬منذر عيايش‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار‬ ‫الكتاب الجديد املتحدة‪.2005 ،‬‬ ‫‪• Ricœur, Parcours de la reconnaissance, Paris, Stock, 2004.‬‬ ‫‪• P.Ricoeur, Soi même comme un autre, Seuil, Paris, 1990‬‬ ‫‪• J.Grondin, «Herméneutique», in Dictionnaire des notions‬‬ ‫‪58  Paul Ricoeur, La mémoire, l’Histoire, l’oubli, Seuil, 2000.p.83 et p.575‬‬ ‫العدد‬

‫(‪127 )6‬‬

‫الذات املتعددة لدى بول ريكور‬

• • • • • • • • • • • • • •

philosophiques, dirigé par Sylvain Auroux, Paris, PUF, 1990 Georges.Hans.Gadamer: Méthode et vérité ,Seuil, Paris, 1976 Triki Fathi, La Stratégie de l›identité, Paris, Arcantères Edition,1998 Pierre Moessinger, Le jeu de l ‹ identité, Paris, ,PUF, 2000 Fernando Gil, «  Identité » ,in Encyclopédia Universalis , France S.A.1996, Corpus 11 I.Sow, «Identité masculine- identité féminine, esquisse théorique d ‹une analyse culturelle», Actes du colloque, Psychologie différentielle des sexes ,Tunis 1620- Octobre 1984 Paul Rasse / Nancy Nidol , Unité et Diversité, Les identité culturelles dans le jeu de la mondialisation, L’Harmattan,2001, Introduction. J. Habermas, Ecrits politiques. Culture, droit, histoire, Paris, Cerf, 1990 P. Ricœur, Le conflit des interprétations, Seuil. Nietzsche , Ainsi parlait Zarathoustra, éd Gallimard Marx et Engels, L’Idéologie Allemande, Œuvres choisies, Gallimard Charles Taylor , Self-Interpreting Animals», in Human agency and Language. Charles Taylor, La liberté des modernes, Essais, traduits et présentés par  Philipe De Lara , Paris, PUF , 1997. Jean Greisch, Le cogito herméneutique. - L›herméneutique philosophique et l›héritage cartésien, éditions, Vrin, Paris, 2000 Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne, Paris calmann-Lérvy

‫العدد‬

128 )6(

‫ترجمة مقدّ مة «معجم الرموز»‬ ‫‪Dictionnaire des symboles‬‬ ‫(األساطري‪ ،‬األحالم‪ ،‬األعراف‪ ،‬اإلمياءات‪ ،‬األشكال‪ ،‬الصور‪ ،‬األلوان‪ ،‬األعداد)‬ ‫(باريس ‪)1990‬‬ ‫تأليف‪ :‬جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬ ‫*‬ ‫ترجمة‪ :‬فيصل سعد‬ ‫للرموز اليوم مكانة جديدة‪ ،‬إذ مل تعد امل ُ َخيَّل ُة محتقرة بوصفها «مجنونة البيت»‪ .‬فقد ُر َّد إليها‬ ‫االعتبار أختًا توأ ًما للعقل باعتبارها ملهمة الكتشافات ولتط ّورات‪ .‬وتعزى هذه املكانة يف قدر كبري‬ ‫منها إىل استباقات الخيال التي يؤكّدها العلم يو ًما فيو ًما‪ ،‬وإىل اآلثار الناجمة عن هيمنة الصورة‬ ‫يف الوقت الراهن‪ ،‬تلك التي يسعى علامء االجتامع إىل معادلتها بالتأويالت الحديثة لألساطري‬ ‫يل‪ .‬إ ّن الرموز اليو َم يف‬ ‫القدمية‪ ،‬وبنشأة أساطري جديدة‪ ،‬ث ّم بالكشوف الجليّة لعلم النفس التحلي ّ‬ ‫صلب اهتاممات الباحثني‪ .‬وهي قلب هذه الحياة املتخ ّيلة‪ .‬إنّها تكشف أرسار الالوعي وتقود إىل‬ ‫مح ّفزات العمل األكرث تخ ّفيًا‪ ،‬وتفتح العقل عىل املجهول والالنها ّيئ‪.‬‬ ‫كل م ّنا الرموز يف كالمه وحركاته وأحالمه آناء الليل وأطراف النهار سواء وعى بها أو‬ ‫ويستعمل ّ‬ ‫تعي مالمح الرغبات وتش ّجع عليها‪ ،‬وتك ّيف سلوكًا ما‪ ،‬وتص ّمم النجاح أو الفشل‪ .‬ويه ّم‬ ‫مل يع‪ .‬فهي ّ‬ ‫تك ّون الرموز وتنظيمها وتأويلها كث ًريا من االختصاصات شأن تاريخ الحضارات واألديان واللسانيّات‬ ‫والطب ‪ .‬وميكن أن نضيف إىل هذه القامئة دون‬ ‫واألنرثبولوجيا الثقاف ّية ونقد الف ّن وعلم النفس‬ ‫ّ‬ ‫غلقها مع ذلك تقنيّات البيع والدعاية والسياسة‪ .‬وتيضء أعامل حديثة العهد‪ ،‬ال تني تتزايد بُ َنى‬ ‫وكل‬ ‫املتخ ّيل والوظيفة الرامزة للمخ ّيلة‪ .‬وال ميكننا اليوم إنكار حقائق شديدة األثر يف هذا املجال‪ّ .‬‬ ‫ويتعي أن‬ ‫وكل التقنيّات الصادرة عنها تصادف رموزًا يف طريقها‪.‬‬ ‫علوم اإلنسان من قبيل الفنون‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫لحل األلغاز التي تضعها الرموز‪ .‬وتتآزر هذه العلوم لتحريك الطاقة التي تحتفظ‬ ‫تتضافر جهودها ّ‬ ‫بها الرموز مكثّفة‪ .‬فال يكفي أن نقول‪ :‬إنّنا نعيش يف عامل من الرموز‪ ،‬بل إ ّن عامل ًا من الرموز يعيش‬ ‫فينا‪.‬‬ ‫*جامعي من تونس‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪129 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫لحل لغز يتعلّق مبصري‪ ،‬والتحكّم فيه مص ًريا ينفلت منه‬ ‫تعب عن جهد اإلنسان ّ‬ ‫إ ّن العبارة الرمزيّة ّ‬ ‫عرب ظلامت الغياهب املحيطة به‪ .‬وقد يكون هذا الكتاب مبثابة خيط أريان (‪ )Fil d’Ariane‬الذي‬ ‫قد يهدي القارئ يف خفايا املتاهة املظلمة‪ .‬وميكنه كذلك أن يحثّه عىل التفكري والحلم بالرموز مثلام‬ ‫كان «غاستون باشالر» (‪ )Gaston Bachelard‬يدعوه إىل الحلم باألحالم‪ ،‬وإىل أن يكتشف يف هذه‬ ‫الخفي‪.‬‬ ‫الكوكبة امل ُتَخيَّلَ َة الرغبة والخشية والطموح التي تهب حياته معناها‬ ‫ّ‬

‫‪ .1‬لوحة توجيه ال مد ّونة تعريفات‬

‫ال ميكن لهذا املعجم ‪-‬اعتبا ًرا حتّى ملوضوعه‪ -‬أن يكون مجمع تعريفات شأن املفردات‬ ‫كل تعريف‪ .‬ومن طبيعته كرس األطر القامئة وتجميع‬ ‫واملصطلحات العاديّة أل ّن الرمز يفلت من ّ‬ ‫األطراف يف رؤية واحدة‪ .‬ومثله يف ذلك مثل السهم الذي يطري وال يطري‪ ،‬ثابتا‪ ،‬شاردا‪ ،‬جل ّيا ودقيقا‪.‬‬ ‫وستكون األلفاظ رضوريّة لإليحاء مبعنى رمز أو مبعانيه‪ .‬لكن لنتذكّر دامئًا أ ّن هذه األلفاظ غري‬ ‫قادرة عىل التعبري يف الرمز عن قيمته كلّها‪ .‬فال يُعا ِملَ َّن القارئ إذًا ِص َي َغ َنا املو َج َز َة كام لو كانت‬ ‫كل أبعاد الرمز‪ .‬فهذا الرمز يستسلم ويهرب‪ .‬بقدر ما‬ ‫أوعية تنطوي يف حدودها الضيّقة عىل ّ‬ ‫يتوضّ ح يتخفّى حسب عبارة «جورج غريفيتش (‪ )Georges Gurvitch‬القائل‪« :‬الرموز تُس ِف ُر يف‬ ‫ت َ َح ُّجبِها وتت َح َّج ُب يف سفورها»‪ .‬ويف املنزل الشهري أللغاز بومبايّي (‪ )Pompéï‬والذي غمره رماد‬ ‫َشف األرسار يف‬ ‫الربكان (فايزيف ‪ )Vésuve‬طيلة قرون يتناول رسم‬ ‫بنفسجي رائع بخلف ّية حمراء ك َ‬ ‫ّ‬ ‫س الحجاب‪،‬‬ ‫ديني‬ ‫تعميدي‪ :‬فقد ُر ِس َمت الرمو ُز بدقّة‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وص ِّممت الحركاتُ الطقسيّة‪ ،‬وان َح َ َ‬ ‫حفل ّ‬ ‫لكن يبقى اللغز كامالً ومث َقالً بااللتباسات ملن مل يقع تعميده‪.‬‬ ‫يسعى هذا املعجم فقط إىل وصف عالقات صور وأفكار وعقائد ومشاعر يتناولها أكرث من ‪1200‬‬ ‫لفظ قابل لتأويالت رمزيّة‪ .‬ومن أجل فحص أكرث مالءم ًة ركّزنا أحيانًا عىل املرموز إليه (نفس‪ ،‬سامء‬ ‫وغريهام‪ ،)...‬وأحيانًا أخرى عىل الرامز (ظبية‪ ،‬زنبقة ماء وهل ّم ج ًّرا‪ .)...‬ووردت التأويالت دون نظام‬ ‫متص ّور سلفًا‪ .‬و ُج ِّمعت أحيانًا حسب نظام جد ّيل ليست جدواه غري جدوى تعليميّة أو جامليّة‪.‬‬ ‫عرض له يف الجزء السادس من‬ ‫وقلّام ت ُنتَ َق ُد هذه التأويالت إالّ عندما تبتعد عن منطق ما للرموز س َن ُ‬ ‫ِ‬ ‫نفسها تحفّظاتٌ ‪ ،‬ألنّه ميكن بخصوص حقيقة الرمز أن‬ ‫هذه املق ّدمة‪ .‬لكن تصحب هذه‬ ‫االنتقادات َ‬ ‫نستعيد عنوان القطعة املشهورة لـ»بريندلّو» (‪« )Pirandello‬هكذا يكون إن شئت «‪ .‬ويحدث أن‬ ‫كل فقرة مفتوحة عىل مرصاعيها‪.‬‬ ‫ن َق ّد َم تأويالت شخصيّة‪ ،‬لكن تبقى ّ‬ ‫وعىل الرغم من اإلغناء الذي طال عديد اإلحاالت فال واحدة منها تز ُعم أنّها شاملة‪ .‬وقد د ّونت‬ ‫كل رمز من الرموز الكربى كتب بأكملها تنوء عن الواحد منها العديد من رفوف املكتبات‪ .‬وقد‬ ‫يف ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪130 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫ربا‬ ‫اقترص اختيارنا عىل ما كان من التأويالت أكرثها ضامنًا وعمقًا وإيحا ًء‪ ،‬أي عىل تلك التي ّ‬ ‫ييس عمل‬ ‫متكّن القارئ من العثور بنفسه عىل معان جديدة أو من استرشافها‪ .‬ومن جهة أخرى َس ّ‬ ‫الشخيص وإمكان اإلدراكات الطريفة اعتامد توافقات عديدة بني اإلحاالت التي تشري إليها‬ ‫االبتكار‬ ‫ّ‬ ‫عالمة (*)‪ ،‬وإحاالت عىل الكتب املصادر التي يُشار إليها بالحرف األ ّول من الكلمة يف منت الكتاب‪،‬‬ ‫ويحال عليها يف الببليوغرافيا‪ .‬ومن ث ّم ال يشء أيرس ‪ -‬ملن يرغب يف ذلك ‪ -‬من تعميق فهم رمز من‬ ‫الرموز واإلفاضة فيه‪.‬‬ ‫مم يجد من املعارف‪.‬‬ ‫وسيجد القارئ امل ُ َخ ِّيل يف هذه الصفحات – حقيقة – من الحوافز أكرث ّ‬ ‫أي مسار للتأويل‪ ،‬أو سيتخيّل مسا ًرا آخر‪ .‬ذلك أ ّن إدراك الرمز‬ ‫وسيتّبع‪ -‬حسب ذوقه أو ميوله ‪ّ -‬‬ ‫يتوسل بالشخص يف‬ ‫يتغي مع ّ‬ ‫كل ذات فحسب‪ ،‬وإنّ ا مبعنى أنّه ّ‬ ‫شخيص بحت‪ ،‬ال مبعنى أ ّن هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫والفيزيولوجي‬ ‫البيولوجي‬ ‫كلّيّته‪ .‬ولك ّن الشخص هو يف اآلن نفسه ق ْنيَ ٌة وتَ َقبُّ ٌل‪ .‬إنّه ينتمي إىل اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة بالوسط املبارش‬ ‫والنفيس إلنسان ّية ضاربة يف القدم‪ ،‬ويتأث ّر مبتغايرات ثقاف ّية واجتامع ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتط ّوره‪ .‬ويضيف إليها هو مثار تجربة فريدة وتوتّرات وضعه الحايل‪ .‬وللرمز تحدي ًدا هذه األولويّة‬ ‫كل مؤثّرات الالوعي والوعي يف عبارة ّ‬ ‫حس ّية‪ ،‬وكذلك القوى الغريزيّة والروح ّية‬ ‫االستثنائ ّية لصياغة ّ‬ ‫كل إنسان‪.‬‬ ‫املتصارعة أو التي هي يف طريقها إىل االنسجام يف دخيلة ّ‬ ‫كل كلمة حسب نظام ليس له من العلم إالّ املظهر‪.‬‬ ‫مل نكن نريد عرض املعلومات املجتمعة حول ّ‬ ‫وليست الدراسة العا ّمة للرموز متط ّورة مبا يكفي عىل الرغم من األعامل املتم ّيزة التي تضاعفت‬ ‫كل الوقائع املرتاكمة‪ .‬ومن املؤكّد أ ّن عد ًدا من‬ ‫يف السنوات األخرية لتسمح بوجود نظريّة تعرض ّ‬ ‫القوانني يظهر للعيان شأن قانون االستقطاب الثنا ّيئ‪ .‬إالّ أ ّن هذه القوانني ال تكفي لتكوين نظريّة‬ ‫شاملة‪ .‬فأ ْن نص ّنف التأويالت حسب عالقتها بنواة مركَزيّ ٍة هو أن نخاطر دو ًما بتكلّف املعنى فيها‬ ‫ِ‬ ‫الشخيص‪ .‬لقد‬ ‫األساس ّية لرمزٍما‪ ،‬وبتخصيص النصيب األوفر للقرار‬ ‫أو بتضييقه أو بتقدير القيمة‬ ‫ّ‬ ‫الخاص أو تع ّدد معانيها‬ ‫فضّ لنا ‪ -‬يف ما عدا بعض االستثناءات‪ -‬أن نرتك للمعطيات الخام ثقلها‬ ‫ّ‬ ‫واضطرابها‪ .‬وبات متع ّي ًنا أن نستبعد النظام السيميا ّيئ بواسطة تقريب الدالالت حتّى نفسح املجال‬ ‫املوضوعي للوقائع‪ .‬وق ّدرنا أنّه من األجدى أن نتج ّنب‬ ‫لتأويالت أخرى ذاتيّة‪ ،‬والحرتام التع ّدد‬ ‫ّ‬ ‫التقريبات النسق ّية توقّ ًيا من التناقضات واملشكالت ‪.‬‬ ‫تاريخي داخل اإلحاالت‪ .‬أ ّما مشكل التواريخ فقد‬ ‫ومل نقدر كذلك عىل أخذ قرار يف اتباع ترتيب‬ ‫ّ‬ ‫توصلنا فيه إىل ما يكفي من الحلول لعدد من الوقائع ذات املنزع الثقا ّيف‪ ،‬يف حني بقي املشكل مع‬ ‫ّ‬ ‫وقائع أخرى قامئًا كام هو ‪ .‬فام هو مثالً أصل أسطورة «زويس(‪)Zeus‬؟ وحتّى عندما تكون أسبق ّية‬ ‫العدد‬

‫(‪131 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫قامئة بشكل تا ّم كأسبقيّة مملكة الفراعنة عىل جمهوريّة روما وعىل إمرباطوريّة «اإلنكا (‪،»)Incas‬‬ ‫يتعي أن نحرتس من أن يكون القصد أ ّن تأويل الرموز مرتبط بتلك األسبق ّية‪ ،‬وأنّه يوجد رابط‬ ‫ّ‬ ‫فلربا ّ‬ ‫األقل أالّ نحكم مسبقًا بأ ّن القرابة بني الدالالت املتامثلة‬ ‫يل بني مختلف املعاين‪ :‬أفال ينبغي عىل ّ‬ ‫أص ّ‬ ‫تقع يف مستوى العالقات التاريخ ّية‪ .‬فهل يكون من اإلنصاف أن نضع إفريقيا السوداء يف أسفل‬ ‫الرتتيب بسبب كون الوثائق ‪ -‬عدا الرسوم الجداريّة للهوغّار (‪ )Hoggar‬مثالً‪ -‬ال ميكن أن تسمح‬ ‫لنا بالعودة إىل أكرث من أربعة قرون أو خمسة‪ .‬وتضيع التقاليد العرب ّية يف عصور التاريخ السحيقة‪،‬‬ ‫ولربا القريبة أو البعيدة‪ ،‬لك ّننا غري قادرين دو ًما عىل تحديدها‪ .‬ومن ث ّم‪ ،‬قد ال يكون الركون إىل‬ ‫ّ‬ ‫يقيني فقط‪ ،‬وإنّ ا غري مالئم لطبيعة الرموز‬ ‫التاريخي للثقافات هشًّ ا وغري‬ ‫نظام يعتمد التسلسل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف ح ّد ذاتها‪ .‬ومر ّد ذلك إىل أنّه ال ميكننا إقامة عالقات تاريخيّة بني الرموز ومثل هذه التأويالت‪.‬‬ ‫لكن أل ّن علينا أن ند ّون تاريخ التأويالت الرمزيّة‪ ،‬ومل تتوفّربع ُد معطياته اليقين ّية مبا يكفي عدا‬ ‫ما يوجد‪ ،‬مثالً‪ ،‬يف الرمزيّة املسيحيّة ويف تبعيّتها الجزئيّة للعصور القدمية اإلغريقيّة الرومانيّة يف‬ ‫القدميي‪.‬‬ ‫الرشقي األدىن واألوسط‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫التاريخي‪ ،‬وإنّ ا‬ ‫النسقي أو‬ ‫كل كلم ٍة مفتاح ل ُيختار وفق الرتتيب‬ ‫ومل يكن ترتيب املعلومات تحت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل معلومة بذاتها ومجموع قيمها‬ ‫كان اختياره حسب مبدإ قد يحفظ عىل الوجه األفضل استقالل ّ‬ ‫ومتخصص الح ّريّة يف إدراك العالقة الدالل ّية أو التاريخ ّية بني معطيات من‬ ‫ولكل قارئ‬ ‫االفرتاض ّية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وخاصة مبجموع‬ ‫هذا القبيل‪ .‬وسرتتهن املعرف ُة ِ العلميّ ُة للرموز ‪ -‬إن وجدت‪ -‬بالتط ّور العام للعلوم ّ‬ ‫العلوم اإلنسان ّية‪ .‬ويف انتظار تط ّور هذه العلوم (اإلنسان ّية) سنتب ّنى إذًا ترتي ًبا عمل ًّيا وتجريب ًّيا محضً ا‬ ‫كل رمز‪.‬‬ ‫ويتغي مع ّ‬ ‫أقل ما ميكن من األفكار املسبقة‬ ‫يقحم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومن املؤكّد أ ّن التأويالت املختلفة التي الحظنا لعدد غري قليل من الرموز ليست من دون عالقة‬ ‫السلّم املوسيقي)‪،‬‬ ‫يف ما بينها شأنها يف ذلك شأن توافق ّيات حول الغالبة (الدرجة الخامسة من ُ‬ ‫كل فضاء ثقا ّيف‪ .‬لذلك اقترصنا يف الغالب عىل تنضيد عديد‬ ‫األسايس ليس هو نفسه مع ّ‬ ‫لك ّن املعنى‬ ‫ّ‬ ‫التأويالت دون أن نحاول اختصارها اختصا ًرا يوشك أن يكون اعتباط ًّيا‪ .‬وسيع ّول القارئ عىل حدسه‬ ‫الذايتّ ‪.‬‬ ‫الفوضوي لالنخرام عىل النظام‪ .‬ذلك‬ ‫وال يتعلّق األمر بالسقوط يف مغاالة أخرى هي التفضيل‬ ‫ّ‬ ‫كل ذاك الرثاء مهام كان مشكل ًّيا‪ ،‬متناقضً ا وغائ ًرا يف الرمز‪ .‬ويبدو‬ ‫األساس هو أن نحفظ ّ‬ ‫أ ّن ه ّمنا‬ ‫َ‬ ‫العلمي غري قائم البتّة عىل اختزال املتع ّدد يف الواحد‪ ،‬وإنّ ا عىل‬ ‫الرمزي خالفًا للتفكري‬ ‫لنا التفكري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشظّي الواحد إىل املتع ّدد حتّى نكون أفضل إدراكًا يف مرحلة ثانية لوحدة ذلك املتع ّدد‪ .‬وما مل‬ ‫العدد‬

‫(‪132 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫نلح عىل هذا االفرتاض املتف ّجر‪ ،‬وأن نحافظ عليه‬ ‫نع ّمق ذلك قُ ُد ًما فإنّه يب ُدو لنا من‬ ‫ّ‬ ‫الرضوري أن ّ‬ ‫كل يشء‪.‬‬ ‫قبل ّ‬ ‫وميكن للموضوعات امل ُتَ َخ َّيلة التي قد أس ّميها رسم الرمز أو صورته (كاألسد والثور والقمر والطبل‬ ‫وأرضابها‪ )...‬أن تكون كليّة غري مح ّددة بزمن و منغرسة يف بنى املخيّلة البرشيّة‪ ،‬لك ّن معناها ميكن‬ ‫أن يكون مختلفًا شديد االختالف بحسب الناس واملجتمعات وبحسب وضعهم يف زمن مح ّدد ‪.‬‬ ‫لذلك ينبغي أن يُستَوحى تأويل الرمز ‪ -‬مثلام تح ّدثنا عنه يف هذا الكتاب بخصوص الحلم‪ -‬ال فقط‬ ‫الخاص اآلن وهنا‪ .‬فليس لألسد الذي‬ ‫من الصورة‪ ،‬وإنّ ا من حركتها ومن محيطها الثقا ّيف ومن دورها‬ ‫ّ‬ ‫يل املعنى نفسه الذي لألسد يف «رؤى حزقيال‪.« Ezéchiel‬‬ ‫ّ‬ ‫يرتصده رامي السهام يف مشهد صيد باب ّ‬ ‫الخاص بالرمز توازيًا مع البحث عن القاسم املشرتك‪.‬‬ ‫وسنجتهد يف البحث عن الفارق واالصطالح‬ ‫ّ‬ ‫لكن علينا أن نحرتس من املبالغة يف التخصيص بالقدر الذي علينا أن نحرتس فيه من اإلرساع إىل‬ ‫التعميم‪ :‬إنّهام عيبان يف عقلنة قد تكون قاتلة للرمز‪.‬‬

‫مقاربة مصطلح ّية‬

‫متغيات يف املعنى ذات شأن‪ .‬ومن امله ّم‪ -‬لتحديد هذه املصطلحيّة‪-‬‬ ‫يكشف استعامل لفظ الرمز عن ّ‬ ‫التباسا يف غالب األحيان‪ .‬وينتج عن هذه‬ ‫أن نَ ِ ِي َز ج ّي ًدا الصورة الرمزيّة من ّ‬ ‫كل الصور التي تلتبس بها ً‬ ‫االلتباسات مسخ للرمز ينحدر به إىل الخطابة أو إىل االتباعيّة أو اإلسفاف‪ .‬وإذا مل تكن الحدود بديهيّة‬ ‫دامئًا بني ِق َيمِ هذه الصور يف مستوى التطبيق فذلك سبب زائد للتشديد عليها بق ّوة‪.‬‬

‫الشعار‬

‫معنوي‪ .‬فالراية شعار الوطن‪،‬‬ ‫هو صورة مرئيّة نتب ّناها اصطالحيًّا لتمثيل فكرة‪ ،‬أو كائن ما ّد ّي أو‬ ‫ّ‬ ‫واإلكليل شعار النرص‪.‬‬

‫الصفة‬

‫معنوي‪ :‬فاألجنحة‬ ‫هي حقيقة أو صورة تصلح أن تكون عالمة مميّزة لشخصيّة وملجموعة ولكائن‬ ‫ّ‬ ‫صفة لرشكة طريان‪ ،‬والعجلة صفة رشكة السكك الحديديّة‪ ،‬والهراوة صفة الج ّبار‪ ،‬وامليزان صفة‬ ‫الكل‪.‬‬ ‫خاص للتعبري عن ّ‬ ‫العدل‪ .‬وعىل هذا النحو ت ّم اختيار ملحق ّ‬

‫الصوري‬ ‫املجاز‬ ‫ّ‬

‫برشي يف الغالب‪ ،‬لك ّنه أحيانًا حيوا ّين أو نبا ّيت إلنجاز ما‪ ،‬لوضع ّية ومليزة‪ ،‬أو‬ ‫هو تصوير يف شكل‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪133 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫الصوري للنرص‪ ،‬وأ ّن قرن الخصب هو مجاز‬ ‫لكائن مج ّرد‪ ،‬مثلام أ ّن امرأة ذات أجنحة هي املجاز‬ ‫ّ‬ ‫صوري لالزدهار‪ .‬ويدقّق «هرني كوربان» (‪ )Henry Corbin‬هذا االختالف األساس بالقول‪« :‬املجاز‬ ‫ّ‬ ‫الصوري عمليّة عقليّة ال تستدعي عبو ًرا ال إىل مستوى جديد للكينونة‪ ،‬وال إىل عمق جديد للوعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بل هو التصوير يف املستوى ذاته من الوعي ملا ميكن أن يكون بطريقة أخرى قد ُعرف معرفة ج ّيدة‪.‬‬ ‫ويعلن الرمز عن مستوى آخر للوعي غري البداهة العقليّة‪ .‬إنّه مفتاح لغز‪ ،‬وهو الطريقة الوحيدة‬ ‫يتعي دو ًما تفكيكه من‬ ‫لقول ما ال ميكن أن يدرك بشكل آخر‪ ،‬إنّه مل ّ‬ ‫يفس بصفة نهائ ّية البتّة‪ ،‬بل ّ‬ ‫جديد شأنه شأن ت َألِ َف ٍة موسيقيّة ال تُف َُّك رموزُها نهائيًّا ولك ّنها تستدعي دامئًا جدي ًدا»‪.‬‬

‫االستعارة‬

‫لفظي‪.‬‬ ‫تع ِق ُد مقارنة بني كائنني أو وضعني من قبيل أ ّن خطابة متكلّم هي إسهاب ّ‬

‫املقايسة‬

‫أساسا‪ ،‬لك ّنها متشابهة يف ميسم ما‪ .‬فليس لغضب الله‬ ‫هي عالقة بني كائنات أو مضامني مختلفة ً‬ ‫مثالً سوى عالقة مقايسة مع غضب اإلنسان‪ .‬إ ّن االستدالل باملقايسة هو مصدر عديد الغلطات‪.‬‬

‫األمارة‬

‫االعتيادي ميكن أن يوحي ببعض االضطراب والخالف‪،‬‬ ‫هي تغيري يف املظاهر أو يف مجرى الكالم‬ ‫ّ‬ ‫بينام تزامن األعراض هو مجموع األمارات التي مت ّيز وض ًعا تط ّوريًّا‪ ،‬وتنبئ مبستقبل عىل قدر من‬ ‫التعي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫املثل‬

‫هو حكاية ذات معنى يف ح ّد ذاتها لك ّنها ُجعلت لتوحي يف ما وراء هذا املعنى املبارش بعربة‬ ‫أخالقيّة كمثل الحبّة الجيّدة املزروعة يف تربات مختلفة‪.‬‬

‫الخرافة الحكم ّية‬

‫ُرضب من خالل وضع ّية متخ َّيلَ ٍة لتمرير درس ما‪.‬‬ ‫هو حكاية َمثَلِ َّي ٌة تعليم ّية وخيال‬ ‫أخالقي‪ ،‬ت ُ‬ ‫ّ‬

‫كل هذه األشكال املص ّورة من التعبري هو كونها عالمات‪ ،‬وكونها ال تتجاوز مستوى‬ ‫إ ّن ما يجمع ّ‬ ‫الداللة‪ .‬إنّها وسائل تواصل يف مستوى املعرفة امل ُ َخيِّلة أو الذهنيّة التي لها دور املرآة‪ ،‬لك ّنها ال‬ ‫الصوري‪« :‬هو رمز ُم َ َّب ٌد»‪.‬‬ ‫تخرج عن إطار التمثيل‪ .‬إنّها يف ما يقول «هيجل» (‪)Hegel‬عن املجاز‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪134 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫ويدقّقه «جيلبار ديران» (‪ )Gilbert Durand‬بالقول‪«:‬هو علم داللة ُميَبَّ ٌس يف علم العالمات»‬ ‫(‪.)15DURS‬‬ ‫اعتباطي يرتك ّ‬ ‫الدال واملدلول غريبني أحدهام‬ ‫ويتاميز الرمز جوهريًّا من العالمة مبا هي اصطالح‬ ‫ّ‬ ‫عن اآلخر (ذات ًا أو موضو ًعا)‪ ،‬بينام يفرتض الرمز تجانسهام يف معنى حركيّة منظِّمة (‪.)20DURS‬‬ ‫ويؤسس «جيلبار ديران» اعتام ًدا عىل أعامل «يونغ» (‪ )Jung‬و«بياجاي» (‪ )Piaget‬و«باشالر» عىل‬ ‫ّ‬ ‫بنية املخيّلة نفسها هذه الحركيّة املنظّمة مبا هي عامل انسجام يف التمثيل‪ .‬ذلك أ ّن املخيّلة «أبعد‬ ‫من أن تكون ملكة لتشكيل الصور‪ ،‬إنّ ا هي ق ّوة ح ّية تح ّرف النسخ الواقع ّية التي يوفّرها اإلدراك‪.‬‬ ‫وتصبح هذه الحيويّة املعيِّنة لألحاسيس أساس الحياة النفسيّة كلّها‪ .‬وميكن أن نقول‪ :‬إ ّن للرمز أكرث‬ ‫معطى اصطناع ًّيا‪ ،‬ولك ّنه يحتفظ بسلطة أساس ّية وعفويّة للصدى» (‪.)20DURS-21‬‬ ‫من مع ًنى‬ ‫ً‬ ‫ويدقّق «باشالر» يف كتابه «شعريّة املكان» هذه املسألة بالقول‪« :‬يدعونا الصدى إىل تعميق‬ ‫وجودنا‪ ،‬إذ هو تحويل للكينونة»‪ .‬إ ّن الرمز مج ِّد ٌد حقًّا‪ ،‬ال يكتفي برتجيع الصدى‪ ،‬وإنّ ا يدعونا إىل‬ ‫تحويل يف العمق كام ستبيّنه الفقرة الرابعة من هذه املق ّدمة‪.‬‬ ‫نرى إذن أ ّن الرموز الجربيّة والرياضيّة والعلميّة ليست هي أيضً ا سوى عالمات تعتني فيها معاهد‬ ‫يعب عن ذاته بالرموز‬ ‫توحيد املقاييس بالجدوى االصطالح ّية عناية فائقة‪ .‬وال وجود لعلم صحيح ّ‬ ‫باملعنى الدقيق للكلمة‪ .‬وتنزع املعرفة املوضوعيّة التي يتح ّدث عنها «جاك مونو» (‪Jacques‬‬ ‫الرمزي يف اللغة حتّى ال يقع االحتفاظ إالّ بالعيار املضبوط‪ .‬ومن‬ ‫‪ )Monod‬إىل استبعاد ما بقي من‬ ‫ّ‬ ‫كل حال‪ ،‬أن نس ّمي رموزًا هذه العالمات التي تستهدف‬ ‫باب الشطط يف الكالم‪ ،‬الذي نتف ّهمه عىل ّ‬ ‫اإلشارة إىل أعداد ُمتَخ َّيلَ ًة وك ّم ّيات سلب ّية واختالفات متناهية الصغر‪ .‬لكن قد ال يكون من الصواب‬ ‫العلمي يفيض إىل الرمز‪ .‬فالرمز مثقل بالحقائق العينيّة‪ ،‬بينام‬ ‫االعتقاد يف أ ّن التجريد املتزايد للكالم‬ ‫ّ‬ ‫التجريد يُف ِر ُغ الرمز ويولّد العالمة‪ ،‬يف حني أ ّن الف ّن يفلت من العالمة ويغذّي الرمز‪.‬‬ ‫وتس ّمى عديد الصيغ العقديّة أيضً ا رموزًا لإلميان‪ .‬فهي ترصيحات رسم ّية وطقس ّية بفضلها‬ ‫يتع ّرف املنتمون إىل عقيدة أو إىل أحد الطقوس أو إىل مجموعة دينيّة بعضهم إىل بعض‪ .‬وقد‬ ‫كان مل ُتع ّبدي «سيبال» (‪ )Cybèle‬و«ميرثا» (‪ )Mithra‬يف العصور القدمية رموزهم ‪ .‬وكذا الشأن‬ ‫مع املسيحيّيني انطالقًا من رمز ال َح َوا ِريّي َني ومختلف املجامع اإلميانيّة كمجمع نيقيّة (‪)Nicée‬‬ ‫املسمة رموزًا‪ .‬وليس لها يف‬ ‫وخليدونية (‪ )Chalcédoine‬وقسطنطين ّية (‪)Constantinople‬‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة بالرمز إذا كانت فقط عالمات للتعارف بني املؤمنني وتعب ًريا عن‬ ‫الحقيقة تلك القيمة‬ ‫ّ‬ ‫حقائق عقيدتهم‪ .‬وهذه الحقائق من طبيعة علويّة بال ّ‬ ‫شك‪ .‬وتُستعمل األلفاظ يف الغالب يف معنى‬ ‫العدد‬

‫(‪135 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫يل‪ .‬لك ّن إعالن العقيدة هذا ليس عىل وجه الرمز البتّة‪ ،‬إالّ إذا أفرغت التعبريات العقديّة من‬ ‫متاث ّ‬ ‫كل داللة أو اختُزِلت يف أساطري‪ .‬لكن إذا ك ّنا نعترب هذه العقيدة ‪ -‬إضافة إىل داللتها املوضوع ّية‬ ‫ّ‬ ‫ مبنزلة مراكز تح ّول ذاتيًّا االنتساب إىل عقيدة و تعلنها ‪ -‬فإنّها تصبح رموزًا لوحدة املؤمنني دالّة‬‫عىل وجهتهم الداخل ّية‪.‬‬ ‫فالرمز إذن يتجاوز كث ًريا مج ّرد كونه عالمة‪ .‬ذلك أنّه يتخطّى الداللة ويتعلّق بالتأويل الناشئ‬ ‫ٍ‬ ‫انفعاالت وفاعليّةً‪ .‬وهو ال ميثّل األشياء متثيالً ما يعتمد التخفّي‬ ‫عن استعداد مسبق‪ .‬إنّه ُم َح ّم ٌَل‬ ‫يتوسل بالبنى الذهن ّية‪ .‬ولهذا‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنّ ا هو كذلك يحقّق األشياء تحقيقًا يعتمد النقض‪ .‬إنّه ّ‬ ‫السبب يقَا َر ُن ب َر ِسيامت(‪ )Schèmes‬عاطفيّة وظيفيّة مح ِّركة حتّى نُظهر جيّ ًدا أنّه يح ّرك بوجه ما‬ ‫الحياة النفس ّية كلّها‪ .‬وحتّى نرسم طابعه املزدوج املمث َِّل والناجع ميكن أن نطلق عليه ‪ -‬اعتباطًا‪-‬‬ ‫مح ّرك الصور‪ .‬و ت ُس ِنده عبارة «صورة»‪ ،‬من جهة صلته بالتمثّل‪ ،‬ويف مستوى الصورة واملتخيّل‬ ‫الذهني للفكرة (أيدوس )‪ .‬وليس معنى هذا أ ّن الصورة الرمزيّة ال تثري‬ ‫عوض أن تض َعه يف املستوى‬ ‫ّ‬ ‫كل الحياة النفسيّة بحيث تضعها‬ ‫ذهني‪ .‬عىل أنّها تبقى مبنزلة املحور الذي تدور حوله ّ‬ ‫أي نشاط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف ح ّيز العمل‪ .‬فعندما ّ‬ ‫تدل عجلة مرسومة فوق ق ّبعة عىل وجود عامل بالسكك الحديديّة فهي‬ ‫ليست سوى عالمة‪ ،‬بينام يختلف األمر عندما تكون يف صلة بالشمس وبالدورات الكونيّة وبتسلسل‬ ‫األبدي‪ ،‬إذ تأخذ العجلة قيمة الرمز‪ .‬لكن بابتعادها‬ ‫األقدار ومبنازل فلك الربوج وبأسطورة العود‬ ‫ّ‬ ‫عن الداللة االصطالحيّة تفتح الصورة الرمزيّة املجال للتأويل الذايتّ‪ .‬ونبقى مع العالمة يف طريق‬ ‫متواصل وآمن‪ :‬ذلك أ ّن الرمز يفرتض قطيعة يف املجال وتقطّ ًعا ومرو ًرا إىل نظام آخر‪ .‬إنّه يندرج يف‬ ‫نظام جديد ذي شُ َع ٍب متع ّددة‪ .‬وما زالت الرموز‪ ،‬وهي معقّدة وغري مح ّددة لك ّنها مو ّجهة وجهة‬ ‫ما‪ ،‬تس ّمى منا َِس َق (‪ )Synthèmes‬أو ُص َو ًرا بديه ّية‪.‬‬ ‫إ ّن األمثلة األكرث حضو ًرا لهذه الرسيامت املح ّركة للصور هي تلك التي يسم ّيها كارل غوستاف‬ ‫يونغ النامذج األصليّة (‪ .)Archétypes‬وميكن أن نُذكّر هنا بتص ّور سيغموند فرويد (‪،)S. Freud‬‬ ‫هو بال شك أكرث تقيي ًدا من تص ّور يونغ لالستيهامات األصل ّية التي قد تكون بُنى استيهام ّية أمنوذج ّية‬ ‫يل‬ ‫يل‪ ،‬خصاء وإغراء)‪ .‬وهو التصور الذي يجده علم النفس التحلي ّ‬ ‫(حياة داخل الرحم‪ ،‬مشهد أص ّ‬ ‫وتفس كون ّية هذه االستيهامات‬ ‫منظ ًِّم للحياة االستيهام ّية مهام كانت التجارب الشخص ّية للمرىض‪ّ .‬‬ ‫حسب فرويد بأنّها قد متثّل إرث ًا منقوالً عن طريق الساللة (‪.)LAPV 157‬‬ ‫وقد تكون النامذج األصليّة عند يونغ مبنزلة مناذج أصليّة ملجموعات رمزيّة منغرسة بعمق يف‬ ‫الزوريخي‪ .‬وتكون‬ ‫النفيس‬ ‫الالوعي الذي قد تك ّونه بصفته بنية وانطباعات حسب عبارة هذا العامل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪136 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫هذه النامذج يف الروح البرشيّة مبنزلة أمناط ُمشَ كّلة سلفًا و ُم َن ّسقَة (تصنيفيّة) ومنظّمة (قصديّة)‪،‬‬ ‫وتتجل النامذج األصل ّية يف صورة بنى‬ ‫ّ‬ ‫أي مجموعات ممثّلة وانفعال ّية ُم َب ْن َينة ذات حرك ّية مك ّونة‪.‬‬ ‫وتعب عن نفسها من خالل‬ ‫نفسيّة شبه كونيّة فطريّة أو موروثة‪ ،‬ويف رضب من الوعي‬ ‫الجمعي‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫خاصة مشحونة بطاقة فائقة‪ .‬وهي ذات دور مح ّرك ومو ّحد وذي أه ّم ّية يف تط ّور الشخص ّية‪.‬‬ ‫رموز ّ‬ ‫يل « إمكانًا شكليًّا إلعادة إنتاج أفكار متشابهة أو عىل األقل متامثلة‬ ‫ويعترب يونغ األمنوذج األص ّ‬ ‫أو رشطًا بنيويًّا مالز ًما للنفس التي لها هي األخرى ‪ -‬بطريقة ما‪ -‬جزء متّصل بالدماغ «(‪JUNH‬‬ ‫تتغي‬ ‫‪ .)196‬لكن ما تشرتك فيه اإلنسانيّة هو تلك البُنى الثابتة وليس الصور الظاهرة التي ميكن أن ّ‬ ‫حسب العصور واألعراق واألفراد‪ .‬وميكن ملجموعة واحدة من العالقات أن تنكشف تحت تن ّوع‬ ‫الصور والحكايات واإلمياءات‪ ،‬كام ميكن لبنية واحدة أن تشتغل ‪ .‬لكن إذا كانت صو ًرا متع ّدد ًة‬ ‫وأل نهمل الحقيقة‬ ‫الفردي‪ّ ،‬‬ ‫قابلة ألن ت ُخت َز َل يف مناذج أصل ّية فينبغي مع ذلك أالّ ننىس توضيبها‬ ‫ّ‬ ‫املعقّدة لهذا اإلنسان كام ُو ِج َد قصد الوصول إىل الطراز املثا ّيل‪ .‬وينبغي أن يَ ْص َح َب اختصا َر الصور‬ ‫تأليفي وذو‬ ‫إدماج ذو طابع‬ ‫األسايس عن طريق التحليل‪ ،‬والذي ينزع منز ًعا ُمكَونِ ًنا‬ ‫الذي يصل إىل‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالفردي‪.‬‬ ‫يل ربط الكو ّين‬ ‫نزعة ُمفَر ِدنة‪ .‬ويعيد الرمز‬ ‫ّ‬ ‫األمنوذجي األص ّ‬ ‫ّ‬ ‫وت ُق َّد ُم األساطري بصفتها نقالً مرسحيًّا لهذه النامذج األصليّة وال َر ِسيامت والرموز‪ ،‬أوللتشكيالت‬ ‫العا ّمة واملالحم والروايات والتخلّقات والنشْ َك ْون ّي ٍ‬ ‫ات (‪ )Cosmogonies‬وأصول اآللهة وحروب‬ ‫العاملقة ض ّد األرباب‪ ،‬والتي تكشف سلفًا سريورة تعقّل‪ .‬ويرى مرسيا إلياد (‪ )Mircea Eliade‬يف‬ ‫لكل عمل ّيات الخلق مهام كان املستوى الذي تجري فيه بيولوج ًّيا‬ ‫األسطورة « ذاك الطرا َز األعىل ّ‬ ‫كان أو نفسيًّا أو ذهنيًّا»‪.‬‬ ‫لكل األفعال البرشيّة الدالة (‪ELIT‬‬ ‫إ ّن وظيفة األسطورة الرئيسة هي تثبيت األمناط املثاليّة ّ‬ ‫رمزي للنزاعات الداخل ّية والخارج ّية التي يقوم بها‬ ‫ّ‬ ‫‪.)345‬‬ ‫وستتجل األسطورة كام لو أنّها مرسح ّ‬ ‫اإلنسان يف مسار تط ّوره بحثًا عن شخصيّته‪ .‬وتُكثّف األسطورة يف حكاية واحدة عد ًدا واف ًرا من‬ ‫الوضع ّيات املامثلة‪ ،‬وتسمح فضالً عن ُص َو ِر َها املح ّركة واملل ّونة – كأنّ ا هي فعالً صور متح ّركة ‪-‬‬ ‫باكتشاف أمناط ثابتة من العالقات‪ ،‬أي بُ ًنى‪.‬‬ ‫وجهتي‬ ‫عىل أ ّن هذه البنى التي تح ّركها الرموز ال تبقى ثابتة‪ ،‬إذ ميكن لحركيّتها أن تتجه‬ ‫ْ‬ ‫متقابلتي‪ .‬وتؤ ّدي طريق التامهي مع اآللهة واألبطال امل ُتَ َخ َّيلَني إىل رضب من االستالب‪ ،‬ومن ث ّم‬ ‫ْ‬ ‫ت ُوصف البنى بكونها فصاميّة األشكال (ج‪ .‬ديران) أو ُمغَا ِي َرة (س‪.‬ليبسكو) (‪ .)S. Lupasco‬وبالفعل‬ ‫هي تسعى إىل جعل الشخص مشاب ًها لآلخر وملوضوع الصورة وإىل مامهاته بهذا العامل املتخ ّيل‬ ‫العدد‬

‫(‪137 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫الحقيقي‪ .‬وعىل عكس ذلك يش ّجع طريق إدماج القيم الرمزيّة التي ترتجم عنها‬ ‫وعزله عن العامل‬ ‫ّ‬ ‫بنى املتخ ّيل عىل التفريد أو عىل النم ّو املتناسق للشخص‪ .‬وتُس ّمى هذه البنى إذًا متشاكالت‬ ‫و ُمجانِسة كأنّها تحثّ الفرد فيها عىل أن يصبح هو ذاتَه عوض أن يتح ّول بطالً أسطوريًّا‪.‬‬ ‫التأليفي لهذا اإلدماج الذي هو متثّل داخل الذات للقيم عوض مامثلتها‬ ‫تبصنا بالطابع‬ ‫وإذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وسنعي تحت‬ ‫بقيم خارج ّية فسننعت هذه البنى بكونها موازنة أوبنى تقابل متوازن (‪.)DURS4‬‬ ‫ّ‬ ‫وسنعي‬ ‫الرمزي من ناحية مجموع العالقات والتأويالت ذات العالقة بالرمز‪ ،‬رمزيّة النار مثالً‪،‬‬ ‫اسم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة بتقليد ما شأن الرمزيّة القبال ّية (‪ )Kabbale‬أو املايا‬ ‫من ناحية أخرى مجموع الرموز‬ ‫ّ‬ ‫النفيس‬ ‫كل من التحليل‬ ‫(‪ )Mayas‬ورمزيّة الفن الروما ّين إلخ‪ ،‬وأخ ًريا ف ّن تأويل الرموز باعتامد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل مسارات الفهم وتقن ّياته (انظر ما ّدة « ُحلْم») التي تك ّون هرمينوطيقا‬ ‫وعلم السالالت املقارن ّ‬ ‫بالرمزي علم الرموز أو نظريّتها مثلام أ ّن الفيزياء هي علم الظواهر‬ ‫حقيقيّة للرمز‪ .‬ونس ّمي أحيانًا‬ ‫ّ‬ ‫مؤسس عىل وجود‬ ‫الطبيع ّية وأ ّن املنطق هو علم العمليات العقل ّية‪ .‬وعلم الرموز هذا علم‬ ‫وضعي َّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤسس عىل جوهر الرمز وعىل‬ ‫يل َّ‬ ‫الرموز وعىل تاريخها وقوانينها الفعليّة‪ ،‬بينام الرمزيّة علم تأ ّم ّ‬ ‫نتائجه املعياريّة‪.‬‬ ‫سجلت أساس ّية مي ّيزها يف مجال علم‬ ‫الرمزي حسب جاك الكان (‪ )J. Lacan‬هو أحد ثالثة ّ‬ ‫إ ّن‬ ‫ّ‬ ‫الرمزي يشري إىل نظام الظواهر التي يهت ّم بها علم‬ ‫يل من املتخيّل والواقع‪« :‬ذلك أ ّن‬ ‫ّ‬ ‫النفس التحلي ّ‬ ‫يل من حيث هي مبن ّية بوصفها لغة» (‪ .)LAPV 474‬أ ّما الرمزيّة عند سيغموند‬ ‫النفس التحلي ّ‬ ‫فرويد فهي مجموع الرموز ذات الداللة الثابتة والتي ُيكن أن تُوجد يف مختلف إنتاجات الالوعي‬ ‫‪.‬ويلح فرويد إلحا ًحا متزاي ًدا عىل العالقة بني الرامز واملرموز إليه‪ ،‬يف حني ينظر جاك‬ ‫(‪ّ )LAPV 475‬‬ ‫الكان يف بَ ْنيَ َنة الرمز وترتيبه‪ ،‬أي يف وجود نظام رمزي يُبَ ْن ُني الواقع بني البرش‪ .‬وكان كـلود ليفي‬ ‫سرتوس‪ ) C.Lévi-Strauss‬قد استخرج مفهو ًما مامثالً يف الدراسة األنرثوبولوج ّية لألفعال الثقاف ّية‪،‬‬ ‫كل ثقافة مبنزلة مجموع أنظمة رمزيّة يف املقام األ ّول منها اللغة وقواعد‬ ‫فكتب يقول‪« :‬ميكن اعتبار ّ‬ ‫الحياة الزوج ّية والعالقات االقتصاديّة والف ّن والعلم والدين» (نفسه ‪.)475‬‬ ‫أخ ًريا تُ َع َّر ُف النظريّة الرمزيّة بكونها مدرسة ثيولوج ّية تفسرييّة فلسف ّية أو جامل ّية ال يكون ‪-‬‬ ‫َحسبها‪ -‬للنصوص الدينيّة ولآلثار الفنيّة داللة حرفيّة أو موضوعيّة‪ ،‬ولن تكون سوى تعبريات رمزيّة‬ ‫وذات ّية لإلحساس والتفكري‪ .‬ويستعمل هذا املصطلح كذلك ليعني قدرة صورة أو واقع عىل أن‬ ‫يقوم مقام الرمز‪ :‬فمثالً تتميّز النظريّة الرمزيّة للقمر من الرمزيّة التي أرشنا إليها سلفًا يف ما يتعلّق‬ ‫باحتوائها عىل مجموع العالقات والتأويالت الرمزيّة التي يوحي بها القمر فعالً بينام ال تستهدف‬ ‫العدد‬

‫(‪138 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫أساسا ممك ًنا للرموز‪ .‬وعندما نتح ّدث كذلك عن‬ ‫النظريّة الرمزيّة إال ّ‬ ‫خاصيّة عامة للقمر بصفته ً‬ ‫أقل تعيي ًنا ملجموع الرموز املستوحاة‬ ‫النظريّة الرمزيّة الهندوس ّية واملسيح ّية واإلسالم ّية فإ ّن األمر ّ‬ ‫من هذه األديان منه إىل التص ّور العا ّم الذي تك ّونه هذه األديان عن الرمز وعن استعامله‪ .‬ومن‬ ‫النفيس‬ ‫املمكن أيضً ا تنسيب هذه التدقيقات اللفظ ّية‪ .‬عىل أنّها تكفي إلشعارنا بطرافة الرمز وبرثائه‬ ‫ّ‬ ‫الذي ال يقارن‪.‬‬

‫‪ .3‬طبيعة الرمز الح ّية وغري القابلة للتعريف‬

‫رأينا كيف يتم َّيز الرمز من مج ّرد العالمة‪ ،‬وكيف يغذّي مك ّونات املتخ ّيل الكربى والنامذج‬ ‫األصليّة واألساطري والبُ َنى‪ .‬ولن نتوقّف أكرث عند هذه القضايا املصطلحيّة عىل أهميّتها‪ .‬ويجدر بنا‬ ‫نتقص طبيعة الرمز ذاته‪.‬‬ ‫أن ّ‬ ‫نصفي‪ِ ،‬قطَ ًعا من الخزف أو الخشب أو املعدن‪ .‬ويحتفظ شخصان‬ ‫إ ّن الرمز يف األصل يشء ق ُِس َم ْ‬ ‫شخصي سيفرتقان طويالً‪ .‬وعند التقريب‬ ‫ضيفي كانا أو دائ ًنا و َم ِدي ًنا أو حا َّج ْي أو‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫كل منهام بجزء‪ْ ،‬‬ ‫بينهام سيق ّران الحقًا طبيعة العالقة التي كانت تربطهام سواء كانت عالقة ضيافة أو َديْن أو‬ ‫صداقة‪ .‬وكانت الرموز أيضً ا عند قدماء اليونان عالمات تعارف تسمح لألولياء بالتع ّرف عىل أبنائهم‬ ‫املعروضني للبيع‪ .‬ث ّم ات ّسع املصطلح عن طريق القياس ليشمل الشارات التي متكّن صاحبها من‬ ‫وكل عالمة عىل االنتامء والتك ّهن باملصري واالتفاقات‪ .‬إ ّن الرمز‬ ‫تسلّم الرواتب أو املنح أو املعاشات‪ّ ،‬‬ ‫يف ّرق ويجمع‪ ،‬وهو ينطوي عىل معن َي ْي الفصل والوصل‪ ،‬ويُشري إىل جامعة قد انقسمت ولكن ميكن‬ ‫أن تتشكّل من جديد‪ .‬ويحمل كل رمز نصيبًا من عالمة منشطرة‪ .‬وينكشف معناه يف ما هو يف اآلن‬ ‫املنفصلي‪.‬‬ ‫ذاته انشطار ووصل لطرفَ ْيه‬ ‫ْ‬ ‫كل يشء ميكن أن يكتسب قيمة رمزيّة سواء كان طبيع ًّيا (أحجا ًرا أو‬ ‫ويشهد تاريخ الرمز بأ ّن ّ‬ ‫معادن أو أشجا ًرا أو أزها ًرا أو مثا ًرا أو حيوانًا أو ينابيع أو أنها ًرا أو محيطات أو جباالً وأودية أو‬ ‫رقم أو إيقا ًعا أو فكرة‪ ،‬وما‬ ‫كواكب أو نا ًرا أو صاعقة‪ ،‬وغريها‪ )...‬أو مج ّر ًدا (شكالً هندس ًّيا أو ً‬ ‫سواها‪ .)...‬وميكن أن نفهم هنا مع «بيار إميانيوال» (‪ )Pierre Emmanuel‬أ ّن «اليشء» ال يقترص‬ ‫لم أو نظا ًما من املسلّامت‬ ‫عىل كائن أو يشء واقعيني فقط وإنّ ا يعني نزعة أو صورة وسواس ّية أو ُح ً‬ ‫وكل ما يثبّت الطاقة النفسيّة أو يح ّركها لفائدته يح ّدثني عن‬ ‫املتميّزة أو مفردات مألوفة وغريها‪ّ .‬‬ ‫الكائن بأصوات متع ّددة ومبستويات مختلفة وبصيغ شتى بواسطة األشياء املتن ّوعة التي سأتب ّينها‪،‬‬ ‫إن انتبهت‪ ،‬إىل أنّها تتاىل يف خاطري عن طريق التح ّول (‪ .)ETUP 79‬وهكذا يتأكّد الرمز بصفته‬ ‫طرفًا ميكن إدراكه ظاهريًّا وميثّل طرفه اآلخر ما ال ميكن إدراكه‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪139 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫يعب الرمز بطريقة غري مبارشة أو مجازيّة يصعب ّ‬ ‫فك رموزها عن الرغبة أو النزاعات‪.‬‬ ‫فرويديًّا ّ‬ ‫الخفي لسلوك أو لفكرة أو لقول‪.‬‬ ‫فالرمز هو العالقة التي تجمع بني املحتوى الظاهر واملعنى‬ ‫ّ‬ ‫يعب‬ ‫يحل أحدهام ّ‬ ‫األقل لسلوك ما ّ‬ ‫معنيي عىل ّ‬ ‫ومبج ّرد أن نق ّر بوجود‬ ‫محل اآلخر بأن يح ُجبَه أو ّ‬ ‫ْ‬ ‫عنه يف اآلن نفسه ميكننا أن ننعت هذه العالقة بالرمزيّة (‪ .)LAPV 477‬وتتم ّيز هذه العالقة بيشء‬ ‫من التالزم بني العنارص الظاهرة والخفيّة للرمز‪ .‬ويرى غري واحد من املحلّلني النفسانيّني أ ّن املرموز‬ ‫إليه غال ًبا ما يكون الشعوريًّا‪ .‬وقد كتب «س‪ .‬فرنكزي» (‪ )S. Ferenczi‬يقول‪« :‬ليست كل املقارنات‬ ‫رموزًا‪ ،‬لكن فقط تلك املقارنات التي يكون الطرف األ ّول فيها كام ًنا يف الالوعي (نفسه)‪ .‬والحاصل‬ ‫أقل رمزيّ ًة و أكرث وضو ًحا‪ .‬وقد ال‬ ‫أقل كبتًا لغرائزه من الراشد فإ ّن ُحلْمه يكون ّ‬ ‫أنّه مل ّا كان الطفل ّ‬ ‫يكون الحلم دامئًا وبشكل كامل رمزيًّا‪ .‬وتتن ّوع طرائق تفسريه وفق الحاالت بحيث تلجأُ أحيانًا إىل‬ ‫مج ّرد الربط وأحيانًا أخرى إىل الرمز باملعنى الدقيق للكلمة‪.‬‬ ‫األصح صورة‬ ‫ويرى يونغ أنّه من املؤكّد أ ّن الرمز ليس مجازًا وال مج ّرد عالمة‪ ،‬إنّ ا هو عىل‬ ‫ّ‬ ‫خالصة تح ّدد عىل أفضل وجه طبيعة الذهن التي يتلبّس علينا أمر تخمينها‪ .‬ولْ ُن َذكِّر بأ ّن الذهن‬ ‫يف معجم املحلّل النفيس يشمل الوعي والالوعي‪ ،‬ويكثّف إنتاجات اإلنسان الدين ّية واألخالق ّية‬ ‫والخالّقة والجامليّة‪ ،‬ويل ّون كافّة أنشطة الكائن الفكريّة وامل ُ َخيِّلَة والعاطفيّة‪ ،‬ويتعارض بصفته مبدأً‬ ‫مك ِّونًا مع الطبيعة البيولوج ّية‪ ،‬ويُحافظ يف حالة يقظة دامئة عىل توت ّر األضداد الذي هو أساس‬ ‫يفس إنّ ا يحيل عىل‬ ‫حياتنا النفسيّة (‪ .)J.Jacobi‬ويواصل يونغ مدقّقًا أ ّن الرمز ال يتض ّمن شيئًا وال ّ‬ ‫ما يتخطّاه بات ّجاه معنى مازال يف املاوراء‪ ،‬مع ًنى يتعذّر إدراكه ويصعب استشعاره إىل درجة أنّه‬ ‫ُعب عنه بشكل ٍ‬ ‫ضاف (‪ .)Junp92‬ولكن خالفًا‬ ‫ال ميكن ّ‬ ‫ألي كلمة يف اللسان الذي نستعمل أن ت ّ‬ ‫ّوي (فرويد) ال يعترب يونغ الرموز أقنعة ألشياء أخرى إنّ ا هي نتاج الطبيعة‪ .‬وبالتأكيد‬ ‫للمعلّم الفيان ّ‬ ‫ال تخلو هذه التجلّيات من معنى‪ ،‬ولك ّن ما تُخفيه ليس بالرضورة موضوع رقابة قد يعاود الظهور‬ ‫يف شكل مستعار لصورة رمزيّة‪ .‬وقد ال تكون هذه الصورة سوى أمارة عىل وضع ّية خالف ّية عوض‬ ‫كل احتامالتها‪ .‬وتتأكّد قيمة الرمز يف تجاوز املعلوم إىل‬ ‫تعب عن نزعة النفس الطبيعيّة لتحقيق ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫واملعب عنه إىل ما ال يوصف‪ .‬وميوت الرمز إذا ُع َ‬ ‫الخفي يو ًما ما‪ « .‬ويُع ّد رمزيًّا‬ ‫رف فيه الح ّد‬ ‫املجهول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التص ّور الذي بتجاوزه كل تأويل ُمتص ّور يعترب الصليب تجسي ًدا لحدث مازال مجهوالً وغري قابل‬ ‫للفهم‪ ،‬وروحا ّين أو متعا ٍل‪ ،‬ومن ث َّم هو حدث نفيس يف املقام األ ّول حتّى إنّه يستحيل متثّله مبنتهى‬ ‫الدقّة إالّ بالصليب‪ .‬وما دام رمز ما حيًّا فه ُو أفضل وسيلة ممكنة للتعبري عن حدث ما‪ .‬وهو ليس‬ ‫ح ًّيا إالّ بقدر ثراء داللته‪ .‬ولتظهر هذه الداللة للعيان أو بعبارة أخرى حتّى نجد التعبري األفضل‬ ‫لتأدية اليشء املنشود وغري املنتظر أو املتوقّع فإ ّن الرمز ميوت ومل تعد له إال قيمة تاريخيّة (‪JUNT‬‬ ‫الذهني والفائدة الجامل ّية فحسب‪ ،‬وإنّ ا‬ ‫يظل الرمز ح ًّيا عليه أالّ يتجاوز اإلدراك‬ ‫‪ .)492‬ولكن حتى ّ‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪140 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫الحي هو الذي يعتربه املشاهد التعبري األسمى ملا‬ ‫عليه أن يُوجد نو ًعا من الحياة‪ .‬فالرمز الوحيد ّ‬ ‫يُستشع ُر لكن مل يُعرتف به بعد‪ .‬إنّه إذًا يحثّ الالشعور عىل املشاركة‪ .‬ذلك أنّه ينطوي عىل الحياة‬ ‫ويحفّز عىل تط ّورها‪ .‬ولْ ُنذكّر مبا قاله «فاوست» (‪« :)Faust‬كم تؤث ّر ّيف هذه العالمة بشكل آخر‪...‬‬ ‫إنّها ت ُح ّرك يف ّ‬ ‫كل م ّنا ال َوت َ َر املشرتك»‪.)JUNT 494( .‬‬ ‫وقد أجمل « ُرو دو بيكار» (‪ )R. de Becker‬مظاهر الرمز املختلفة‪ .‬ذلك أنّه ميكن مقاربته‬ ‫حي‬ ‫ببلّور يعكس الضوء بطرائق مختلفة حسب الوجه الذي يتلقّاه‪ .‬وميكن أن نقول أيضً ا إنّه كائن ّ‬ ‫واملتغي‪ ،‬حتّى إنّنا عندما نتأ ّمله ونتناوله موضوع تفكّر نتدبّر أيضً ا املسار‬ ‫وجزء من وجودنا املتح ّرك‬ ‫ّ‬ ‫الخاص الذي نتهيأ الت ّباعه ومنسك بات ّجاه الحركة التي تعصف بالكائن (‪.)BECM 289‬‬ ‫ّ‬ ‫إ ّن إعادة االعتبار لقيم الرمز ال تعني املناداة بذاتانيّة جامليّة أو عقديّة‪ ،‬وال تعني البتّة أن نج ّرد‬ ‫الفني من عنارصه الفكريّة ومن ميزاته يف التعبري املبارش‪ ،‬وال أن نج ّرد العقائد والوحي من أسسها‬ ‫األثر ّ‬ ‫التاريخيّة‪ .‬ويستم ّر الرمز يف التاريخ‪ .‬فهو ال يلغي الواقع وال يستبعد العالمة‪ ،‬بل يضيف إليهام بُع ًدا وبروزًا‬ ‫وعموديّةً‪ .‬ويُ ِقي ُم انطالقًا منها فعالً وموضو ًعا وعالم ًة وعالقات ما فوق عقل ّية ومخ َّيلَة بني مستويات‬ ‫وفمنستال» (‪Hugo Von‬‬ ‫الوجود وبني عوامل الكون اإلنسانيّة واإلالهيّة‪ .‬وعىل ح ّد قول «هيغ ُو فون ُه ْ‬ ‫القريب ويق ِّرب البعيد بطريقة تجعل اإلحساس يدرك هذا وذاك»‪.‬‬ ‫‪ « :)Hofmannstal‬يُ ْب ِع ُد الرمز‬ ‫َ‬ ‫األريض ولالمتناهي يتب ّدى بكل ّيته لإلنسان ولعقله‬ ‫والرمز بصفته مقولة متعالية للعل ّو وملا فوق‬ ‫ّ‬ ‫كام ل ُروحه‪ .‬ويؤكّد مرسيا إلياد أ ّن النظريّة الرمزيّة معطًى مبارش للوعي بتاممه‪ ،‬أي لإلنسان الذي‬ ‫يكتشف نفسه إنسانًا‪ ،‬ولإلنسان الذي يعي منزلته يف الكون‪ .‬وتتصل هذه املكتشفات األساس ّية‬ ‫اتصاالً عضويًّا متي ًنا مبأساته حتّى إ ّن النظريّة الرمزيّ ُة نفسها تح ّدد نشا َط شعوره الباطن و أنبل‬ ‫تعابري حياته الروح ّية عىل ح ّد سواء (‪.)ELIT 47‬‬ ‫ويستبعد إدراك الرمز إذا ً دور املشاهد البسيط‪ ،‬ويتطلّب مشاركة الفاعل فيه‪ .‬وال يوجد الرمز إال‬ ‫الحسيّة تجربة ملموسة‬ ‫يف مستوى الذات‪ ،‬ولكن عىل أساس املوضوع‪ .‬وتستدعي املواقف واملدارك ّ‬ ‫وكل يرى فيه ما متكّنه قدراته‬ ‫ال عمل ّية َم ْف َه َمة‪ .‬وأه ّم مم ّيزات الرمز املحافظة الدامئة عىل اإليحاء‪ّ .‬‬ ‫البرصيّة من إدراكه‪ .‬فعىل قدر تع ّمقنا يف اليشء يكون إدراكنا له (‪.)WIRT 111‬‬ ‫حل الرموز إىل أعامق‬ ‫ومثلام أ ّن الرمز مقولة للعل ّو فهو أيضً ا إحدى مقوالت الالمر ّيئ‪ .‬ويقودنا ّ‬ ‫الروح الجوهريّة التي يتعذّر سرب أغوارها عىل ح ّد قول «كيل»(‪ ،)Klee‬أل ّن الرمز يضيف إىل الصورة‬ ‫العدد‬

‫(‪141 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫فصل «جان رسفياي» (‪ )Jean Servier‬القول يف‬ ‫املرئيّة نصيب الالمر ّيئ الذي يعرس إدراكه‪ .‬وقد ّ‬ ‫هذه الوجهة من النظر يف كتابه اإلنسان والالمر ّيئ (‪.)SERH‬‬ ‫الحس املبارش عن طريق‬ ‫وال يتعلّق فهم الرموز بالعلوم العقل ّية بقدر تعلّقه برضب من اإلدراك ّ ّ‬ ‫الوعي‪ .‬ومن املؤكّد أ ّن بحوث ًا تاريخيّة ومقارنات بني الثقافات ودراسة تأويالتها املتأتّية من التقاليد‬ ‫أقل خضو ًعا‬ ‫النفيس قد أسهمت يف جعل فهم الرموز ّ‬ ‫الشفويّة واملكتوبة وكذلك من ضوابط التحليل‬ ‫ّ‬ ‫للصدفة‪ .‬ولك ّنها قد تنزع بال موجب إىل تجميد داللتها إذا مل نركّز عىل طابع املعرفة الرمزيّة الشامل‬ ‫والنسبي واملتح ّرك وامل ُفَر ِدن‪ .‬إنّها تفيض دامئًا عن ال َر ِسيامت واآلل ّيات واملفاهيم والتمثّالت التي‬ ‫ّ‬ ‫تسندها‪ .‬فهي ليست مكتسبة بصفة نهائيّة وال متامثلة للجميع‪ ،‬ومع ذلك ال تلتبس البتّة بغري‬ ‫التغيات غري املحدودة‪ .‬وليست‬ ‫املح ّدد املحض والبسيط‪ .‬إنّها تعتمد عىل رضب من املوضوعات ذات ّ‬ ‫ِب ْنيَتُها ثابت ًة ولك ّنها فعليًّا موضوعاتيّة‪ .‬وميكن أن نقول يف شأنها ما قاله «جان الكروا» عن الوعي يف‬ ‫معرض حديثه عن مفارقات الوعي وحدود الالإراديّة «لرميون رويار» (‪« .)Raymond Ruyèr‬إنّها‬ ‫املفصلة بدل أن تجعلها يف مجموعة مرتابطة أش ّد الرتابط‪ .‬وميكن‬ ‫ت ّحول العالمات حسب املوضوعات ّ‬ ‫أن نطلق عليها خامتة تأليف ّية»‪ .‬ويضيف قائالً‪« :‬تكمن مفارقة قصديّة الوعي يف كونها استباقًا رمزيًّا‬ ‫للمستقبل»‪ .‬وميكن أن نك ّمل الصورة فنقول‪ « :‬إ ّن غائيّة الرمز هي يف وعي الكائن يف كل أبعاد‬ ‫الزمان واملكان ويف انعكاسها يف املاوراء‪ .‬والحياة أثقل معنى من مجموعة الفائسني» [الض ّباط الذين‬ ‫يتق ّدمون القضاة الرومان قدميًا حاملني قضبانًا عىل رؤوسها فؤوس لفرض القانون]‪.‬‬ ‫ويتجاوز الرمز كذلك معايري العقل املحض دون أن يقع ج ّراء ذلك يف العبث‪ .‬فهو ال يبدو مثرة‬ ‫ناضجة لخالصة منطق ّية بعد برهنة ال نقيصة فيها‪ .‬وال يقدر التحليل الذي يج ّزئ ويُلغي متا ًما عىل‬ ‫يتوصل الحدس دامئًا إىل ذلك‪ .‬ويجب أن يكون هذا الرمز تأليفيًّا وعىل غاية‬ ‫إدراك ثراء الرمز‪ .‬وال ّ‬ ‫من الكامل وجذّابًا‪ ،‬أي أن يتقاسم رؤية للعامل ويستشعرها‪ .‬ذلك أ ّن من مزاياه الرتكيز عىل حقيقة‬ ‫سهم‪ ،‬وكل القوى التي تستحرضها هذه الصورة وأمثالها‬ ‫البداية قم ًرا كانت أو ثو ًرا أو زنبقة ماء أو ً‬ ‫وكل رمز هو مبنزلة كون صغري بل عامل‬ ‫يف مستويات الكون كلّها ويف مستويات اإلحساس جميعها‪ّ .‬‬ ‫بأكمله‪ .‬وال ميكن إدراك معناه اإلجام ّيل برتاكم التفاصيل التي يوفّرها التحليل‪ ،‬فذلك يتطلّب نظرة‬ ‫قمري أو ما ّيئ لكل‬ ‫شاملة‪ .‬ومن أه ّم خاص ّيات الرمز تزامن املعاين التي يبوح بها‪ .‬ويصلح رمز‬ ‫ّ‬ ‫مستويات الواقع‪ .‬ويتزامن اإليحاء بتع ّدد هذا الصالح‪)Elit 378 (.‬‬ ‫ويف خرافة «بول» (‪ )Peule‬بكيدرا (‪ )kaydara‬يقول العجوز املتس ّول (املسا ّري)‬ ‫اثني أو‬ ‫الحاج الباحث عن الحقيقة)‪ « :‬تعلّم يا أخي أنّ ّ‬ ‫لحمدي (‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل رمز معنى أو ْ‬ ‫العدد‬

‫(‪142 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫يل‪ .‬أ ّما النهاريّة فنافعة‪ ،‬وأ ّما الليليّة فضا ّرة»‪.‬‬ ‫أكرث‪ ،‬وهذه املعاين منها‬ ‫ّ‬ ‫النهاري ومنها اللي ّ‬ ‫( ‪)Hamk,56‬‬ ‫وقد أوضح «تزفيتان تودوروف» (‪ )Tzvetan Todorov‬بجالء أنّه تحدث يف الرمز ظاهرة كثافة‪،‬‬ ‫قائالً‪« :‬إ ّن داالًّ واح ًدا يُفيض بنا إىل معرفة أكرث من مدلول‪ ،‬أو ببساطة أكرث إ ّن املدلول أَ ْوفَر من‬ ‫ّ‬ ‫الدال»‪ .‬ويستشهد بقول «كروزر» (‪ )Creuzer‬عامل امليثيولوجيا يف الحقبة الرومنطيق ّية‪ ،‬والذي إليه‬ ‫يعود الفضل يف إحياء الوعي بالرموز التي ج ّمدتها مطامح العقل إىل الهيمنة الفكريّة‪»:‬يكشف‬ ‫الرمز عن عدم تالؤم الكائن مع الشكل وعن طغيان املحتوى عىل تعبريته» (‪.)TODS 291‬‬ ‫ويحتوي الرمز من جملة خصائصه ومن جهة تع ّدد أشكاله وتعبرياته عىل ثبات اإليحاء بوجود‬ ‫تعب عن املامثلة الظاهريّة‬ ‫عالقة بني الرامز واملرموز إليه‪ .‬فالكأس املقلوبة الرامزة إىل السامء ال ّ‬ ‫كل ما توحي به السامء لالوعي يف اآلن ذاته من أمان وحامية‪ ،‬ومن‬ ‫للصورة نفسها‪ ،‬ولكن عن ّ‬ ‫منزل للكائنات ال ُعلويّة ومن مصدر ازدهار وحكمة‪ .‬وسواء استعار هذا الثبات شكل قبّة يف كنيسة‬ ‫أو يف جامع‪ ،‬أو شكل خيمة عند الظاعنني ال ُر ّحل‪ ،‬أو مخبإ بُ ِن َي من الخرسان يف الخطوط الدفاع ّية‬ ‫فإ ّن العالقة الرمزيّة تبقى مستق ّرة بني الطرفني‪ ،‬ال ُقبَّة والسامء‪ ،‬مهام كانت درجة اإلدراك واملنافع‬ ‫املبارشة املستفادة منها‪.‬‬ ‫وللرموز خاص ّية أخرى تتمثّل يف تداخلها بحيث ال يُوجد بينها حاجز عازل‪ .‬ومث ّة عىل الدوام‬ ‫الرمزي من التشبّث باملواقف الصارمة‬ ‫عالقة ممكنة بني هذا وذاك‪ .‬وال يشء أكرث غرابة عىل الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الجوهري (‪JUNR‬‬ ‫أو «مببدإ الثالث املرفوع»‪ .‬ومتتلك املضامني الرمزيّة ما يُس ّميه يونغ التجانس‬ ‫ّ‬ ‫‪ .)147‬ونعتقد أ ّن هذا التجانس يكمن يف عالقة ‪ -‬من حيث األشكال واألسس املتع ّددة ‪ -‬باملتعايل‪،‬‬ ‫صورتي أو‬ ‫ويتأسس رمز ما افرتاض ًّيا مبج ّرد ظهور صلة بني‬ ‫أي يف حرك ّية تصاعديّة ذات قصديّة‪ّ .‬‬ ‫ْ‬ ‫مؤسسة‪.‬‬ ‫يل أو غري ّ‬ ‫حقيقتي أو عالقة تراتبيّة ما ّ‬ ‫ْ‬ ‫مؤسسة عىل تحليل عق ّ‬ ‫تعب بالفعل عن عالقات من قبيل أرض‪-‬سامء‪ ،‬فضاء‪-‬‬ ‫وتكون الرموز دامئًا متع ّددة األبعاد إذ ّ‬ ‫زمان‪ ،‬محايث‪-‬متعال مثل الكأس املو ّجهة نحو السامء أو األرض‪ .‬وهذه ثنائ ّية قُطب ّية أوىل‪ .‬ومث ّة‬ ‫أخرى تتمثّل يف التأليف بني األضداد‪ ،‬إذ أ ّن للرمز وج ًها نهاريًّا وآخر ليليًّا‪ .‬وعالوة عىل ذلك فإ ّن‬ ‫تعب عن نفسها أيضً ا بالرموز‪ .‬و قد تكون من الدرجة الثانية‬ ‫للعديد من هذه األزواج أوجه تشابه ّ‬ ‫قياسا إىل الكأس منفردة‪ .‬وعوض أن ترتكز عىل مبدإ‬ ‫مثل املشكاة أو القبّة املرتكزة عىل قاعدتها ً‬ ‫الثالث املرفوع عىل غرار املنطق التص ّوري تفرتض الرمزيّة خالفًا لذلك مبدأَ الثالث املتض ّمن‪ ،‬أي‬ ‫العدد‬

‫(‪143 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫كائني أو‬ ‫وجود تكامل ممكن بني الكائنات وتضامن كو ّين يُ ْد َركان يف الواقع املحسوس للعالقة بني ْ‬ ‫مجموعتي من الكائنات أو أكرث‪ .‬ويُفرتض يف الرمز املتع ّدد األبعاد قابل ّيته لعدد ال ينتهي منها‪ .‬ومن‬ ‫ْ‬ ‫يدرك عالقة رمزيّة يجد نفسه يف مركز الكون‪ .‬وال يوجد الرمز إال لفرد أو ملجموعة يتامثل أفرادها‬ ‫يف وجه من الوجوه لتكوين مركز واحد‪ .‬و الكون كلّه يتمحور حول هذا املركز‪ .‬ولهذا السبب ال‬ ‫تعدو الرموز األكرث قداس ًة عند مجموعة ما أن تكون أشياء مدنّس ًة عند اآلخرين‪ .‬ويكشف هذا‬ ‫األمر بوضوح عمق اختالف مفاهيمهام‪ .‬ويضعنا إدراك الرمز وتجلّيه بالفعل وسط عامل روحا ّين ما‪.‬‬ ‫وينبغي أالّ نفصل البتّة بني الرموز ومالزمتها الوجوديّة كام ينبغي أالّ ننزع عنها الهالة املضيئة التي‬ ‫تكشّ فت لنا هذه الرموز وسطها‪ ،‬ومثال ذلك سكون الليايل املق ّدس يف وجه ق ّبة السامء الشاسعة‬ ‫املهيبة والفتّانة (‪ .)CHAS 49‬ويرتبط الرمز بتجربة ُمكَل ِي َنة‪ .‬وال ميكن أن ندرك قيمته ما مل نتنقّل‬ ‫بالفكر إىل املحيط العام الذي يعيش فيه حقيقة‪ .‬وقد وضّ ح كل من «جريار دو شامبو» (‪Gérard‬‬ ‫الخاصة للرموز‪ « .‬ذلك أنّها‬ ‫‪ )de Champeaux‬و» دوم ستارك»(‪ )Dom Sterckx‬هذه الطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫تكثّف يف بؤر ِة صور ٍة واحد ٍة تجرب ًة روحان ّية بأكملها‪ .‬وهي تتجاوز األمكنة واألزمنة والوضع ّيات‬ ‫وكل اإلمكانات املحتملة‪ ،‬وتوائم بني الحقائق األكرث تناف ًرا يف الظاهر بإرجاعها جمي ًعا إىل‬ ‫الشخصيّة ّ‬ ‫حقيقة واحدة أكرث عمقًا متثّل م ّربر وجودها األخري» (نفسه ‪ .)202‬أال متثّل هذه الحقيقة العميقة‬ ‫الروحي الذي يتامهى معه أو يشارك فيه كل من يدرك قيمة الرمز؟‪ .‬ويكون للرمز وجود‬ ‫املركز‬ ‫ّ‬ ‫أي مكان‪.‬‬ ‫قياسا إىل هذا املركز الذي ال وجود ملحيطه يف ّ‬ ‫ً‬

‫الرمزي ووظائفه‬ ‫‪ .4‬الحراك‬ ‫ّ‬

‫الحي الذي يصدر من الوعي اإلنسان الخالّق ومحيطه وظيفة مالمئة كل املالءمة‬ ‫يؤ ّدي الرمز ّ‬ ‫للحياة الشخص ّية واالجتامع ّية‪ .‬ومع أ ّن هذه الوظيفة متارس بصفة إجامل ّية فسنسعى إىل تحليلها‬ ‫لنستجيل منها ثراء الحراك وتع ّدد وجوهه‪ .‬ولكن ال ننىس أن نجمع بعد ذلك يف نظرة تأليفيّة‬ ‫مختلف هذه املظاهر حتى نُعيد إىل الرموز طابعها املم ّيز الذي يتعارض مع التجزئة املفهوم ّية‪.‬‬ ‫أي تراتبيّة‬ ‫وإذا كان علينا أن نتّبع نظا ًما ما يف هذا العرض‬ ‫النظري فإ ّن هذا العرض ال يعني ّ‬ ‫ّ‬ ‫حقيق ّية‪ ،‬بل إنّه سيزول يف وحدة الواقع‪.‬‬ ‫‪.1‬ميكن أن نقول إ ّن وظيفة الرمز األوىل استكشاف ّية مثلها كمثل رأس باحثة أُلْ ِق َي بها يف املجهول‪،‬‬ ‫فهي ت ِج ُّد يف التعبري عن معنى املغامرة الروحيّة للناس ال ُملْقَى بهم عرب املكان والزمان‪ .‬وفعالً هو‬ ‫ميكّننا من اإلدراك بطريقة ما لعالقة ال يستطيع العقل تحديدها أل ّن أحد طرف ْيها معلوم واآلخر‬ ‫وس ُع الرمز حقل الوعي إىل مجال يستحيل تحديد مقاساته بدقّة‪ .‬وميثّل ولوجه نو ًعا‬ ‫مجهول‪ .‬ويُ ّ‬ ‫من املغامرة والتح ّدي‪ .‬فام نُس ّميه رم ًزا حسب «يونغ» هو كلمة أو اسم أو صورة‪ ،‬حتى إن ك ّنا‬ ‫العدد‬

‫(‪144 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫االصطالحي‬ ‫متع ّودين عليها يف الحياة اليوميّة‪ ،‬فإ ّن لها مع ذلك معاين ضمنيّة تضاف إىل مدلولها‬ ‫ّ‬ ‫خفي ع ّنا‪ .‬وعندما يستكشف العقل رم ًزا‬ ‫والبديهي‪ .‬وينطوي الرمز عىل يشء غامض أو مجهول أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫فإ ّن ذلك يفيض به إىل أفكار تقع يف مجال يتجاوز ما يدركه عقلنا‪ :‬فيمكن لصورة ال َع َجلَة مثال أن‬ ‫ت ُوحي إلينا مبفهوم الشمس اإلاله ّية‪ ،‬لكن عند هذا الح ّد يعلن تفكرينا عن قصوره أل ّن اإلنسان غري‬ ‫إالهي‪ .‬وأل ّن العديد من األشياء تقع خارج حدود اإلدراك اإلنسا ّين‪ ،‬نستعمل‬ ‫قادر عىل تعريف كائن ّ‬ ‫فهم ج ّي ًدا‪ .‬غري أ ّن استعاملنا‬ ‫دامئًا مفردات رمزيّة للتعبري عن مفاهيم ال ُيكننا تحديدها وال فهمها ً‬ ‫الواعي للرموز ليس سوى مظهر من مظاهر حقيقة نفسيّة عىل غاية من األهميّة‪ .‬ذلك أ ّن اإلنسان‬ ‫الخفي والفائق‬ ‫يبتكر أيضً ا رموزًا بصفة غري واعية وعفويّة (‪ )JUNG 2021‬محاولة منه التعبري عن‬ ‫ّ‬ ‫الوصف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن اللفظ املجهول الذي يو ّجه إليه الرمز التفكري ال ميكن أن ميثّل غرابة يف‬ ‫كل ما يتجاوز ذهننا‪ ،‬بل األجدر أن نبحث يف العالقات‬ ‫املخ ّيلة‪ .‬ول َن ْح َذ ْر من أن نصف بالغرابة ّ‬ ‫تعب عنها بكل جرأة‪ .‬وإذ ما استثنيْنا استشبا ًحا محضً ا‪،‬‬ ‫الغريبة عن نصيب الحقيقة التي ُيكن أن ّ‬ ‫لكن ال يخلو من معنى يف نظر املحلّل دون أن يكون رمزيًّا بالرضورة‪ ،‬ميكننا أن نرى مع «يونغ» «أ ّن‬ ‫رم ًزا ما يفرتض دامئًا أ ّن التعبري املختار يصوغ مبا ميكن من اإلحكام عديد األحداث املجهولة نسبيًّا‬ ‫أو هو يشري إليها‪ ،‬لك ّن وجوده ُمثْ َِب ٌت أو يبدو رضوريًّا» (‪ .)JUNT 491‬وميكّن الرمز حسب عبارة‬ ‫كل مستويات الواقع»‪ .‬وال يشء يتعذّر اختزاله يف الفكر‬ ‫«مرسيا إلياد» «من حريّة االنتقال عرب ّ‬ ‫الرمزي ‪ .‬فهذا الفكر يبتكر دو ًما عالقة‪ ،‬وهو مبعنى من املعاين يف طليعة الذكاء‪ ،‬لك ّنه قد يندثر إذا‬ ‫ّ‬ ‫تشبّث بالصياغات النهائيّة‪ .‬وتفرز املشاكل واأللغاز ذاتها أجوبة لكن يف شكل رموز‪ .‬ومتثّل ألعاب‬ ‫الصور والعالقات املتخ ّيلة هرمنيوطيقا تجريب ّية للمجهول‪ .‬وإذا ما تح ّددت هويّة هذا املجهول من‬ ‫العلمي‪ ،‬فإنّه بإمكان الرسيامت املتخيّلة أن تستم ّر لكن من أجل أن تدعو‬ ‫ِقبَل املحلّل أو التفكري‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان إىل البحث عن املجهول يف ات ّجاه آخر وتقوده إىل اكتشافات جديدة‪.‬‬ ‫املتأت‬ ‫‪ .2‬هذه الوظيفة األوىل عىل صلة وثيقة بالثانية‪ ،‬وبالفعل ليس املجهول من الرمز هو الفراغ ّ‬ ‫من الجهل‪ ،‬بل هو الالمح ّدد من االستشعار‪ .‬وستغطّي صورة سهميّة أو رسيمة مح ّركة للصورة هذا‬ ‫الالمح ّدد بغشاء يكون يف اآلن نفسه إشارة أوىل أو إيحاء‪ .‬وهكذا يضطلع الرمز بوظيفة البديل‪.‬‬ ‫محل‬ ‫يحل ّ‬ ‫حل أو ارتياح ّ‬ ‫تصويري ‪ -‬مبنزلة إجابة أو ّ‬ ‫وهو يف نظر املحلّل وعامل االجتامع ‪-‬ويف شكل‬ ‫ّ‬ ‫سؤال أو فراغ أو رغبة معلّقة يف الالوعي‪ .‬ويتعلّق األمر بتعبري استبدا ّيل يستهدف بطريقة مم ّوهة‬ ‫ويعب الرمز‬ ‫مترير عدد من املضامني يف الوعي ال ميكنها بسبب الرقابة أن تنفذ إليه (‪ّ .)PORP 402‬‬ ‫النقدي‪ ،‬ويف‬ ‫املعني‪ .‬وال يكون ذلك حسب عقله‬ ‫عن العامل املدرك واملعيش كام يعانيه الشخص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأساسا يف مستوى الالوعي‪ .‬فهو إذًا‬ ‫مستوى وعيه بل حسب حياته النفسيّة العاطفيّة والتصويريّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ليس مج ّرد خدعة مثرية أو ممتعة وإنّ ا هو حقيقة ح ّية ذات سلطة واقع ّية مبقتىض قانون املشاركة‬ ‫العدد‬

‫(‪145 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫محل عالقة األنا مبحيطه وبوضعه أو مع ذاته عندما ال ت ُتَ َح َّم ُل هذه العالقة‬ ‫يحل ّ‬ ‫(نفسه)‪ .‬إنّه ّ‬ ‫بالدراية الكاملة‪ .‬لكن ما ينزع إىل اإليحاء به ال يقترص عىل موضوع الكبت حسب منظور املدرسة‬ ‫الفرويديّة‪ ،‬وإنّ ا هو ميثّل حسب «يونغ» ات ّجا ًها يف البحث وإجابة عن حدس خارج عن السيطرة‪.‬‬ ‫الوجودي لإلنسان ذاته عرب تجربة كون ّية»‬ ‫«إ ّن وظيفة الرموز األصل ّية هي بالتحديد ذلك الكشف‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )CHAS 239‬ميكن أن نض ّمنها كامل تجربته الشخصيّة واالجتامعيّة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫االستبدال عىل وظيفة ثالثة هي وظيفة الوسيط‪ .‬ذلك أ ّن الرمز يؤ ّدي فعليًّا وظيفة‬ ‫‪ .3‬ينطوي‬ ‫وسائط ّية‪ .‬فهو يقيم الجسور ويجمع العنارص املتنافرة ويصل السامء باألرض واملادة بالروح‬ ‫والطبيعة بالثقافة والحقيقة بالحلم والالوعي بالوعي‪ .‬ويقابل الرمز ق ّوة نابذة لحياة نفسيّة‬ ‫غريزيّة ن ّزاعة إىل التوزّع بني تع ّدد الحواس واالنفعاالت بق ّوة جاذبة مندفعة نحو الوسط‪ ،‬ويقيم‬ ‫مرك ًزا للعالقات يعود إليه املتع ّدد وفيه يجد وح َدت َه‪ ُ.‬إنّه ينتج عن املواجهة بني نزعات متضا ّدة‬ ‫وقوى متناقضة يجمعها يف عالقة ما‪ .‬إنّه يع ّوض هياكل تفكّك الليبيدو املضطرب ببنى تجميع‬ ‫حي يف نفسيّة ما‬ ‫الليبيدو املو َّجه‪ .‬ويف هذا الصدد يعترب الرمز عامل توازن‪ .‬ويضمن نظا ُم رموز ٌّ‬ ‫وسليم ومح ِّر ًرا يف الوقت ذاته‪ .‬ويق ّدم الرمز أه ّم مساعدة لتكوين الشخص ّية‬ ‫نشاطًا ذهن ًّيا كثيفًا‬ ‫ً‬ ‫يل حسب مالحظة «يونغ»‪ ،‬أي إ ّن‬ ‫«فهو يحتوي فعالً عىل تعبرييّة رائعة عىل هامش تعبريه الشك ّ‬ ‫له فاعل ّية عمل ّية يف مستوى القيم واألحاسيس»‪ .‬وهو الذي يساعد عىل هذه االنتقاالت التناوب ّية‬ ‫والخفي واألنا واألنا‬ ‫والعكسيّة بني مستويات الوعي من ناحية وبني املعلوم واملجهول والظاهر‬ ‫ّ‬ ‫األعىل من ناحية ثانية‪.‬‬ ‫الوظيفي‪.‬‬ ‫التوسط يف نهاية املطاف إىل التجميع‪ .‬وهذا هو املظهر اآلخر لدور الرموز‬ ‫‪ .4‬ينزع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذلك أنّ هذه الرموز قوى ُم َو ِّحد ٌة (‪ .)ELIT 379‬وتلخّص الرموز األصليّة تجربة اإلنسان‬ ‫الشاملة الدين ّية والكون ّية واالجتامع ّية والنفس ّية يف املستويات الثالثة (الالوعي والوعي وما‬ ‫يل‬ ‫فوق الوعي)‪ .‬وتحقّق أيضً ا خالصة للعامل بإبراز الوحدة األساسيّة ملستوياته الثالثة (السف ّ‬ ‫والساموي) وملركز ات ّجاهات الفضاء الستّة‪ ،‬وذلك بإبراز محاور التجميع الكربى‬ ‫واألريض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(قمر‪ ،‬ماء‪ ،‬نار‪ ،‬وحش ذو أجنحة‪ .)...‬ويف األخري تصل الرموز اإلنسان بالعامل‪ .‬وتنخرط مسارات‬ ‫يت للمستوى األ ّول يف تط ّور شامل دون عزلة أو غموض‪ .‬وال يشعر اإلنسان بالغربة‬ ‫التكامل الذا ّ‬ ‫يف الكون‪ ،‬بفضل الرمز الذي يضعه وسط شبكة شاسعة من العالقات‪ .‬وتصبح الصورة رم ًزا‬ ‫حني تتمطّط قيمتها حتى إنّه لَ َيصل يف اإلنسان أعامقه املالزمة له بتعال ال ح ّد له‪ .‬ويكمن‬ ‫الرمزي يف أحد أشكال ما يس ّميه «بيار إميانوال» «التأثري املتبادل واملتواصل بني الداخل‬ ‫الفكر‬ ‫ّ‬ ‫والخارج»‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪146 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫‪ .5‬يؤ ّدي الرمز إذا بصفته مو ّح ًدا وظيفة بيداغوجيّة وحتّى عالجيّة‪ .‬وفعالً هو يوفّر شعو ًرا إن مل‬ ‫أقل من أن يكون شعو ًرا باملساهمة يف ق ّوة تتجاوز الذات‪ .‬وهو عندما‬ ‫يكن دامئًا بتحقيق الذات فال ّ‬ ‫وضائعي يف‬ ‫يصل بني عنارص الكون املختلفة يجعل الطفل والرجل يشعران بأنّهام ليسا وحيديْن‬ ‫ْ‬ ‫والوهمي‪ ،‬وأال ندافع‬ ‫الرمزي‬ ‫الكل الشاسع الذي يحيط بهام‪ .‬ولكن يجب أالّ نخلط هنا بني‬ ‫هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويعب الرمز بطريقة علميّة غري مدقّقة‪ ،‬بل ساذجة عن واقع‬ ‫عن هذا األخري بتقديس الخيا ّيل‪ّ .‬‬ ‫يعب عنه ليس‬ ‫يستجيب لع ّدة احتياجات يف املعرفة واللطف واألمان‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّن الواقع الذي ّ‬ ‫نجم أو حبّة قمح‪ .‬إنّه يشء يتعذّر‬ ‫هو الواقع الذي متثّله مياسم صورته الخارجيّة تيْ ًسا كان أو ً‬ ‫ُرب وتُغذّي‪ .‬ويشعر الفرد‬ ‫وصفه‪ ،‬ولك ّننا نشعر به بعمق مثل وجود طاقة ماديّة ونفس ّية تُخ َِّص ُب وت ّ‬ ‫عن طريق حدسه فقط بانتامئه إىل مجموعة تُرعبه وتُطَ ْم ِئ ُن ُه يف اآلن نفسه لكن ت ُ ِع ُّد ُه للحياة‪.‬‬ ‫وأن نقاوم الرموز يعني أن نحرم أنفسنا من جزء من ذواتنا‪ ،‬وأن نُ َف ِّق َر الطبيعة بأكملها‪ ،‬وأن نر ّد‬ ‫بداعي الواقعيّة دعوة حقيقيّة إىل حياة شاملة‪ .‬إ ّن عامل ًا بال رموز عامل خانق يؤ ّدي برسعة إىل موت‬ ‫الروحي‪.‬‬ ‫اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫لك ّن الصورة ال ترتقي إىل مستوى الرمز إال إذا قَب َِل املشاهد بتحويل خيا ّيل بسيط يف الواقع‪ ،‬لك ّنه‬ ‫كل منهام‬ ‫معقّد عند التحليل ‪ .‬وهو تحويل يضعه داخل الرمز ويضع الرم َز داخل اإلنسان‪ .‬ويسهم ّ‬ ‫وتزيل هذه املامثلة أو هذه املشاركة الرمزيّة حدود‬ ‫يف طبيعة اآلخر وفعاليته يف ما يشبه التكافل‪ُ .‬‬ ‫عب عنه ‪ -‬دون ّ‬ ‫شك‪« -‬رايرنماريا‬ ‫املظاهر‪ ،‬وتقود نحو كينونة مشرتكة‪ ،‬وتحقّق وحدة‪ .‬وهذا ما ّ‬ ‫رايلك» (‪ )Rainer Maria Rilke‬يف قصيدة يقول فيها‪:‬‬ ‫«إذا أردت أن تفلح يف إحياء شجرة‬ ‫يل الكامن فيك‬ ‫فانرش حولها هذا الفضاء الداخ ّ‬ ‫ولن تصري حقيقة شجرة إال متى تشكّلت من زهدك»‬ ‫ربا يكون أهو َن علينا تضيي ُع معنى الرمز‬ ‫وندرك الدور العظيم لهذه الحيا ِة املتخيّلة‪ .‬ولكن ّ‬ ‫نكف عن التحذير‬ ‫ومعنى الوقائع يف اآلن نفسه من التنكّر للتمييزات الرضوريّة بينهام‪ .‬وينبغي أالّ ّ‬ ‫مبا يكفي من أخطار املامثلة وتجاوزاتها‪ .‬وإذا كان يف طريقها مزايا فسيكون من الته ّور التأخّر عنها‬ ‫دون التفكري يف االبتعاد عنها يف الوقت ذاته‪.‬‬ ‫خاصة عىل اكتساب املواقف اإليجاب ّية للبطل‬ ‫وميكن لهذه املامثلة مثالً أن تساعد الطفل ّ‬ ‫رصفات الصبيانيّة وأن تؤخّر تكوين الشخصيّة‬ ‫املختار‪ .‬لك ّنها ت ُوشك ‪-‬إن طالت‪ -‬أن تُ ْح ِدثَ بعض الت ّ‬ ‫املستقلّة‪ .‬وكتب أحد رجال الدين البارزين يقول‪ « :‬إ ّن مامثلة الكائنات التورات ّية هي أفضل السبل‬ ‫العدد‬

‫(‪147 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫كل يشء‪،‬‬ ‫الرب‪ .« ‬عىل أ ّن تعاسته يف التشبّه بقابيل‪ .‬لكن بعد ّ‬ ‫رصف اإلنسان يف حرضة ّ‬ ‫الكتشاف ت ّ‬ ‫ومهام كان األمر مث ًريا للشفقة فإنّه ال يعدو أن يكون خطأً شخص ًّيا فاد ًحا‪ ،‬واألفدح منه أن يكون‬ ‫الخطأ منهجيًّا‪ ،‬أي أن نتّخذ دون أن ننتبه من مامثلة اآلخر مبدأً بيداغوجيًّا ونجعل من الرتكيبة‬ ‫أساس تربية ما‪ .‬ومن املؤكّد أ ّن الرموز تسهم بفعال ّية يف تكوين الطفل والراشد‪ ،‬ال بوصفها‬ ‫امل ُغَا ِي َرة َ‬ ‫تعب ًريا تلقائيًّا واتصاالً مناسبًا فحسب ‪ ،‬وإنّ ا بوصفها وسيل ًة لتنمية الخيال الخالّق وإدراك الالمر ّيئّ‪.‬‬ ‫تظل الرموز عامل إدماج ذا ّيت‪ ،‬وأالّ تتح ّول إىل خطر يف ازدواج الشخص ّية‪.‬‬ ‫يتعي أن ّ‬ ‫عىل أنّه ّ‬ ‫‪ .6‬وإذا كان مث ّة خطر يف أن يضعف الرمز معنى الواقع بسبب من انقطاع يف الوحدة فإ ّن ذلك ال‬ ‫يحول بينه وبني كونه واحدا ً من أه ّم عوامل االندماج يف الواقع بفضل وظيفته امل ُ َج ْم ِع َن ِة‪ .‬إنّه يع ّمق‬ ‫ولكل عرص رموزه‪ .‬ويعني تأث ّرنا بهذه‬ ‫ولكل مجموعة رموزها‪ّ ،‬‬ ‫االجتامعي‪ّ .‬‬ ‫التواصل مع الوسط‬ ‫ّ‬ ‫رصا بال رموز عرص ميْ ٌت‪ ،‬ومجتم ًعا بال‬ ‫الرموز إسهامنا يف هذه املجموعة أو يف هذا العرص‪ .‬ذلك أ ّن ع ً‬ ‫رموز مجتمع َم ْي ٌت‪ .‬إ ّن حضارة مل يعد لها رموز آيلة إىل الزوال‪ ،‬ولن يكون يف القريب سوى تاريخ‪.‬‬ ‫وأقل من كونه كون ًّيا ‪ ،‬إنّه فعالً كو ّين ألنّه ‪ -‬افرتاض ًّيا ‪ -‬يف متناول‬ ‫قيل إ ّن الرمز لغة كون ّية‪ .‬وهو أكرث ّ‬ ‫برشي دون االعتامد عىل لغات متداولة أو مكتوبة‪ ،‬وألنّه يصدر عن النفس اإلنسانيّة‪ .‬وإذا‬ ‫ّ‬ ‫كل كائن ّ‬ ‫فيتعي علينا أالّ ننىس أ ّن‬ ‫سلّمنا بوجود أصل مشرتك لالّوعي‬ ‫الجمعي قادر عىل تق ّبل الوسائل وبثّها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل اإلسهامات العرقيّة والشخصيّة‪ .‬وسيصطبغ الرمز الظاهر‬ ‫هذا األصل املشرتك يغتني ويتن ّوع من ّ‬ ‫نفسه إذن‪ ،‬أَيْالً كان أو ُدبًّا مثالً‪ ،‬بصبغة مغايرة حسب الشعوب واألشخاص‪ ،‬وكذلك حسب العصور‬ ‫التاريخيّة ومزاج الحارض‪ .‬ومن امله ّم أن نكون مدركني لهذه االختالفات املمكنة إذا أردنا تج ّنب‬ ‫سوء الفهم‪ ،‬وأن ننخرط خاصة يف فهم عميق لآلخر‪ .‬وهنا نرى كيف يُؤ ّدي بنا الرمز إىل ما هو أبعد‬ ‫من الكو ّين ومن املعرفة‪ .‬ذلك أنّه ليس مج ّرد إيصال معارف وإنّ ا هو نقطة التقاء االنفعاالت‪ :‬فعن‬ ‫الطاقي يف تواصل‪ .‬ولهذا يُ َع ُّد الرمز‬ ‫طريق الرمز تدخل الغرائز الجنس ّية (اللّيبيدوات) مبفهومها‬ ‫ّ‬ ‫أكرث الوسائل نجاعة يف التفاهم بني األشخاص وبني املجموعات وبني القوميّات حتى إنّه يقودها إىل‬ ‫أعىل درجات ق ّوتها وإىل أعمق أبعادها‪ .‬ويُع ّد التوافق حول الرمز خطوة مه ّمة يف طريق الجمعنة‪.‬‬ ‫وبطابعه الكو ّين ميكنه الوصول إىل قلب الفرد والجامعة‪ .‬ومن ينفذ إىل معنى رموز متعلّقة بشخص‬ ‫أو بشعب يعرف أغوار هذا الشخص وهذا الشعب‪.‬‬ ‫أي صدى‬ ‫‪ .7‬مي ّيز علم االجتامع والتحليل النفيس الرموز الح ّية من الرموز امل َ ْيتَة‪ .‬ومل يعد لهذه ّ‬ ‫الجمعي‪ ،‬ومل تعد تنتمي إال إىل التاريخ أو إىل األدب أو الفلسفة‪.‬‬ ‫الفردي وال يف الوعي‬ ‫يف الوعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعترب الصور نفسها م ْيتَة أو ح ّية وفق استعدادات املتق ّبل املشاهد ووفق أغوار دخيلته وحسب‬ ‫العدد‬

‫(‪148 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫االجتامعي‪ .‬وتع ّد الصور حيّة إذا كان لها يف كيانه كلّه صدى موقّع‪ .‬وهي َميْتة إذا مل تكن‬ ‫التط ّور‬ ‫ّ‬ ‫روحي‬ ‫خواص دالالته املوضوع ّية‪ .‬فام متثّله البقرة من اهتامم‬ ‫غري مج ّرد يشء‬ ‫خارجي يقترص عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النورمندي‪ .‬وتتعلّق حيويّة‬ ‫املرب‬ ‫لدى‬ ‫عم متثّله لدى ّ‬ ‫الهندويس املتشبّع مببادئ «الفيدا» مختلف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرمز مبوقف الوعي ومبعطيات الالوعي‪ .‬وهي تفرتض نو ًعا من اإلسهام يف اللغز ونو ًعا من الطبيعة‬ ‫املخفي‪ .‬إنّها تنشّ طها وتق ّويها وتجعل املشاهد فاعالً‪ .‬وإن مل يَحصل ذلك فإ ّن الرموز‬ ‫املشرتكة مع‬ ‫ّ‬ ‫خاص ّياتها‪ ،‬واختفى مدلولها‬ ‫حسب تعبري «أراغون» (‪ )Aragon‬تصبح «مج ّرد كلامت أفرغت من ّ‬ ‫ُصل فيها»‪.‬‬ ‫القديم مثلها كمثل كنيسة مل نعد ن ّ‬ ‫النفيس فيمكن مقارنة هذه‬ ‫الحي إذا وظيفة الرتجيع‪ .‬وإذا تناولناها يف املستوى‬ ‫ّ‬ ‫يفرتض الرمز ّ‬ ‫الطبيعي ظاهرة ارتجاج ّية‪ .‬فالجسم أو الجرس املعلّق مثالً يهت ّز‬ ‫الظاهرة مبا يس ّميه علم القوى‬ ‫ّ‬ ‫يتغي بفعل املؤثّرات التي يخضع لها كالريح مثالً‪ .‬وإذا تفاعل أحد‬ ‫مبفعول تواتره الخاص الذي ّ‬ ‫هذه املؤثّرات بتواتره الخاص مع هذا الجسم‪ ،‬وإذا اتّحد تواترهام فسينجم عن ذلك تضخيم يف‬ ‫االرتجاجات وتسارع يف االهتزازات ميكن أن يصل تدريجيّا إىل االضطراب وإىل التص ُّدع‪ .‬وتكون‬ ‫الروحي لشخص أو ملجتمع أو لحقبة‬ ‫وظيفة ترجيع الرمز أكرث فاعل ّية بحيث تتالءم أكرث مع املناخ‬ ‫ّ‬ ‫تاريخيّة أو لظرف‪ .‬وهي وظيفة تفرتض أ ّن الرمز عىل صلة بنفسيّة جامعيّة‪ ،‬وأ ّن وجوده ال يرتبط‬ ‫شخيص رصف‪ .‬وهذه املالحظة تنطبق عىل املحتوى امل َخ ِّيل قدر انطباقها عىل تفسري الرمز‪.‬‬ ‫بنشاط‬ ‫ّ‬ ‫وتتغي ق ّوته اإليحائيّة والتحريريّة‬ ‫فردي‪.‬‬ ‫فهو يسبح يف وسط‬ ‫اجتامعي حتى إن انبثق من وعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالفردي‪.‬‬ ‫االجتامعي‬ ‫مبفعول الصدى الناتج عن عالقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ .8‬ال ميكن أن تكون هذه العالقة متوازنة إال يف ظل تأليف ينسجم مع املتطلّبات املتباينة غال ًبا‬ ‫للفرد و الجامعة‪ .‬وهذا أحد أدوار الرمز ممثّالً يف الوصل حتى بني األضداد والتأليف بينها‪ .‬ويطلق‬ ‫كارل غوستاف يونغ وظيفة التعايل (وظيفة األدوار األكرث تع ّق ًدا‪ ،‬وظيفة ليست أول ّية إطالقًا‪ ،‬وإنّ ا‬ ‫خاصيّة الرموز يف ربط الصلة‬ ‫متعالية مبعنى املرور من وضع إىل آخر مبفعول هذه الوظيفة) عىل ّ‬ ‫بني قوى متضا ّدة‪ ،‬ومن ثم تجاوز التعارضات وفتح الطريق أمام تق ّدم يف الوعي‪ .‬وتصف صفحات‬ ‫ت ُع ّد من ّ‬ ‫وتنحل وتنترش قوى حيويّة‬ ‫ّ‬ ‫أدق آثاره كيف تتفكّك بواسطة هذه الوظيفة املتعالية للرموز‬ ‫متضادة ولكن غري متنافرة إطالقًا‪ ،‬وليس بإمكانها أن تتّحد إال وفق سريورة تط ّوريّة مندمجة‬ ‫ومتزامنة (‪.)498-JUNT 496‬‬ ‫‪ .9‬نالحظ إذن انخراط الرمز ضمن حركة تط ّور اإلنسان بأكملها‪ .‬وال يقترص عىل إغناء معارفه‬ ‫حسه الجام ّيل‪ .‬إنّه يؤ ّدي يف املنتهى وظيفة املح ّول للطاقة النفس ّية‪ .‬فهو كمن يستقي‬ ‫وتحريك ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪149 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫من مولّد طاقة به بعض اضطراب وفوىض ليضبط تيّا ًرا كهربائيًّا ويجعله صال ًحا لالستعامل يف سرية‬ ‫الحياة الشخص ّية‪ .‬وكتب أ ْدلِر (‪ )Adler) (ADLI 55‬يقول‪ « :‬تُح َّول الطاقة الالواعية غ ُري املستو َعبة‬ ‫يف شكل أمارات ُع َصابيّة إىل طاقة ميكن إدماجها يف سلوك واع بفضل الرمز سواء كان هذا السلوك‬ ‫ويتعي عىل األنا استيعاب الطاقة الالواعية التي‬ ‫صاد ًرا من حلم أو من كل مظاهر الالوعي األخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يُطلقها حلْ ٌم أو و ْه ٌم‪.  « ‬وال ميكن لهذا االستيعاب أن يت ّم إال إذا كان جاه ًزا لهذا املسار من اإلدماج‪.‬‬ ‫وال يكتفي الرمز بالتعبري عن أعامق األنا التي مينحها شكلها وصورتها‪ ،‬وإنّ ا يحفّز بصوره املسارات‬ ‫النفسيّة بواسطة الشحنة العاطفيّة‪ .‬إنّه يح ّول الطاقات شأن فُرن الكيامئيني ُي ِك ُنه تحويل الرصاص‬ ‫إىل ذهب‪ ،‬و[عىل وجه املجاز] الظلامت إىل نور‪.‬‬ ‫نسقي للرموز‪ .‬وقد‬ ‫‪ .5‬من التصنيفات إىل التشظية وقعت محاوالت عديدة بهدف تصنيف‬ ‫ّ‬ ‫جاءت إ ّما تتوي ًجا طبيعيًّا لدراسة علميّة أو فرضيّة عمل وقتيّة إلعداد دراسة علميّة‪ .‬ويُ ْح َس ُب لها‬ ‫ُيس العرض‪ .‬لكن ال واحدة منها كانت مرض ّية فعالً‪ .‬وهذه بإيجاز‬ ‫جمي ًعا أنّها رسمت األطُر التي ت ّ‬ ‫شديد بعض األمثلة‪ُ .‬ييّز أ‪ .‬هـ‪ .‬كراب (‪ )A.H.Krappe‬يف كتابه «تك ّون األساطري» بني الرموز‬ ‫السامويّة (السامء والشمس والقمر والكواكب) والرموز األرض ّية (الرباكني واملياه والكهوف)‪ .‬وال‬ ‫يبتعد مرسيا إلياد كث ًريا عن هذا التقسيم يف كتابه «بحث يف تاريخ األديان» عندما يحلّل الرموز‬ ‫القمري والتجلّيات اإلاله ّية‬ ‫األورانوس ّية (كائنات سامويّة‪ ،‬آلهة العواصف‪ ،‬عبادة الشمس‪ ،‬التص ّوف‬ ‫ّ‬ ‫املائيّة‪ )...‬والرموز الجه ّنميّة (حجارة‪ ،‬أرض‪ ،‬امرأة‪ ،‬خصوبة)‪ .‬وتضاف إليها يف حركة تضامن كونيّة‬ ‫األبدي‪ .‬ويوزّع غاستون باشالر الرموز عىل العنارص‬ ‫كربى رموز املكان والزمان مع حرك ّية العود‬ ‫ّ‬ ‫التقليديّة األربعة‪ :‬املاء والنار والرتاب والهواء التي يعتربها مبنزلة هرمونات املخيّلة‪ .‬ويُتناول كل‬ ‫عنرص من هذه العنارص يف كامل تع ّدديّة معانيه الشعريّة‪.‬‬ ‫ويَج َم ُع «ج‪ .‬دميازيل» (‪ )G.Dumézil‬الرموز حول وظائف ثالث أساس ّية استخلصها من بنية‬ ‫املجتمعات الهندو‪-‬أروبيّة‪ ،‬وظائف أنتجت ثالثة أنظمة أو طبقات مغلقة من فئة الك ّهان وفئة‬ ‫املحاربني وفئة امل ُ ْن ِتجني‪ .‬ومي ّيز «بقانيول» (‪ )Piganiol‬بني الرعاة أو البدو واملزارعني أو املستق ّرين‪،‬‬ ‫خاصة من الرموز‪ .‬ويعتمد «بريزولسيك» (‪ )Pryzulski‬يف تصنيفه‬ ‫والذين ّ‬ ‫لكل منهم منظومات ّ‬ ‫عىل نوع من التط ّور الصاعد للوعي‪ .‬وتتمحور الرموز يف البدء حول عبادة اإللهة الكربى والخصوبة‪،‬‬ ‫ث ّم يف مستوى اإلنسان حول األب واإلله‪.‬‬ ‫الفرويدي‪ ،‬فإ ّن مبدأ اللذّة هو املحور الذي تتمفصل حوله الرموز‪.‬‬ ‫النفيس‬ ‫أ ّما يف التحليل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهي ترتكّز تبا ًعا يف املستويات الفمويّة والرشج ّية والجنس ّية تحت تأثري هيمنة الليبيدو املراقب‬ ‫العدد‬

‫(‪150 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫محل هذا املبدإ مبدأ الق ّوة الذي يتولّد منه ازدهار الرموز عن‬ ‫واملكبوت‪ .‬أ ّما «أدلر»(‪ )Adler‬فيُ ِح ُّل ّ‬ ‫طريق ظاهرة تعويض الشعور بالنقص‪ .‬وقد نجد عند يونغ أكرث من مبدإ للتصنيف‪ :‬فمثالً ميكن‬ ‫لإلواليّات أو مسارات االنبساط واالنكفاء الذايتّ أن توافق أصنافًا مختلفة من الرموز‪ .‬وميكن أن‬ ‫االنبساطي أو االنطوا ّيئ‪،‬‬ ‫ظل أنظمة مختلفة من قبيل‬ ‫نضيف إليها الوظائف النفس ّية األساس ّية يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل عارض أو حادث سري‪.‬‬ ‫أو كذلك يف مسارات التفريد بواسطة رموز متيّز كل مرحلة تط ّورية أو ّ‬ ‫ويف الحقيقة كث ًريا ما ت ُوحي الرموز نفسها ‪ -‬وإن كانت موسومة بعالمة أو غارقة يف سياقات‪ -‬بهذه‬ ‫الزوريخي الكبري بتصنيف الرموز‬ ‫كل األحوال مل يغامر املحلّل‬ ‫املراحل أو املواقف املختلفة‪ .‬ويف ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل محاولة يف هذا االتجاه انطالقًا من إنتاجه األد ّيب الغزير بعقبة‬ ‫تصنيفًا منهج ًّيا‪ .‬وقد تصطدم ّ‬ ‫أساسيّة وحتّى بروح البحث اليونغي الذي يعارض بش ّدة كل نسقنة (‪.) Systématisation‬‬ ‫وميكن أن نعيب مع جيلبار ديران (‪ )33-DURS 24‬عىل غالبيّة محاوالت التصنيف نزعتها‬ ‫الوضعان ّية وامل ُ َعقلِ َنة التي تتناول الرموز كأنّها عالمات أو حبكات روائ ّية ومقتطفات تفسري‬ ‫املتغي‪ ،‬وتشكو‬ ‫يتعي معرفتُها‪ .‬وهي تتنكّر لتجذّرها الذايتّ ولتعقّده‬ ‫ّ‬ ‫ديني وأشياء ّ‬ ‫اجتامعي أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوسع ّي ُة‬ ‫عاب عىل تصنيفات التحليل‬ ‫من ضيق‬ ‫النفيس ّ‬ ‫ميتافيزيقي غري معلن‪ .‬عالوة عىل ذلك يُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املركزيّة واإلفرا ُط يف تبسيط الدوافع‪ .‬فالرموز تص ّنف عند فرويد بسهولة وفق خطاطة االزدواجيّة‬ ‫الجنس ّية اإلنسان ّية‪ ،‬وعند»أدلر» وفق الخطاطة العدوان ّية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإ ّن املخ ّيلة ‪-‬حسب‬ ‫االجتامعي (محاولة مخجلة‬ ‫املحلّلني النفسانيّيني‪ -‬ناتجة عن رصاع بني النزعة الجنسيّة والكبت‬ ‫ّ‬ ‫لتج ّنب الرقابة) يف حني أنّها تظهر ‪ -‬خالفًا لذلك ‪ -‬يف معظم الحاالت يف اندفاعها‪ ،‬كأنّها نتيجة اتفاق‬ ‫بني الرغبات ومواضيع البيئة االجتامعيّة والطبيعيّة‪ .‬واملخيّلة أبعد من أن تكون نتيجة كبت‪ ،‬وإنّ ا‬ ‫هي ‪-‬خالفًا لذلك‪ -‬مصدر ترصيف الطاقة املكبوتة (‪.)DURS 30‬‬ ‫رصح بأنّه‬ ‫وقد استعار جيلبار ديران من األنرتوبولوجيا مبادئ تصنيفه‬ ‫ّ‬ ‫الخاص للرموز‪ .‬و ّ‬ ‫اعتمد «طريقة تقارب براغامتيّة ونسبويّة بالتامم تسعى إىل معاينة جمهرات واسعة من الصور‪،‬‬ ‫جمهرات مستق ّرة تقري ًبا‪ ،‬و تبدو كأنّها مهيكلة بنوع من تشاكل رموز استقطاب ّية» (‪.)DURS 33‬‬ ‫ويكتشف مثل هذه الحزمة من نقاط االلتقاء بني االرتكاسيّة (علم االرتكاسات‪ :‬الحركات املهيمنة)‬ ‫والتكنولوجيا (علم األدوات التي يتطلّبها املحيط امتدا ًدا للحركات املهيمنة) وعلم االجتامع (علم‬ ‫الوظائف االجتامعيّة)‪ .‬وهكذا تبدو الرموز َر ِس ٍ‬ ‫يامت مح ّركة تهدف إىل دمج الغرائز الجنسيّة‬ ‫وردود أفعال شخص ما‪ ،‬والتوفيق بينها وبني متطلّبات املحيط ومح ّفزاته‪ .‬والحركات املهيمنة‬ ‫الثالث (علم االرتكاس) هي الوضع والغذاء والجِامع‪ .‬وتتطلّب الحركات املرافقة لردود األفعال‬ ‫املهيمنة هذه دعائم ماديّة وأدوات مساندة (تكنولوجيا)‪ .‬وتأيت بعد ذلك الوظائف االجتامع ّية‬ ‫العدد‬

‫(‪151 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫للقس واملنتج واملحارب أو مبارشة السلط الترشيعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة‪ .‬وهكذا ميكن أن‬ ‫ّ‬ ‫نجمع الرموز األكرث تناف ًرا ظاهريًّا يف ثالث مجموعات كربى غري منعزل بعضها عن بعض‪ .‬وتُ ّي ُز‬ ‫التفسريات البيوبسيكولوجيّة والتنكولوجيّة أو االجتامعيّة التي تتفاوت درجات هيمنتها حسب‬ ‫املعبة‪ .‬غري أ ّن جيلبار ديران ‪-‬وألسباب غري مقنعة البتّة ت ُ ِب ُني عن التأثريات‬ ‫الرموز واملستويات ّ‬ ‫املستم ّرة لالنشطارات العلويّة والجه ّنميّة التي يقول بها مرسيا إلياد أو املظلمة واملضيئة عند‬ ‫نظامي يف النظريّة الرمزيّة‪:‬‬ ‫املحلّلني النفسانيني ‪ -‬ال يُط ّب ُق هذه املبادئ تطبيقًا صار ًما‪ .‬فهو مي ّيز بني‬ ‫ْ‬ ‫نهاري ويشمل الرموز التي تغلب عليها النزعة الوضعيّة املتّصلة بوضع الجسم وتكنولوجيا‬ ‫نظام‬ ‫ّ‬ ‫يل الذي‬ ‫األسلحة وعلم اجتامع املرزبان‬ ‫املجويس واملحارب وطقوس االرتقاء والتطهري‪ ،‬والنظام اللي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يشمل الخاصيّات الهضميّة الغالبة واملو ّحدة أو الدوريّة‪ .‬وتتناول األوىل تقنيّات الحاوي والسكن‬ ‫والقيم الغذائ ّية والهضم ّية وعلم اجتامع األمومة والحضانة‪ .‬وتض ّم الثانية تقن ّيات الدورة والروزنامة‬ ‫الفالحيّة مثل تقويم صناعة النسيج ورموز ال َع ْود الطبيعيّة واملصطنعة واألساطري واملآيس الفلكيّة‬ ‫اثني نهاريًّا‬ ‫البيولوج ّية (‪ .)DURS 50‬ونعتقد أ ّن لكل رمز مهام كانت ّ‬ ‫خاص ّيته الغالبة مظهريْن ْ‬ ‫يل مبا أنّه يلتهم ويفرتس‪ .‬ويصبح نهاريًّا إذا ح ّول كائ ًنا جدي ًدا ولفظه‪.‬‬ ‫وليليًّا‪ :‬فالوحش مثالً رمز لي ّ‬ ‫يل‬ ‫وبصفته حارس املعابد والحدائق املق ّدسة هو يف اآلن نفسه عقبة وقيمة‪ ،‬ظلامت ونور لي ّ‬ ‫ونهاري‪ .‬وقد أبرز جيلبار ديران برباعة هذه الثنائيّة للرموز‪ .‬وفضالً عن ذلك نأسف أل ّن بحوثه‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة‪ .‬ولكن ميكن أن يكون هذا دليالً‬ ‫العلم ّية الج ّيدة مل تفض به إىل تصنيف يتامىش ومعايريه‬ ‫ّ‬ ‫عىل أ ّن الرمز يف غاية التعقيد‪ ،‬حتى إنّه يتجاوز كل نظام‪.‬‬ ‫ومييّز مؤلّفون آخرون بني الرموز الكونيّة والرموز املج ّردة واألخالقيّة والدينيّة وامللحميّة‬ ‫وكل رمز من هذه الرموز يقابل أمنوذ ًجا إنسان ًّيا بجانبيه اإليجا ّيب‬ ‫والتكنولوج ّية والبسيكولوج ّية‪ّ .‬‬ ‫و‬ ‫السلبي‪ .‬لك ّن مختلف هذه املظاهر توجد مجتمعة يف أغلب الرموز ذات الطبيعة امل ُ َو َِّرقَة وفق‬ ‫ّ‬ ‫تعبري «ليفي سرتوس»‪ ،‬إذ تتمثّل أهم وظائفها تحدي ًدا يف ربط عديد املستويات‪ .‬ولذا‪ ،‬ال ميكن‬ ‫اعتامدها مبدأ للتصنيف‪ .‬إنّها تشري فقط إىل مستويات تفسري ممكنة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تصنيف ما‪ .‬ومهام‬ ‫ويرفض «ليفي سرتوس» يف بحوثه عن األسطورة أن يجعل مرشوعه ره َني‬ ‫كانت الطريقة التي نَتَناوله بها فإ ّن مرشوعه ينمو كركام مختلط دون أن يجمع بطريقة دامئة‬ ‫تبص وكلّه ثقة بأ ّن الواقع سيكون دليلَه‬ ‫أو نسقيّة مجمل العنارص التي يستم ّد منها ما ّدته دون ّ‬ ‫املنهجي‬ ‫ويهديه إىل طريق أكرث أمانًا من تلك التي كان ميكنه اخرتاعها (‪ .)LEVC 10‬هذا التحفّظ‬ ‫ّ‬ ‫نسقي‪ .‬وقد‬ ‫هو من ضمن التحفّظات التي أوحت بوضع هذا القاموس الذي يرفض كل تصنيف‬ ‫ّ‬ ‫جمع «جريار دو شامرب» و«سيباستيان ستارك» ( ‪Gérard de Champeaux et Sébastien‬‬ ‫العدد‬

‫(‪152 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫‪ )Sterckx‬يف كتابهام «عامل الرموز» الذي تناول الرمزيّة الرومانيّة مجمل الرموز حول ما أَ ْس َميَا ُه‬ ‫أشكاالً بسيطة أو رموزًا أساس ّية للنفس البرشيّة‪ .‬وهذه األشكال هي املركز والدائرة والصليب‬ ‫كل الرموز من هذه األشكال وال بر ّدها جميعها إليها‪ .‬وقد ّ‬ ‫تدل‬ ‫واملربّع‪ .‬وال يتعلّق األمر باستنتاج ّ‬ ‫الرمزي‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ ّن رمز املعبد – عىل الرغم من أ ّن الرصح‬ ‫هذه املحاولة عىل بناء كامل للفكر‬ ‫ّ‬ ‫املق ّدس هو يف الغالب مربّع أو مستطيل‪ -‬يرتبط برمزيّة املركز أل ّن املعبد يضطلع فعالً بوظيفة‬ ‫الرمزي للصليب‪ ،‬مع أ ّن بعض كثافة األوراق توحي‬ ‫مركز مق ّدس‪ .‬وكذلك تنتمي الشجرة إىل املجال‬ ‫ّ‬ ‫بصورة القبّة والدائرة‪ .‬ويفرتض هذا التصنيف ‪ -‬كام نالحظ ‪ -‬تأويالً قد يبعد كث ًريا عن الظواهر‪،‬‬ ‫ويكون مو ّج ًها إىل الحقائق البعيدة‪.‬‬ ‫أ ّما «بول ديال»(‪ -) Paul Diel‬وقد درس النظريّة الرمزيّة يف األساطري اإلغريق ّية ‪ -‬فقد وزّع‬ ‫نفيس فهو‬ ‫بيو‪-‬إيتيقي‬ ‫األساطري ومواضيعها وفق متفصالت جدليّة مستوحاة من تص ّور للنظريّة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العاطفي صلب‬ ‫يعترب أ ّن الحياة بصفتها ق ّوة تط ّور تُ َو ِّج ُهها النفس ّية اإلنسان ّية‪ .‬ويُو َج ُد التخ ّيل‬ ‫ّ‬ ‫رصفها السليم‪ ،‬أي يف التحكّم يف الذات والعامل‪.‬‬ ‫هذه النفسيّة‪ .‬ويكمن قانو ُن الحياة‬ ‫ُ‬ ‫األساس يف ت ّ‬ ‫كل كائن إنسا ّين بإمكاناته الدامئة ومبراحله املتعاقبة‬ ‫وتؤكّد الرصاعات يف األساطري مغامرات ّ‬ ‫رمزي جز ّيئ أو‬ ‫الروحي وسقوطه يف االنحراف‪ .‬ويتج ّزأ البطل‬ ‫الندفاعه‬ ‫األسطوري مثل انعكاس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يل لذواتنا مثلام نكو ُن يف مرحلة من وجودنا‪ .‬لك ّن الحياة حسب «بول ديل» تتط ّور يف ات ّجاه‬ ‫ك ّ‬ ‫َر ْو َحنة مبوجب تأثري بطيء‪ ،‬ولك ّنه إجامالً ال يُقا َو ُم‪ .‬وتُؤ ّدي الروح وظيفة ما فوق الوعي مثل سائل‬ ‫ري ملتطلّبات الحياة املل ّحة‬ ‫عصبي ُم َو َّجه‪ .‬والعقل وظيفة واعية ته ّيئ اإلنسان طوال مساره التط ّو ّ‬ ‫ّ‬ ‫أساسا من املخيّلة‬ ‫وغاياتها‪ .‬ويصطدم تجاوز الوعي يف إدارة ما فوق الوعي بعراقيل كثرية متأت ّية ً‬ ‫الجامحة‪ .‬وتؤ ّدي هذه دو ًرا زائ ًدا من شأنه أن يعرقل املجهود التط ّوري أو يؤ ّدي إىل نكوص يف‬ ‫ات ّجاه ما قبل الوعي أو الالوعي‪ .‬ويغذّي هذا الخلل الوظيفي الحياة النفسيّة املم ّزقة بني جاذبيّة‬ ‫«ما فوق الوعي» ووزن الالوعي «ما تحت الوعي» عن طريق ما يصحبه من عادات غري معقولة‬ ‫ومن صور مل ّحة وأوضاع متناقضة‪ .‬وليس ما تكشفه األسطورة عن طريق الصور والوضعيّات‬ ‫يتعي تجاوزه ومرشوع‬ ‫الرمزيّة كذلك هو مخلّفات ماض من ّمق‪ ،‬وإنّ ا هو صورة لحارض من النزاع ّ‬ ‫تخص الرموز األساسيّة الدرجات الثالث التي ت ُضاف‬ ‫ملستقبل ينبغي تحقيقه‪ .‬ووفق هذا املنظور ّ‬ ‫يف النفس ّية اإلنسان ّية إىل الغريزة الحيوان ّية من املخ ّيلة امل ُ َج ِّم َحة والكابِتة (ما تحت الوعي)‪ ،‬ومن‬ ‫الفكر (الوعي)‪ ،‬ومن الروح (ما فوق الوعي) (‪ .)DIES 36‬وهكذا يص ّنف املؤلّف الرموز أربعة‬ ‫أصناف هي‪ :‬رموز اإلثارة امل ُ َخ ِّيلة (إيكار (‪ ،)Icare‬تانتال (‪ ،)Tantale‬إكسيون (‪ ،)Ixion‬بارساي‬ ‫الوظيفي (الفنت األ ّوليّة‪ ،‬أنساب اآللهة‪ ،‬حرب العاملقة وما‬ ‫(‪ )Persée‬وغريها‪ )...‬ورموز الخلل‬ ‫ّ‬ ‫االصطالحي (‬ ‫سواها‪ )...‬ورموز التبسيط مخر ًجا أ ّول لالختالل‪ :‬من ذلك التبسيط بأوجهه الثالثة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪153 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫امليداس (‪ ،)Midas‬اإليروس (‪ ،)Eros‬النفس (‪ ))Psyché‬والشهوا ّين (أورفاي ‪ )Orphée‬والجبّار‬ ‫(أوديب ‪ )Oedipe‬ورموز تخطّي النزاع أو الرصاع ضد التبسيط (تايزاي (‪ ،)Thésée‬هريكالس‬ ‫(‪ ،)Héraclés‬بورمثيوس (‪ )Prométhée‬وأرضابهم‪ .)...‬واعتام ًدا عىل التأويل العام تجد رموز كل‬ ‫من الرجل والنرس والقميص (الجلباب) والسهم والنهر مكان ًة مم ّيز ًة يف هذا التصنيف‪ .‬وإليه يعود‬ ‫فضل االنسجام والعمق‪ .‬غري أ ّن هذا التصنيف يُ ْستَلْ َه ُم من نظام تحليل ذي قيمة مرموقة ‪.‬لك ّنه‬ ‫يرتكز حرصيًّا تقري ًبا عىل اإليتيقا ‪ .‬وهو ال يضع يف صدارة اهتاممه بق ّية أبعاد الرموز مثل األبعاد‬ ‫الكونيّة والدينيّة‪ .‬وال ميكن أن نؤاخذه عىل ذلك مبا أنّه ال يسعى إىل أكرث من ترجمة الرمزيّة‬ ‫األسطوريّة إىل لغة بسيكولوج ّية‪ .‬ولنستنتج فقط أنّنا إن مل نجد بع ُد هنا األسس لتصنيف عام‪،‬‬ ‫التقص‪.‬‬ ‫معي من ّ‬ ‫فيمكننا أن نكتشف طريقة تحليل يف مستوى ّ‬ ‫من عبقريّة «أندري فريال» (‪ )André Virel‬يف كتابه « تاريخ صورتنا « اتّخاذه املراحل الثالث التي‬ ‫البيولوجي‪ ،‬ويف التاريخ اإلنسا ّين‪،‬‬ ‫مفهومي الزمان واملكان نظا ًما مرجع ًّيا‪ ،‬ويف التط ّور‬ ‫تظهر يف تط ّور‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫وحتى يف تاريخ الفرد‪ .‬وتق ّدم املرحلة األوىل التي يُس ّميها كونيّة املنشإ (‪ )Cosmogénique‬خصائص‬ ‫ميكن تركيزها يف مجموعة االطّراد ممثّلة يف املوجة والدورة والتناوب‪ .‬إنّها املرحلة السامويّة ذات‬ ‫الفردي‬ ‫الحيوي والفوضويّة الغامضة‪ .‬أ ّما يف املرحلة الثانية الفصاميّة التولّد فيتخلّص فيها‬ ‫الفيض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من الرواسب‪ .‬واليتعلّق األمر كذلك بالتفريق‪ ،‬بل بالثنائ ّية وباالنفصال بوصفه تقابالً مع املحيط‪.‬‬ ‫وتتميّز هذه املرحلة بالتقطّع ممثّالً يف ضبط الحدود والتثبيت والرتاكم والتناظر والزمن املوقّع‬ ‫والتعديل إىل غري ذلك‪ ...‬إنّها مرحلة التوقّف ال ُز َحلِ ّية لالسرتاحة واالستقرار‪ .‬أ ّما املرحلة الثالثة‬ ‫التوسع‪ ،‬ولكن يف تواصل منتظم‪.‬‬ ‫الواقعة تحت تأثري زويس ‪( ،)Zeus‬أو املشرتي) فمرحلة إطالق ّ‬ ‫«ويف حني كان الكائن أ ّول أمره غري ُمتَ َم َّيز يف بيئته أضحى بعد ذلك متم ّي ًزا فيه‪ .‬ويتعارض دوام‬ ‫التميّز مع استمرار عدم التميّز يف املرحلة األصليّة‪ .‬ويف غضون املرحلة الثالثة التي نس ّميها مرحلة‬ ‫مستقل بذاته‪ .‬وت ْ َُتك ثنائ ّية التولّد‬ ‫ّ‬ ‫التولّد الذايت يتناسل الكائن ذات ًّيا ويتواجد بذاته مثله مثل عالَم‬ ‫الفصامي مكانها للعالقة الحيويّة بني الكائن والعامل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتجد األساطري والرموز والبُ َنى من قبيل أوزيريس (‪ ،)Osiris‬ساث (‪ ،)Seth‬إيزيس (‪،)Isis‬‬ ‫أورانوس (‪ ،)Uranus‬زحل (‪ ،)Saturne‬املشرتي (‪ ،)Jupiter‬الشجرة‪ ،‬العقدة‪ ،‬الفأس‪ ،‬الكهف‪،‬‬ ‫فس علم الرمز‬ ‫الثعبان‪ ،‬السهم إلخ ‪ ...‬مكانها ومعناها يف هذه النظريّة التط ّوريّة للمجموعة‪ .‬ويُ ّ‬ ‫مخصصة بإرساء‬ ‫النشو ّيئ هذا عد ًدا من األحداث الالمعقولة‪ .‬ويق ّدم طريقة جديدة يف التحليل ّ‬ ‫نظام من بني العنارص املتنافرة واملوروثة من عوامل قدمية غري متجانسة‪ ،‬وتفتح الطريق لتحاليل‬ ‫عالج ّية‪ .‬ومع أنّه بإمكاننا أن نجمع عد ًدا مع ّي ًنا من الرموز يف هذه املراحل الثالث‪ ،‬ال ميكن لهذه‬ ‫العدد‬

‫(‪154 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫بكل وضوح‬ ‫أساسا للتصنيف أل ّن كل رمز ‪ -‬عدا بعض االستثناءات‪ ،‬وكام بيّنه ّ‬ ‫املراحل أن تكون ً‬ ‫أندراي مريال ‪ -‬يندرج يف مجموعة تجتاز املراحل الثالث‪ :‬فاملوجة مثالً تق ّدم عىل أنّها عاتية يف‬ ‫ويتعي‬ ‫املرحلة النشكونيّة ومحجوزة يف املرحلة الفصاميّة التولّد‪ ،‬ومنتظمة يف مرحلة الت ّولد الذايتّ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الرمزي‪ .‬وهذا أيضً ا مبدأ للتحليل وليس‬ ‫أن نفهم هذه الكلامت ويف مق ّدمتها املوجة يف معناها‬ ‫ّ‬ ‫للتصنيف‪.‬‬ ‫نسقي للرموز ال يكفي إالّ لغايات عمليّة لعرض ما‪.‬‬ ‫لقد استبان حتى اليوم أ ّن كل تصنيف‬ ‫ّ‬ ‫ويجعل تع ّدد معاين الرموز نفسه امله ّمة عسرية‪ .‬ويبدو لنا يف مستوى البحوث الحال ّية أ ّن أنسب‬ ‫األساليب لتذليل العقبات أو لتجاوزها هو أن نضبط قامئة للرموز ومناذج تحليلها تكون ممثّلة‬ ‫وسهلة املأخذ‪ .‬وبإمكان هذا اإلطار أن يقبل كل اإلضافات واملقرتحات الجديدة‪ .‬وهذا مج ّرد إطار‬ ‫مم ميكن إضافته‪ .‬وقد تركنا نحن أنفسنا عديد‬ ‫وليس مد ّونة اصطالحات كاملة‪ .‬ومث ّة الكثري ّ‬ ‫املالحظات جان ًبا‪ .‬ومل نحتفظ إالّ مبا كان أمنوذج ًّيا مبا يكفي‪ ،‬أي مأخوذًا من فضاءات ثقاف ّية مختلفة‬ ‫ومن أنظمة تحليل متع ّددة‪.‬‬ ‫‪ .6‬منطق املتخيّل ومنطق العقل‪ ،‬ليس مجال املتخيّل مجال فوىض واختالل‪ ،‬حتى إن استعىص‬ ‫كل مرشوع يستهدف تصنيفه‪ .‬ذلك أ ّن عمل ّيات الخلق األكرث عفويّة تخضع لنوع من القوانني‬ ‫عىل ّ‬ ‫الداخليّة‪ .‬وحتى إن أدخلتنا هذه القوانني إىل الالمعقول فمن الحكمة أن نحاول فهمها‪ .‬فليس‬ ‫الرمز ح ّجة‪ ،‬لك ّنه يندرج يف منطق ما‪ .‬ومث ّة بالفعل حسب «جان بياجي‪ »Jean Piaget‬متاسك‬ ‫الرمزي ‪ .‬وقد كتب «جيلبار ديران» يقول‪« :‬إ ّن التدفّق الغزير للصور حتى يف أكرث‬ ‫وظيفي للفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحاالت غموضً ا محكوم مبنطق الرموز حتّى إن كان هذا املنطق محدو ًدا»‪ .)DURS 21( .‬وقد‬ ‫ألح «مرسيا إلياد» عىل أ ّن منطق الرموز ال يتأكّد من خالل النظريّة الرمزيّة السحريّة الدينيّة‬ ‫ّ‬ ‫فحسب‪ ،‬وإمنّا من خالل النظريّة الرمزيّة التي يَ ْجل ُوها نشاط اإلنسان تحت الواعي واملتعايل‬ ‫(‪.)378-ELIT 337‬‬ ‫كل األباطيل هام استقرارها‬ ‫ويتأت هذا املنطق من خاصيّ ْتي أساسيّ ْتي للرموز متيّزانها من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونسب ّيتها‪ .‬وقد سبقت اإلشارة إىل أ ّن الرموز تحافظ عىل نوع من االستقرار يف تاريخ األديان‬ ‫واملجتمعات ونفسيّة الفرد‪ .‬فهي عىل صلة بالوضعيّات والغرائز الجنسيّة ومجموعات مامثلة لها‪.‬‬ ‫و تتط ّور وفق املسارات ذاتها‪ .‬ويبدو أ ّن إبداعات الوعي والالوعي وما فوق الوعي مستوحاة يف‬ ‫تن ّوعها األيقوينّ أو األد ّيب من النامذج نفسها‪ ،‬وتتط ّور وفق خطوط البنى نفسها‪ .‬لكن ل َن ْح َذ ْر من‬ ‫نسبي‪.‬‬ ‫تجميدها يف قوالب نهائ ّية‪ .‬ذلك أ ّن تصلّبها موت محقّق وثباتها ثبات ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪155 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫وك ّنا قد الحظنا أ ّن الرمز عالقة أو مجموعة متح ّركة من العالقات بني حدود عديدة‪ .‬ويرتكز‬ ‫منطق الرموز مبدئ ًّيا عىل أساس هذه العالقات بالذات‪ .‬لكن يربز هنا تعقّد املشكل وصعوباته ألنّه‬ ‫كل‬ ‫كل شخص ومع ّ‬ ‫يتغي مع ّ‬ ‫ينبغي البحث عن أساس هذه العالقات يف اتجاهات عديدة ‪ .‬وهو ّ‬ ‫نتبي بالفعل مع «ج‪ .‬دي‬ ‫مجموعة ويف كثري من الحاالت مع ّ‬ ‫كل مرحلة من وجوده‪ .‬وبإمكاننا أن ّ‬ ‫الروشتي» (‪ )J.de la Rocheterie‬املا ّدة أو الصورة التي تصلح أن تكون رموزًا أو ما ترمز إليه‪ ،‬أي‬ ‫ّ‬ ‫الرتكيز عىل املرموز إليه أكرث من الرامز‪ :‬من ذلك أنّنا ننظر يف رمز من رموز ال َعموديّة إىل الق ّمة‬ ‫تنزل إىل القاعدة أو إىل القاعدة تصعد إىل القمم العالية‪ .‬وميكن أن نتساءل كيف ينظر شخص‬ ‫مستيقظ إىل الرمز وكيف ينظر إليه الحامل النائم واملحلّل النفسا ّين‪ ،‬وب َم يرتبط عمو ًما‪ ،‬وبم شعرت‬ ‫أي مستوى يقع يف الحال من املتقبّل امل ُ ْدرِك له‪،‬‬ ‫اإلنسانيّة أمام هذا الرمز (من خالل تضخيمه)‪ ،‬ويف ّ‬ ‫النفيس‪ .‬ث ّم تساءل عن وظيفته يف نفس ّيته ويف وضعه الحايل ويف‬ ‫الروحي أم‬ ‫املادي أم‬ ‫أيف املستوى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ماضيه ودوره شاه ًدا وعامل تط ّور وغريه‪ ..‬ومهام تع ّددت األطراف املتدخّلة يف العالقة الرمزيّة فهي‬ ‫كل بطريقته يف إعطائها قيمتها وميزتها الخاصة‪ .‬فهي ‪ -‬وإن تعذّر إدراكها‪ -‬غالبا ما متتلك‬ ‫ت ُْس ِه ُم ّ‬ ‫وتؤسس‬ ‫بعض الحقيقة التي ّ‬ ‫تحتل مكانة فاعلة يف الحياة‪ .‬وتستجيب هذه املكانة لنظام األشياء ّ‬ ‫ملنطق أصيل يتعذّر اختزاله يف الجدل ّية العقل ّية‪« .‬إنّه العامل ينطق بال ّرمز‪ ،‬حسب تعبري «يونغ»‪.‬‬ ‫وكلّام تقادم الرمز وتع ّدد أصبح جمعيًّا وكونيًّا‪ .‬وكلّام كان مج ّر ًدا مميَّ ًزا ونوعيًّا قَ ُر َب عىل العكس من‬ ‫رأسا‪ .‬ويوشك أن يصبح يف‬ ‫طبيعة‬ ‫ّ‬ ‫خصوصيات وأعامل فريدة ومحسوسة وتج َّر َد من صفته الكون ّية ً‬ ‫متام الوعي مج ّرد مجاز ال يتجاوز حدود التص ّور الواعي‪ .‬وهنا أيضً ا يكون عرضة ملختلف التفسريات‬ ‫العقالنويّة» (‪ .)JUNA 67‬ومن األهم ّية مبكان إدراك مم ّيزات هذا املنطق الخاص يف مستوى‬ ‫الصوري «‪ .‬ويف هذا يقول مرسيا إلياد‪« :‬يجري‬ ‫للمجازي‬ ‫«الرمزي» بالذات وليس يف املستوى األدىن»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رمزي» (‪.)ELIT 41‬‬ ‫استعامل الرموز وفق منطق ّ‬ ‫ري‪ :‬ذلك أنّه ال يدخل يف مدلول املفهوم وال يف تض ّمنه‪،‬‬ ‫ال يصدر الوصل بني الرموز عن منطق تص ّو ّ‬ ‫يتأسس منطق الرموز عىل‬ ‫يل‪ ،‬بل ّ‬ ‫وال يظهر يف منتهى استقراء أو استنتاج وال يف أي منحى حجاج عق ّ‬ ‫علمي‪.‬‬ ‫طرفي أو‬ ‫مجموعتي‪ .‬وال يخضع هذا الوصل كام تق ّدم القول ّ‬ ‫ْ‬ ‫إدراك عالقة بني ْ‬ ‫ألي تصنيف ّ‬ ‫وإذا استعملنا عبارة «منطق الرموز» فلمجرد تأكيد وجود صالت أو ترابطات ُصلب الرموز ويف‬ ‫ما بينها‪ ،‬ولتك ّون سلسلة رموز (النور‪ ،‬القمر‪ ،‬الليل‪ ،‬الخصب‪ ،‬القربان‪ ،‬الدم‪ ،‬البذر‪ ،‬املوت‪ ،‬البعث‪،‬‬ ‫الدورة‪ ،‬وغريها‪ .)...‬والحال أ ّن هذه املجموعات تتعلّق بروابط ليست فوضويّة وال غري م ّربرة وال‬ ‫غري طارئة البتّة‪ .‬وتتواصل الرموز يف ما بينها وفق قوانني وجدل ّية مازالت مل تُعرف بعد مبا يكفي‪.‬‬ ‫وسيبدو من اليقني القول‪ :‬إ ّن النظريّة الرمزيّة ليست منطقيّة‪ .‬إنّها غريزة جنسيّة حيويّة واعرتاف‬ ‫غريزي‪ .‬وهي تجربة للذات الشاملة التي تولَ ُد من مأساتها الذات ّية عن طريق اللعبة العص ّية عن‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪156 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫اإلدراك للعالقات العديدة التي تنسج يف الوقت نفسه مستقبله ومستقبل الكون الذي ينتمي إليه‬ ‫كل معارفه الجديدة‪ .‬ويف نهاية املطاف يتعلّق األمر دامئا بـ«يولد مع» مع‬ ‫والذي منه يستم ّد ما ّدة ّ‬ ‫رس الرمز كلّه (‪ .)26-CHAS 25‬لك ّن‬ ‫إبراز هذه ال «مع»‪ .‬وهي كلمة صغرية غامضة يكمن فيها ّ‬ ‫املنطق املستبعد هنا هو منطق تفكري تص ّوري ال منطق نظام داخيل متجاوز للعقل ميكن إدراكه‬ ‫فقط ضمن تص ّور شامل‪ .‬وهكذا أمكن للرومنسيّني األملان الحديث عن منطق للرموز مظهرين يف‬ ‫هذا الصدد أنّهم أقرب إىل رسيال ّيي املستقبل منهم إىل منطق ّيي عرصهم ‪.‬‬ ‫وفعالً‪ ،‬إنّ اإلفراط يف تحليل الرمز وجعله لصيقًا بسلسلة تض ّم (الصاعقة‪ ،‬السحب‪ ،‬املطر‪،‬‬ ‫الثو‪ ،‬الخصوبة‪ )..‬واختصاره يف وحدة منطقيّة قد يؤ ّدي به إىل االندثار‪ .‬ذلك أنّ من أل ّد أعدائه‬ ‫عقلنته‪ .‬وال ميكن أن نفهم مبا فيه الكفاية أنّ منطقه ال يخضع لنظام عقال ّين‪ .‬وهذا ال يعني أنّ‬ ‫ولكن الرمز ال يتعلّق باملعرفة‬ ‫وجوده ال م ّربر له‪ ،‬أو أنّه ال يخضع لنظام ما يحاول العقل إدراكه‪ّ .‬‬ ‫فقط‪ .‬يقول «بيار إميانيال» (‪« :)Pierre Emmanuel‬مثل من يحلّل الرمز فكريًّا كمثل من‬ ‫يقش البصل ليعرث عىل البصل‪ .‬ولن يضبط الرمز بإرجاعه تدريجيًّا إىل ما ليس هو‪ ،‬بينام هو ال‬ ‫ّ‬ ‫يؤسسه‪ .‬إنّ املعرفة الرمزيّة واحدة غري قابلة للتجزئة‪ ،‬وال‬ ‫يوجد إال مبقتىض ما ال يُد َرك الذي ّ‬ ‫تكون إالّ عن طريق حدس هذه العبارة األخرى التي ت ُفيدها وت ُخفيها يف اآلن نفسه» (‪ETUP‬‬ ‫‪ .)79‬وهذا ما يؤكّده «هرني كوربان» (‪ )CORI 13‬الذي ذكرناه آنفًا‪ .‬وتهدف هذه التحذيرات‬ ‫إىل تقديم طرافة الرموز غري القابلة لالختصار‪ ،‬أكرث منه إىل إنكار املنطق املحايث لها‪ ،‬والذي‬ ‫البرشي‬ ‫ألي فوىض أو نزوة يف اختيار العقل‬ ‫ّ‬ ‫يبعث فيها الحياة‪ .‬يقول ليفي سرتوس‪« :‬ال مجال ّ‬ ‫لصوره وطريقة جمعها أو تقابلها أو ترتيبها‪ .‬حتّى هناك يبدو هذا العقل أكرث حريّة يف االستسالم‬ ‫لتلقائ ّيتة الخالّقة» (‪.)LEVC‬‬ ‫الرمزي عن نزعة يشرتك فيها مع التفكري العقال ّين مع أ ّن وسائل استجابته تختلف‬ ‫ويَ ِن ُّم التفكري‬ ‫ّ‬ ‫عنها‪ .‬فهو يثبت ‪ -‬كام الحظ ذلك مرسيا إلياد (‪« )ELIT 381‬الرغبة يف توحيد اإلبداع والقضاء‬ ‫الخاصة تقليد لنشاط العقل مبا أ ّن العقل ينزع كذلك‬ ‫عىل التع ّددية‪ ،‬رغبة هي كذلك وبطريقتها‬ ‫ّ‬ ‫إىل توحيد الواقع»‪.‬‬ ‫لكن أن نتخيّل ليس أن نربهن‪ .‬والجدليّات تنتمي إىل نظام مختلف‪ .‬وستكون معايري النظريّة‬ ‫ْ‬ ‫حدسا‪ ،‬ويف عقد الصلة مع الالنهاية‪ .‬أ ّما معايري العقالن ّية‬ ‫الرمزيّة هي الثبات يف نسب ّية اإلدراك ً‬ ‫العلمي‪ .‬واملساران متنافران داخل املبحث نفسه‪ .‬ويسعى‬ ‫فهي املقاس والبداهة والتامسك‬ ‫ّ‬ ‫العقل إىل استبعاد الرمز من مجال رؤيته ليتّسع الشرتاك املقاسات والحدود والتعريفات‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪157 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫تعي عىل‬ ‫وتضع الرمزيّة العقال ّين بني قوسني لتفسح املجال ملامثلة املتخيّل وغموضه‪ .‬وإذا ّ‬ ‫كل يف مجالها‬ ‫الخاصة فهي مع ذلك تستجيب جميعها ّ‬ ‫هذه املساعي املحافظة عىل سامتها‬ ‫ّ‬ ‫وخاصة علوم اإلنسان وجودها م ًعا‪ .‬وبإمكان الرمز أن‬ ‫لرضورات‪ .‬ويقتيض تق ّدم العلوم نفسه‬ ‫ّ‬ ‫علمي يف يوم ما‪ ،‬كام هو شأن األرض باعتبارها كوك ًبا‬ ‫يتص ّور مسبقًا ما سيكون عليه حدث‬ ‫ّ‬ ‫علمي أن يصبح يو ًما ما رم ًزا شأن‬ ‫من بني الكواكب‪ ،‬أو شأن الت ّربع بالقلب‪ .‬وميكن لحدث‬ ‫ّ‬ ‫تفجريات هريوشيام التي ظهرت يف شكل فُطر‪ .‬وعندما يق ّرر عامل أن يهب حياته للبحث فهو‬ ‫يحتل فيها الرمز بشحنته العاطفيّة مكانة مميّزة‪.‬‬ ‫يخضع لقوى العقالنيّة و لنظرة إىل العامل ّ‬ ‫يتخل مع ذلك عن‬ ‫وليك ينفتح اإلنسان‪ -‬عىل عكس ذلك‪ -‬عىل عامل الرموز يجب عليه أالّ ّ‬ ‫متطلبّات عقله‪ .‬ويدعو تعقّل الرموز وحدسها أحدهام اآلخر حتى يتق ّدما يف طريقهام الخاص‬ ‫وقد تباعدا منهج ًّيا ‪ -‬لضامن بقائهام‪ -‬ويحافظ أحدهام عىل اآلخر ويغنيه بتجاوزاته وإغراءاته‬ ‫واستكشافاته‪.‬‬ ‫النفيس‬ ‫لكن أال ميكننا التساؤل عن موضوعيّة رمز ما إذا كان التفسري الذي يق ّدمه املحلّل‬ ‫ّ‬ ‫رشقي عاش يف عرص قبل عرصنا؟ أال ميكن أن‬ ‫بدوي‬ ‫عم يق ّدمه‬ ‫اليوم مثالً يختلف ظاهريًّا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نعترب هذا السؤال مسألة مغلوطة‪ ،‬أليست هذه املصطلحات ذاتها مصطلحات نظريّة تصوريّة‬ ‫للمعرفة؟‪ .‬وليست املوضوع ّية يف الرمزيّة متاه ًيا يف التص ّور وال مطابقة معقّدة قليالً أو كث ًريا بني‬ ‫العقل العارف ويشء معلوم وصيغة شفويّة‪ ،‬وإنّ ا هي ت َشَ ابُ ُه مواقف ومشارك ٌة مخيَّلَ ٌة وشعوريّة‬ ‫للحركة ذاتها وللبنية ذاتها وللرسيامت ذاتها‪ ،‬قد تختلف تعابريها وصورها اختالفًا كب ًريا حسب‬ ‫الرمزي لألساطري اليونانيّة كام ق ّدمها‬ ‫األشخاص واملجموعات واألزمنة‪ .‬فإذا نظرنا مثالً إىل التفسري‬ ‫ّ‬ ‫كل اإلغريق من عا ّمة الشعب والف ّنانني‬ ‫«بول ديل» (‪ ،)Paul Diel‬فإنّه من السخافة أن نظ ّن أن ّ‬ ‫الرمزي أثرى بكثري يف نواح من التفكري‬ ‫املفس املعارص‪ .‬إ ّن التفكري‬ ‫ّ‬ ‫يتقاسمون رصاحة وجهات نظر ّ‬ ‫التاريخي واع وع ًيا تا ًما ومرتكز عىل وثائق وقابل للتواصل بعالمات‬ ‫التاريخي ‪ .‬ذلك أ ّن التفكري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرمزي غارق يف الالّوعي‪ ،‬ويعلو إىل ما يتجاوز الوعي‪ ،‬ويستند إىل التجربة‬ ‫مح ّددة‪ ،‬بينام التفكري‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة والتقليد‪ .‬وهو ال ينترش إالّ بنسبة االنفتاح والقدرات الذات ّية‪ .‬والرمز ماثل هنا مثول األسود‬ ‫ّ‬ ‫قس عىل أبواب‬ ‫املقابلة ألبواب «ميسان» (‪ )Mycènes‬ومثول األسد املنتصب الذي ذبحه أمري أو ّ‬ ‫أي قصيدة‬ ‫بارسايبوليس (‪ )Persépolis‬أو كقصيدة املقربة البحريّة لبول فالريي (‪ )Paul Valéry‬أو ّ‬ ‫العاملي «مع كل مدلوالتها امل ُمكنة‪ .‬وعىل م ّر العصور وبفضل تط ّور‬ ‫أخرى وكسمفونيّة « اإليخاء‬ ‫ّ‬ ‫يعب الرمز يف لغة جديدة‪ ،‬ويبعث أصداء غري متوقّعة‪ ،‬ويكشف عن معان‬ ‫الثقافات والعقول‪ّ ،‬‬ ‫يل وبالتامسك يف تأويالته املتتالية‪.‬‬ ‫خفيّة‪ ،‬لك ّنه يحافظ عىل تو ّجهه األ ّو ّيل بوفائه للحدس األص ّ‬ ‫بعيني‬ ‫وتنتظم الرسيامت الناقلة حول محور واحد‪ .‬إ ّن قراءة ميثيولوجيا تعود إىل آالف السنني‬ ‫ْ‬ ‫العدد‬

‫(‪158 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫مم عنده‪ ،‬بل ميكن أن‬ ‫نفيس معارص ال تعني خيانة املايض وال توجيه االهتامم إليه أكرث ّ‬ ‫محلّل ّ‬ ‫يكون يف ذلك تغاض عن حقيقة ما‪ .‬لك ّن هذه القراءة الح ّية التي تذكيها شعل ُة الرمز تسهم بحياتها‬ ‫القصة أو الصورة هي ذاتها لك ّنها‬ ‫الخاصة وتجعلها يف الوقت ذاته أكرث ق ّوة وأكرث راهنيّة‪ .‬وتبقى ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتتغي‬ ‫تتفاعل مع مستويات مختلفة من الوعي واإلدراك يف أوساط عىل قدر من القابل ّية للتأث ّر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫درجات الفوارق الرمزيّة مع حدود العالقة التي تك ّونها‪ .‬ومع ذلك تبقى هذه العالقات متامثلة‪،‬‬ ‫وتظل قوى سهم ّية يف صلب البنية العميقة تحكم مختلف التأويالت التي تتط ّور عىل م ّر العصور‬ ‫ّ‬ ‫الرمزي نفسه‪.‬‬ ‫حول املحور‬ ‫ّ‬ ‫نسقي‪ .‬فهذا القاموس ال يستهدف إالّ تقديم مجموعة من‬ ‫كل تفكري‬ ‫لنرضب صف ًحا عن ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫الرموز اإليحائ ّية واالستحضاريّة الهادفة إىل توسيع آفاق الذهن واإليحاء للمخ ّيلة وإثارة ر ّدة‬ ‫الفعل الشخصيّة ال إىل تحنيط املعطيات املكتسبة‪ .‬ويكتسب القارئ بتصفّحه هذه الورقات‬ ‫حل الكثري من األلغاز بنفسه‪ .‬وإذا رام التع ّمق يف‬ ‫الرمزي‪ ،‬ويرتقي إىل ّ‬ ‫ُدربة عىل التفكري‬ ‫ّ‬ ‫موضوع ما فام عليه إالّ االنكباب عىل املؤلّفات ذات االختصاص‪ .‬وقد استع ّنا بالكثري منها‪،‬‬ ‫كل االمتنان إذا و ّجه إلينا مالحظاته‬ ‫ويجدها القارئ مثبتة يف الببليوغرافيا‪ .‬وأخ ًريا له م ّنا ّ‬ ‫خاصة حوا ًرا‬ ‫النقديّة أو التكميليّة‪ .‬وليكُن هذا الكتاب حسب رغبة نيتشه ‪ّ ) )Nietzsche‬‬ ‫وإثار ًة ودعو ًة وإيحا ًء‪.‬‬ ‫املؤسسني من الشعراء شأن «نوفاليس» (‪ )Novalis‬و»جون بول‬ ‫ويف الختام لننصف‬ ‫ّ‬ ‫هلدرلن»(‪ )Jean-Paul Hölderlin‬و«أدغار بو» (‪ )Edgar Poe‬و«بودلري» (‪)Baudelaire‬‬ ‫و«رمبو» (‪ )Rimbaud‬و«نرفال» (‪ )Nerval‬و«لوتراميون» (‪ )Lautréamond‬و«ماالرمي»‬ ‫(‪ )Mallarmé‬و« ِج ّري» (‪ )Jarry‬ومتص ّويف الرشق والغرب وماحيي طالسم عصور العامل يف‬ ‫واألمريكتي‪ .‬فالرموز تجمعهم‪ .‬أمل يو ّجه «أندري بروتون» (‪)André Breton‬‬ ‫إفريقيا وآسيا‬ ‫ْ‬ ‫سهام نقده يف قرن العلوم الصحيحة والطبيعيّة إىل ِ‬ ‫هوس ر ِّد املجهول إىل املعلوم وإىل القابل‬ ‫لهاتي‬ ‫للتصنيف املحتضن للعقول؟ ول ُنذكِّ ْر بإعالن مبادئ البيان‪« :‬إنّني أومن ّ‬ ‫يل ْ‬ ‫بحل مستقب ّ‬ ‫السلطتي املتاض ّد ْتي يف الظاهر وهام الحلم والحقيقة يف نوع من الحقيقة املطلقة والرسياليّة‬ ‫ْ‬ ‫صح التعبري»‪. ‬‬ ‫إذا ّ‬ ‫واآلن حتى نستعيد كلامت «مارت أرنولد» (‪« )Marthe Arnould‬لِن ُج َّد يف البحث عن مفاتيح‬ ‫الخفي واملق ّدس‬ ‫السبل القومية ولْ َنبْحثْ عن الحقيقة يف ما وراء املظاهر وعن الفرح وعن املعنى‬ ‫ّ‬ ‫لكل ما عىل البسيطة الساحرة والرهيبة‪ .‬إنّه طريق املستقبل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العدد‬

‫(‪159 )6‬‬

‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز»‬

‫مرسد املصطلحات‬

‫نص الوصول‪.‬‬ ‫نص االنطالق وقابلناها مبا يف ّ‬ ‫رتّبنا مصطلحات هذا املرسد حسب ورودها يف ّ‬

‫العدد‬

‫‪Aliénation‬‬ ‫‪Allégorie‬‬ ‫‪Analogie‬‬ ‫‪Apologie‬‬ ‫‪Archétypes‬‬ ‫‪Attribut‬‬

‫استالب‬ ‫مجاز صوري‬ ‫مقايسة‬ ‫خرافة حكم ّية‬ ‫مناذج أصل ّية‬ ‫صفة‬

‫‪Autogénique‬‬ ‫‪Conceptualisation‬‬

‫ذايت التولّد‬ ‫مفهمة‬

‫‪)Contenant (Le‬‬ ‫‪Cosmogonie‬‬ ‫‪Cosmogénique‬‬ ‫‪Dogmatique‬‬ ‫‪Emblème‬‬ ‫‪Epiphanie symbolique‬‬ ‫‪Exploratoire‬‬ ‫‪Fantasmagorie‬‬ ‫‪Fantasmatique‬‬ ‫‪Fantasme‬‬ ‫‪Hétérogénéisant‬‬ ‫‪Homogène‬‬ ‫‪Homogénéîsant‬‬ ‫‪Homogénéîté‬‬ ‫‪Identification‬‬

‫الحاوي‬ ‫نشكون ّية‬ ‫كو ّين املنشإ‬ ‫عقديّة‪ -‬دوغامئ ّية‬ ‫شعار‬ ‫رمزي‬ ‫ّ‬ ‫تجل ّ‬ ‫استكشايف‬ ‫استشباح‬ ‫استيهامي‬ ‫استيهام‬ ‫ُمغايِر‬ ‫متجانس‬ ‫ُم َجانِس‬ ‫تجانس‬ ‫مامثلة‬

‫(‪160 )6‬‬

‫جون شوفالييه & أالن قريبرانت‬

‫متخ َّيل‬ ‫ُمخ ِّيل‬ ‫مخ ّيلة‬/‫خيال‬ ‫خيال خالّق‬ ‫مخ ّيلة جامحة‬ ‫مخ ّيلة مج ِّم َحة‬ ‫نزعة ُم َف ْر ِدنة‬ ‫تفريد‬ )‫مسا ّري( مع ِّمد‬ ‫الالمر ّيئ‬ ‫وسيط‬ ‫استعارة‬ ‫موضوع‬ ‫َمث ٌَل‬ ‫إدراك‬ ‫نزعة وضعانويّة‬ ‫استشعار‬ ‫مبدأ الثالث املرفوع‬ ‫مبدأ الثالث املتضَ ّمن‬ ‫النفس‬ ‫عقلنة‬ ‫عقالنوي‬ ّ ‫عمل ّية عقل ّية‬ ‫َصدَ ى‬ ‫ترجيع‬ ‫رسيامت‬ ‫رسيامت مح ّركة للصور‬ ‫رسيامت ناقلة‬ ‫العدد‬

161 )6(

Imaginaire Imaginatif Imagination Imagination créatrice Imagination exaltée Imaginaion exaltive )Individualisante (tendance Individuation Initiateur )’Invisible(L Médiateur Métaphore Objet Parabole Perception )Positiviste (tendance Pressentiment Principe du Tiers exclu Principe du Tiers inclus )Psyché (Le Rationalisation Rationaliste )Rationnelle (opération Retentissement Résonnance Schèmes Schèmes eidolo-moteurs Schémes conducteurs

»‫ترجمة مقدّمة «معجم الرموز‬

‫فصامي التولّد‬ ّ ‫فصامي الشكل‬ ّ ‫وظيفة جمعنة‬ ‫َر ْو َح َنة‬ ‫بَن ْي َنة‬ ‫ُم َب ِن َي‬ ‫ذاتان ّية‬ ‫بديل‬ ‫ذات‬ ‫رمزي‬ ّ ‫الرمزيّة‬ ‫وظيفة رامزة‬ ‫النظريّة الرمزيّة‬ ‫علم الرمز‬ ‫أمارة‬ ‫َم ْن َسق‬ ‫نسقنة‬ ‫قصدي‬ ّ ‫تجربة ُمكلَ ِي َنة‬ ‫نزعة ُمكَوننة‬ ‫العموديّة‬

Schizogénique Schizomorphe )Socialisante (fontion Spiritualisation Structuration Structuré Subjectivisme Substitut Sujet )Symbolique (adj )Symbolique (La )Symbolisante (fonction )Symbolisme (le )Symbologie (la Symptome Synthème Systématisation Téléonomique )Totalisante (expérience )Universalisante (tendance )Verticalité ( La

‫العدد‬

162 )6(

‫ألباب الكتب‬

‫البيوغرافيا الثقاف ّية‬ ‫الكتاب‪« :‬التلمذة الفلسفية»‬ ‫تأليف‪ :‬هانز جورج غادامري‬ ‫ترجمة‪ :‬حسن ناظم‬ ‫مؤسسة دار الكتاب الجديد للنرش والتوزيع ‪2013‬‬ ‫النارش‪ّ :‬‬ ‫قراءة‪ :‬خالد طحطح‬ ‫الكلامت املفتاحية‬

‫البيوغرافيا الثقافية‪ :‬تقتيض إعادة الصلة للقطيعة التي سادت طويال بني الفكر والوجود‬ ‫الوجود‪ :‬هو مفهوم له داللة انطولوجية وفلسفية هائلة يف مرشوع هايدغر‪،‬بل هو املحك يف‬ ‫بيان االختالف االنطولوجي بني الوجود واملوجود‪.‬‬ ‫ارتبطت بـ«هتلر» يف أملانيا‪.‬‬ ‫النازية‪ :‬نزعة سياسوية وقومية‬ ‫ْ‬

‫تقديم‪:‬‬

‫رغم تعدد وجهات النظر حول الجوانب التي يجب الرتكيز عليها يف سري املفكرين‪ ،‬ما املهم وما‬ ‫غري املهم يف حياة الشخص املفكر‪ ،‬ال بد أن نشري إىل أن التاريخ الفكري وتاريخ املفكرين مل يتمتع‬ ‫بسمعة جيدة يف أوربا‪ ،‬فقد اعترب ولزمن طويل أحد الطابوهات املحرمة‪ ،‬ولذا انرصف اإلهتامم‬ ‫عنه‪ ،‬ألنه اقرتن دامئا بسري حياة األفراد‪ ،1‬وقد اعترب جاك لوغوف (‪ )Jacques Le Goff‬أن تاريخ‬ ‫الفكر يدخل ضمن لغط األجواء الباريسية‪ ،‬وعده مجرد موضة عابرة‪ ،‬واستهزأ به قائال‪« :‬دراسة‬ ‫املوضة الفكرية من األمور الجدية‪ ،‬وهي جديرة بأن تكون موضوع بحث تاريخي طريف»‪ .‬ولذا‬ ‫فقد أسس مقابله تاريخ العقليات‪ ،‬الذي وضع حاجزا كبريا بني التاريخ اإلجتامعي واإلقتصادي من‬ ‫جهة والتاريخ الفكري من جهة ثانية‪ ،‬وتم تصنف هذا األخري خارج مجال التاريخ‪.‬‬

‫‪ - 1‬جاك لوغوف ‪.‬التاريخ الجديد‪ .‬ترجمة وتقديم محمد الطاهر املنصوري‪ ،‬مراجعة عبد الحميد هنية‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪ ،2007 ،‬ص‪.41‬‬ ‫العدد‬

‫(‪163 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫التاريخ الفكري‪ ،‬كفرع مستقل‪ ،‬ميثل ظاهرة حديثة بالرغم من وجود صور له بشكل أو بآخر يف‬ ‫املايض‪ ،‬وتبقى اللحظة التي يرتبط بها ازدهاره بشكل حقيقي بعد الحرب العاملية الثانية مبارشة‪،‬‬ ‫مع تأسيس دورية تاريخ األفكار من قبل آرثر الفجوي (‪ .)Arthur O. Lovejoy‬أما يف الواليات‬ ‫املتحدة‪ ،‬فقد اتسع نطاقه وتوسعت مؤسساته الحاضنة‪ ،‬وقد تطور يف أوربا هذا النوع من التاريخ‬ ‫مع بروز تيارات اتخذت من التاريخ الفكري ميدانا الشتغالها وبالخصوص يف أملانيا‪ ،‬حيث ازدهر‬ ‫تيار املفاهيم مع أعامل كوزيليك (‪ )Reinhart Koselleck‬ورفقائه‪ ،‬ويف بريطانيا بالخصوص تم‬ ‫الرتكيز بشكل خاص عىل تاريخ الفكر السيايس منذ السبعينيات‪.‬‬ ‫بدأ التاريخ الثقايف يجدد منذ بضع سنوات حقل البحث التاريخي‪ ،‬وقد استطاعت البيوغرافيات‬ ‫التاريخية بخصائصها الجديدة أن تحل العالقة املتشنجة بني التاريخ الثقايف والتاريخ االجتامعي‪،‬‬ ‫فقد انخرط عدد كبري من املؤرخني الحاليني يف إعادة االعتبار لهذا الجنس‪ ،‬حيث تم دراسة تاريخ‬ ‫الفكر‪ ،‬وحركة تطور األفكار يف العلوم اإلنسانية والفلسفة‪ ،‬التي تم تجديدها وتوسيعها بعد‬ ‫تجاهلها بشكل تام يف السابق‪ ،2‬ويعترب هذا املوضوع فرعا جديدا من املعرفة التاريخية‪ ،‬وقد‬ ‫بدأ يزدهر بشكل كبري مع اإلصالح الجامعي وتغري طرق التدريس‪ .‬ومع تزايد مكانة املثقفني يف‬ ‫املجتمع‪ ،‬وانخراطهم يف املشاركة بفعالية يف الحياة العامة من خالل شبكة من العالقات والنفوذ‬ ‫التي تغذيها التوجهات وااليديولوجيات املختلفة‪ ،‬تصاعدت مكانة املثقف وتأثرياته‪ ،‬وبالخصوص‬ ‫بعد فصل ارتباطاته املالية والسياسية والفكرية بالسلطة الرسمية‪.3‬‬ ‫نتناول يف معرض قراءتنا بيوغرافية ثقافية ذاتية هامة‪ ،‬أنجزها الفيلسوف هانز جورج غادامري‪،‬‬ ‫واملوسومة بـ التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية‪ .‬والكتاب ترجمه عن اللغة األملانية حسن ناظم‪ ،‬ونرشته‬ ‫مؤسسة دار الكتاب الجديد للنرش والتوزيع سنة ‪ ،2013‬يف ‪ 332‬صفحة‪ ،‬والعنوان األصيل للكتاب يف‬ ‫لغته األصلية (‪Gadamer –Hans Georg, philosophische lehrjahre, vittorio klostermann‬‬ ‫‪ ، )GmBH. Frankfyrt am Main. 1997‬ومن الجدير بالذكر أن الكتاب قد أعيد طبعه سنة ‪.1995‬‬ ‫‪ - 2‬وذلك من خالل كتبه‪ :‬مسرية األفكار‪:‬التاريخ الفكري وتاريخ املفكرين‪ ،‬وتاريخ البنيوية‪ ،‬وأيضا أطروحته التاريخ املفتت من الحوليات‬ ‫إىل التاريخ الجديد‪ ،‬والتي هي تاريخ نقدي لتاريخ الحوليات‪ .‬راجع‪:‬‬ ‫‪La marche des idées. Histoire des intellectuels, histoire intellectuelle, Paris, La Découverte, 2003‬‬ ‫‪L'Histoire en miettes. Des "Annales" à la "nouvelle histoire", Paris, la découverte, 1987 (2e édition : Presses Pocket,‬‬ ‫‪"Agora", 1997‬‬ ‫‪.‬عن بيوغرافيات املثقفني‪ ،‬يراجع‪ :‬خالد طحطح‪ ،‬البيوغرافيا والتاريخ‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2004 ،‬من ص ‪ 96‬اىل ص‪3 - 102‬‬ ‫العدد‬

‫(‪164 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫ولد هانز جورج غادامري يف ماربورغ بأملانيا‪ ،‬وعىل عكس رغبة أرسته اختار التخصص يف الفلسفة‪،‬‬ ‫وقد متكن من الحصول عىل شهادة الدكتوراه سنة ‪ 1922‬يف موضوع جوهر املتعة يف حوارات‬ ‫أفالطون‪ ،‬وبعدها بفرتة وجيزة التحق بدروس مارتن هايدغر ‪ Martin Heidegger‬بفرايبورغ‪ ،‬وقد‬ ‫أسهم هذا األخري بشكل كبري يف تشكُّل فكره الفلسفي‪ ،‬وجعله يبتعد بشكل تدريجي عن تيارات‬ ‫الكانطني الجدد‪ ،‬الذين تأثر بهم يف بداية مساره‪ ،‬وقد اشتهر غادامري بعمله املميز‪ ‬الحقيقة واملنهج‪،‬‬ ‫وأيضا بتجديده النظرية التأويلية (الهريمونيطيقيا)‪.‬‬ ‫بدأ جورج غادامري مهمة التدريس يف ماربورغ سنة ‪ ،1930‬وخالفا ألستاذه هايدغر ظل بعيدا‬ ‫عن النازية‪ ،‬وهو ما أهله بعد الحرب لشغل منصب رئيس جامعة اليبزيغ‪ ،‬ويف سنة ‪ 1949‬شغر‬ ‫كريس كارل ياسربس ‪ Karl Jaspers‬بعد وفاته؛ فشغله ‪ .‬وظل يف منصبه التدرييس هذا إىل أن‬ ‫وافته املنية عام ‪.2002‬‬ ‫يلقي غادامري يف سريته الذاتية‪ ،‬موضوع القراءة‪ ،‬الضوء عىل أحوال الجامعة بأملانيا يف ربيع‬ ‫العام ‪ 1933‬زمن صعود النازية؛ ففي هذه املرحلة العصيبة التي كانت فيها الحياة عرضة للموت‬ ‫االعتباطي والنفي‪ ،‬داهمت الجامعة املراسيم األكادميية الجديدة املتعلقة بتحية أدولف هتلر‪،4‬‬ ‫حيث أصبح رفض أداء التحية يعني الطرد من الجامعة‪ ،‬يقول غادامري‪« :‬ظهرت يف املراسيم‬ ‫األكادميية مسألة تتعلق بتحية هتلر‪ .‬وهي مسألة كانت حساسة لقادة الجامعة‪ ،‬فظهر إعالن غري‬ ‫واضح نوعا ما يفيد بأن التحية غري ملزمة للذين يرتدون العباءة الجامعية ألسباب تتعلق بالشكل‪،‬‬ ‫وقد أطلق هذا اإلعالن رسميا ككلمة رس‪ ،‬وكان من الالفت مشاهدة بعض منا ممن كانوا مفرطي‬ ‫الحامسة‪ ،‬إذ ظلوا رغم ذلك يرفعون أيديهم للتحية‪ ،‬بعد نصف عام من ذلك صار رفض تحية هتلر‬ ‫سببا للطرد من الوظيفة»‪.5‬‬ ‫ضمن هذا السياق العام ستطرح إحدى أهم القضايا يف تاريخ الفكر الفلسفي املعارص‪ ،‬وهي‬ ‫عالقة اإلبداع الفكري بااللتزام السيايس‪ ،‬وألن األمر يتعلق مبفكر بارز هو الفيلسوف األملاين مارتن‬

‫‪ - 4‬التحية الهتلرية كانت إلزامية‪ ،‬ذلك ما أكده بول ريكور يف شهادته عندما كان رفقة زوجته بأملانيا يف فرتة صعود النازية‪ ،‬حوار مع‬ ‫بول ريكور‪ :‬من فاالنس إىل نانتري‪ ،‬أنجزه فرانسوا أزويف‪ ،‬ومارك دولوين‪ ،‬ترجمة حسن العمراين‪ ،‬مجلة يتفكرون‪ ،‬فصلية ثقافية‪ ،‬فكرية‪،‬‬ ‫العدد الثالث‪ ،‬شتاء ‪ ،2014‬ص‪.244‬‬ ‫‪ - 5‬جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية‪ ،‬ترجمة حسن ناظم‪ ،‬عيل حاكم صالح‪ ،‬الكتاب الجديد‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،،2013‬ص‪151‬‬ ‫العدد‬

‫(‪165 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫هايدغر؛ فإن هذه العالقة ستكتيس أهمية كربى يف نقاش العديد من الفالسفة واملفكرين‪ .6‬فكيف‬ ‫تحددت العالقة بني الفيلسوف هايدغر والنازية؟ وما مكانة الفكر الهايدغري يف الفلسفة املعارصة‬ ‫يف ظل تصاعد الجدال بشأن التزامه السيايس؟ وما الرس يف حضور هذا الفيلسوف بشكل مستمر‬ ‫يف الحياة الفلسفية والفكرية يف حياته وبعد مامته؟ وكيف نظر غادامري إىل التزامه السيايس‬ ‫ومنعطفاته الفكرية؟ وكيف تناول باقي الفالسفة وكتاب البيوغرافيا يف أملانيا وخارجها مواقفه‬ ‫السياسية وااليديولوجية يف عالقاتها بخطاباته ومساره اإلبداعي كمفكر ؟ وما حدود العالقة بصفة‬ ‫عامة بني الشخص الفيلسوف وأعامله ؟‬ ‫استهل غادامري كتابه التلمذة الفلسفية بوعد ضمني‪« :‬من األوىل عدم الحديث عن الذات»‪،7‬‬ ‫وهذا الوعد يُعترب واحدا من مفاتيح سرية غادامري الذاتية؛ فهو ينبهنا بدءا أن الخيار األفضل هو‬ ‫الصمت إزاء الذات‪ ،‬وهو املبدأ الذي احرتمه ونجح يف تطبيقه غالبا يف الكتاب‪ ،‬حيث األولوية‬ ‫للفكر‪ ،‬فالتلمذة الفلسفية سرية ذاتية غادامريية بناها اآلخرون بحيواتهم‪ ،‬إنها سرية ذاتية آخرية‪،‬‬ ‫سرية تكشفت عرب الفالسفة اآلخرين الذين عاش معهم‪ ،‬وإذا استثنينا جزءا بسيطا من هذه السرية‪،‬‬ ‫وهو ما يتعلق بتفصيالت عن مراهقته وشبابه‪ ،‬سنجد سرية اآلخرين ممن عاش معهم غادامري أكرث‬ ‫حضورا‪ ،‬فكل عنوان من عناوين هذه السرية‪ ،‬إمنا يتعلق بفيلسوف أملاين خرب سجيته وشخصه‪،‬‬ ‫ودقائق حياته‪ ،‬ناهيك عن تفلسفه‪ ،‬يكتب غادامري سريته مستحرضا عرشة فالسفة أملان‪ ،‬يتحدث‬ ‫عن تفاصيل حياتهم‪ ،‬عن كيفية تفلسفهم‪ ،‬وحامسة كالمهم‪ ،‬وعن لفتات عيونهم‪ ،‬وحركات أيديهم‪،‬‬ ‫وأشكال مالبسهم‪ ،‬وأمكنة سكناهم‪ ،‬وحتى أحذيتهم‪.8‬‬ ‫ونقف يف الكتاب عىل مدى األثر الذي خلفه هايدغر يف حياة غادامري‪ ،‬إذ كان الشخص الذي‬ ‫سلك به إىل التجربة الفلسفية التي شبهها بالصعقة الكهربائية‪ ،9‬وهو دين وفاه غادامري ألستاذه‬ ‫‪ - 6‬يورغن هابرماس‪ ،‬هايدغر والنازية‪ ،‬التأويل الفلسفي وااللتزام السيايس‪ ،‬ترجمة عز الدين الخطايب‪ ،‬تقديم ‪ ،‬منشورات عامل الرتبية‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪ ،2005 ،‬ص‪ 3‬من تقديم عبد الكريم غريب‪.‬‬ ‫‪ - 7‬نجد نفس الرأي عند روالن بارط‪ ،‬فالظاهر أنه مستعد ألن يفعل املستحيل حتى ال يحتويه تعريف‪ ،‬إنه ال يحتمل أن تتشكل له‬ ‫صورة ويتعذب لدى ذكر اسمه‪ .‬ونجد يف الحوار الذي أجراه الفيلسوف املثري للجدل السلوفيني سيالفوي جيجيك حجاجا غري عادي‬ ‫بخصوص األمور املتعلقة بالحياة الشخصية‪ ،‬فهي ال تغذي أي اهتامم حقيقي بالنسبة إليه‪ ،‬بل اعترب من الخطأ أن يتحدث اآلخرون عن‬ ‫شخصه‪ ،‬ألن املهم هو النظرية‪ ،‬أما األنا فليس موجودا‪ .‬راجع‪ :‬خالد طحطح‪ ،‬البيوغرافيا والتاريخ‪ ،‬م‪،‬س‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪ - 8‬جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية ‪،‬م س‪ ،‬ص‪ 8-9‬من تقديم املرتجم‪.‬‬ ‫‪ - 9‬هانز جورج غادامري‪ ،‬طرق هايدغر‪ ،‬ترجمة حسن ناظم‪ ،‬عيل حاكم صالح‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2007.‬ص‪.27‬‬ ‫العدد‬

‫(‪166 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫من خالل جهوده التي بذلها إلعادة دمجه يف الحياة الفكرية بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬حيث‬ ‫خلفت أفعال هايدغر يف الثالثينيات أعداء له خصوصا يف هايدلبريغ‪ ،‬فبعد سقوط الرايخ الثالث‪،‬‬ ‫كان هايدغر ممنوعا من مواصلة عمله كأستاذ يف فرايبورغ جزاء تورطه مع النازية‪ ،‬حيث انعزل‬ ‫يف كوخ جد متواضع يف شفاردتسفالد‪ ،‬وكان غادامري خالل هذه الحقبة يزوره كثريا رفقة عدد من‬ ‫طلبته‪ .‬وقد أفلح يف الخمسينيات‪ ،‬رغم معارضة بعضهم‪ ،‬من أن يحصل عىل املوافقة عىل قبول‬ ‫هايدغر يف أكادميية هايدلبريغ للعلوم‪ ،‬وكان هذا أمرا بالغ الصعوبة مثل الصعوبة التي واجهها أثناء‬ ‫تقدميه هايدغر بكتاب يحتفي به يف عيد ميالده الستني‪ ،‬فقد قوبل بحاالت رفض صاعقة وحاالت‬ ‫قبول فاترة‪ ،‬غري أنه نجح يف األخري بفضل شجاعة أصدقاء هايدغر وطالبه‪ .10‬وقد عاد غادامري إىل‬ ‫الحديث مرة ثانية عن أستاذه يف كتاب سامه طرق هايدغر‪ ،‬ونالحظ أن هذا العنوان مقتبس‬ ‫من العبارة التي تتصدر اإلنتاج الفكري لهايدغر «طرق وليست أعامال»‪ ،‬فعندما عزم هذا األخري‬ ‫كتابة مدخل ألعامله الكاملة التي أرشف عليها بنفسه اختار لها هذا الشعار‪ .11‬ويف الحقيقة نلمس‬ ‫عنده يف أعامله الالحقة دوما طرقا جديدة وخربات فكرية جديدة‪ ،‬فقد بدأ العمل يف هذه الطرق‬ ‫لسنوات قبل انغامسه يف السياسة‪ ،‬وبعد فرتة قصرية من تخبطه السيايس‪ ،‬استأنف من دون توقف‬ ‫يذكر االتجاه الذي كان قد بدأه‪. 12‬‬ ‫إن التأثري الكبري الذي تركه هايدغر تم خالل العقدين الثالث والرابع من القرن العرشين‪ ،‬قبل أن‬ ‫تزري به السياسة‪ ،‬وبعد الحرب استعاد تأثريه ثانية‪ ،‬فقد حدث هذا بعد فرتة من العزلة النسبية؛‬ ‫ففي أثناء الحرب مل يكن قادرا عىل النرش‪ ،‬ألنه بعد سقوطه السيايس مل يرغب أحد يف إعطائه أي‬ ‫مجال‪ ،‬ولكن رغم هذا كله كان لهايدغر حضور طاغ يف فرتة ما بعد الحرب‪.13‬‬ ‫انطلق غادامري يف كتابه عن سرية هايدغر الفكرية من تساؤل أسايس‪ ،‬وهو‪ :‬ما رس حضور هذا‬ ‫الفيلسوف بشكل دائم يف الفلسفة بعد وفاته؟‬ ‫يبذل غادامري جهدا قويا من أجل فهم مواطن جذرية تجربة هايدغر الفلسفية وأصالتها‪ ،‬فمن‬ ‫املعروف أن هايدغر ينحدر من عائلة كاثوليكية‪ ،‬ترعرع بني أحضانها‪ ،‬ودرس يف مدينة كونستانز‪،‬‬ ‫‪  -10‬هانز جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية‪،‬م س‪ ،‬ص‪.270‬‬ ‫‪ - 11‬هانز جورج غادامري‪ ،‬طرق هايدغر‪ ،‬م‪،‬س‪ ،‬ص‪287‬‬ ‫‪ - 12‬املرجع نفسه ص‪.58‬‬ ‫‪  -13‬نفسه ص‪.59‬‬ ‫العدد‬

‫(‪167 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫وبعد تخرجه أمىض مع اليسوعيني فرتة قصرية يف فيلدكرش‪ ،‬ثم انضم الحقا إىل حلقات دراسية‬ ‫الهوتية يف فرايبورغ لفصول قليلة‪ ،‬ويظهر خالل هذه املرحلة من شبابه انغامسه الديني الواضح‪،‬‬ ‫كام يف سنواته املبكرة‪ ،‬إال أنه كان مولعا إىل جانب ذاك بالفلسفة‪.14‬‬ ‫إن موهبة هايدغر تفتقت يف مرحلة مبكرة‪ ،‬وجلبت له النجاح الرسيع‪ ،‬فبإرشاف ريكرت كتب‬ ‫أطروحته عن مبدأ الحكم يف النزعة النفسانية‪ ،‬وذلك أهله ألن يكون محارضا جامعيا وهو يف‬ ‫سن السابعة والعرشين‪ ،‬وأصبح مساعدا ألحد أتباع ريكرت يف فريبورغ‪ ،‬وهو ادموند هورسل‬ ‫(‪ ،)Edmund Husserel‬وظل لسنوات مساعدا ملؤسس الفينومينولوجيا (‪،)Phénoménologie‬‬ ‫وفيام بعد صار زميال له‪ ،15‬وكأستاذ مساعد كان هايدغر يف تلك السنوات معلام ذا نجاح غري‬ ‫اعتيادي‪ ،‬ورسعان ما منا تأثريه السحري عىل من كانوا أصغر منه وعىل من كانوا يف سنه‪ ،‬فالطلبة‬ ‫الذين كانوا يأتون إىل فرايبورغ حتى يف العام ‪ 1921-1920‬كانوا يتحدثون عن هورسل أقل مام‬ ‫يتحدثون عن هايدغر‪ ،‬وعن محارضاته الثورية العميقة‪ ،‬وطريقته غري املألوفة‪.16‬‬ ‫وبالطبع ازداد تأثري هايدغر األكادميي بصورة كبرية خالل السنوات الخمس التي قضاها يف‬ ‫التعليم يف ماربورغ‪ ،‬وفجأة برز للعيان عام ‪ 1927‬بكتابه الوجود والزمان‪ ،‬واحدا من جبابرة‬ ‫الفلسفة يف القرن العرشين‪ ،‬فبهذا الكتاب حصل عىل صيت عاملي‪ ،‬وأصبح بذلك املفكر األشهر‬ ‫يف زمانه بعد النجاح الفوري الذي حصده كتابه‪ 17،‬وبالطبع حقق ذلك يف سن مبكرة من حياته‪.‬‬ ‫كانت شهرة الشاب هايدغر العاملية الواسعة فريدة متاما‪ ،‬واستمرت فرادته حتى بعد سقوط‬ ‫الرايخ الثالث‪ ،‬فعندما كان هايدغر ممنوعا من مواصلة عمله أستاذا يف فرايبورغ جزاء تورطه مع‬ ‫هتلر‪ ،‬بدأت رحلة حقيقية ملحبيه نحو توتنابريغ حيث قىض هايدغر الشطر األكرب من أيامه يف‬ ‫كوخه‪ ،‬وهو بيت صغري وجد متواضع‪ .‬وقد كرس هايدغر الجزء األكرب من وقته خالل هذه الفرتة‬ ‫العصيبة لرشح نيتشه رشحا مكثفا‪ ،‬فظهر ذلك الحقا يف كتاب ذي مجلدين‪ ،‬وكان هذا الكتاب‬ ‫النظري الحقيقي لكتاب الوجود والزمان‪ .18‬ويشكل عقد الخمسينيات نقطة أساسية يف حضور‬ ‫‪ - 14‬نفسه‪ ،‬ص‪.344‬‬ ‫‪ - 15‬نفسه ص ‪.262‬‬ ‫‪ - 16‬نفسه‪ ،‬ص‪.346‬‬ ‫‪ - 17‬نفسه‪ ،‬ص‪.123‬‬ ‫‪ - 18‬نفسه ص ‪.254‬‬ ‫العدد‬

‫(‪168 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫هايدغر مجددا‪ ،‬بالرغم من ندرة نشاطاته التعليمية‪ ،‬فام الرس يف هذا الحضور الثابت؟ يتساءل‬ ‫غادامري‪.‬‬ ‫إن عودة هايدغر متت بطريقة مختلفة عن السابق؛ ففي الثالثينيات وبواكري األربعينيات‪،‬‬ ‫اعتمد بشكل كبري عىل اإللقاء األكادميي‪ ،‬من خالل محارضاته خاصة‪ ،‬قبل أن يعرفه جمهوره‬ ‫وبشكل واسع‪ ،‬مبا دعاه هايدغر باملنعطف‪ ،‬ويربط غادامري ذلك بحامقة أستاذه السياسية التي‬ ‫حدثت نتيجة توقه إىل القوة وانخداعه بالرايخ الثالث ‪ ،‬فبعد نرشه رسالة يف اإلنسانية سنة ‪،1946‬‬ ‫وهي من أجمل مقاالته‪ ،19‬واستمر بعدها يف التواجد من خالل الخطوات التي قطعها يف السنوات‬ ‫الالحقة‪.‬‬ ‫راهنية هايدغر يف هذا الكتاب ترتبط بقوة نصوصه الفلسفية‪ ،‬واملوضوعات الجديدة التي اشتغل‬ ‫عليها وهي‪ :‬العمل الفني‪ ،‬واليشء‪ ،‬واللغة‪ ،‬والشعر‪ ،20‬كام تربز أهميته يف مفهوم الوجود الذي‬ ‫صاغه‪ ،‬ويف انعطافه الشديد نحو الشاعر األملاين هولدرلني‪ ،‬وأيضا يف محاولته تأويل نيتشه‪ ،‬وليس‬ ‫بانزالقاته السياسية الخطرة خالل الثالثينيات‪ .‬هذا هو جوهر ما أراد أن يبلغه لنا غادامري‪ ،‬ونلمس‬ ‫يف الكتاب أيضا األبعاد القوية للعالقة الشخصية التي جمعت التلميذ بأستاذه‪ ،‬فغادامري يقدم‬ ‫قراءة ألستاذه هايدغر‪ ،‬الفيلسوف األملاين األكرث تأثريا وجدال يف القرن العرشين دون أن يتخلص‬ ‫من جاذبية أستاذه‪ ،‬وعالقته املتينة به‪ ،‬والتي امتدت لسنوات‪ ،‬فيصف لنا لحظة اللقاء األول به يف‬ ‫فرايبورغ‪ ،‬ويتحدث عن أسلوبه غري املألوف‪ ،‬ويصف لنا مشاهداته له يف مناسبات عديدة‪.‬‬ ‫دراسات هذا الكتاب تتناول هايدغر من خالل مقاالت ومحارضات وخطب تذكارية كتبت بني‬ ‫الستينيات والثامنينيات من القرن املايض‪ ،‬وقد نبه مرتجم النسخة االنجليزية دينس شميدت إىل أن‬ ‫غادامري أحجم عن الكتابة عن هايدغر لحقبة طويلة من الزمن‪ ،‬إذ مل يبدأ بالكتابة عن أستاذه إال‬ ‫سنة ‪ ،1960‬أي بعد أربعة عقود من لقائهام األول‪ ،‬وهذه املدة الفته للنظر‪ ،‬سيام وأن عمل هايدغر‬ ‫‪ -19‬هانز جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪76‬‬ ‫‪ - 20‬فكر هايدغر ناتج عن مثرات محاوراته لعباقرة الشعر وافن واللغة‪ ،‬وربط ذلك مباهية الحقيقة والوجود‪ ،‬وهو يحاور العرص بوصفه‬ ‫عرص التقنية‪ .‬ويف مواجهته للغة التقنية التي اصبحت تتكلمها مختلف اآلالت‪ ،‬وأمام خطر ذلك عىل مستقبل اإلنسان املهدد باالخرتاق‬ ‫والتحكم يف لغته‪ ،‬اشتغل بسؤال الشعر الذي يسكنه‪ ،‬واستدعى لغتها‪ .‬راجع‪ :‬محمد مطواع ‪ ،‬شعرية هايدغر‪-‬مقاربة انطولوجية‬ ‫ملفهوم الشعر‪ ،-‬تقديم عبد الكريم غريب‪ ،‬منشورات عامل الرتبية‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2010 ،‬ص‪،9‬‬ ‫‪.73 ،45 ،44‬‬ ‫العدد‬

‫(‪169 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫أصبح خاللها بؤرة جدل ومناقشة حادة يف العامل‪ ،‬مل يكن هذا الصمت حسب دينت شمدت مؤرشا‬ ‫عىل حقبة تجاهل غادامري لهايدغر‪ ،‬وإمنا كان غادامري خاللها يبني استقالليته عن أستاذه‪ ،‬فجاءت‬ ‫تلك السنوات حقبة وجد خاللها املسافة الرضورية التي يحتاجها للكتابة عن هايدغر‪ ،21‬ورغم هذه‬ ‫املسافة تحس أثناء القراءة بوجود تلك القرابة القوية‪.‬‬ ‫خالصة طرق هايدغر‪ ،‬تسجيل الصدى القوي لهذا الفيلسوف الذي بقي حارضا‪ ،‬دون أدىن شك‪،‬‬ ‫عرب جميع تقلبات القرن العرشين‪ ،‬فليس مبقدور املرء حسب غادامري تجنب هايدغر‪ ،‬إنه سد‬ ‫منجرف يغمره تيار الفكر املندفع‪ ،‬وهو سد ال ميكن أن يزحزح من مكانه‪.22‬‬ ‫تُهم كثرية الحقت هايدغر يف حياته وبعد وفاته؛ فهو مل يعدم الخصوم‪ ،‬وإن كان شهد يف فرتات‬ ‫محددة عدم اهتامم‪ ،‬وبالخصوص بني سنوات ( ‪ )1945 1935-‬الرتباط أملانيا آنذاك بالحزب النازي‪ ،‬إال‬ ‫أن اإلقبال عىل فلسفته زادت يف مرحلة الخمسينيات وما تزال إىل اليوم‪ .‬وقد اهتم غادامري يف كتابه‬ ‫الكشف عن الرس وراء اإلقبال عىل هايدغر وفلسفته‪ ،‬ومل يتطرق بتاتا إىل مواقفه السياسية خالل‬ ‫فرتة صعود النازية‪ ،‬يقول غادامري متهربا‪« :‬ليست لدي خربة شخصية عن هايدغر يف فرتة فرايبورغ‬ ‫التي بدأت يف العام ‪ ،1933‬ومع ذلك فلقد كنت أرى عن بعد أن هايدغر كان يواصل شغفه الفكري‬ ‫‪23‬‬ ‫بحامسة شديدة بعد فرتته السياسية الفاصلة‪ ،‬فقاده هذا التفكري إىل ميادين جديدة غري مطروقة»‬ ‫وإن كان غادامري قد تجنب الخوض يف العالقة بني أستاذه والنازية؛ فإن عددا من الكتابات‬ ‫البيوغرافية عن حياة هايدغر ركزت بالخصوص عىل عالقته مع النازية‪ ،‬ومتحور النقاش والتساؤل‬ ‫بخصوص اتجاهه الفكري هل هو الدافع وراء اقرتابه من النازية أم أن هناك أسبابا أخرى تتعلق‬ ‫بالسياق العام؟‬ ‫ولد هايدغر ونشأ يف بلدة شفابن جنوب أملانيا‪ ،‬وهي منطقة اشتهرت بتورطها يف مسألة القومية‬ ‫األملانية‪ ،‬وكره األجانب ومعاداة السامية؛ ففي العقود التي تلت ذلك سوف تصبح هذه املنطقة‬ ‫واحدة من معاقل الدعم الرئيسية لهتلر‪.‬‬ ‫‪ - 21‬غادامري‪ ،‬طرق هايدغر‪ ،‬ص‪ .28-29‬وعىل سبيل املثال نلمس يف هذه السرية نقدا شديدا ً من قبل غادامري للقراءة الهيدغريية‬ ‫ألفالطون‪ .‬راجع من ص‪ 191‬إىل ص‪.212‬‬ ‫‪  -22‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.92‬‬ ‫‪ - 23‬نفسه‪ ،‬ص‪.253‬‬ ‫العدد‬

‫(‪170 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫ينحدر هايدغر من عائلة تنتمي إىل الطبقة الوسطى‪ ،‬وجاءت والدته من خلفية الفالحني‪ ،‬وكان‬ ‫والده أحد الحرفيني‪ .‬بدأ طالبا واعدا‪ ،‬وحصل عىل منحة دراسية لاللتحاق باملدارس الثانوية يف‬ ‫كونستانز‪ ،‬وهناك التحق مبدرسة تحضريية قىض فيها فرتة التدريب‪ ،‬وهي مدرسة تابعة للكنيسة‬ ‫الكاثوليكية‪ ،‬واشتهرت بكونها معقال للتيار املحافظ املعادي للربالية‪ .‬وملا حصل هايدغر عىل‬ ‫شهادة البكالوريا‪ ،‬شارك بشدة يف الرصاعات الحزبية وأصبح أحد زعامء الحركة الطالبية التي‬ ‫احتضنت املثل اليمينية الشعبوية الكاثوليكية‪ ،‬وخالل هذه الفرتة املبكرة يف حياته بدأ يعرب عن‬ ‫أفكار متعاطفة مع الرؤية القومية لبلده أملانيا‪ ،‬وهناك أدلة وثائقية‪ ،‬اعتمدتها عدد من الكتابات‬ ‫البيوغرافية‪ ،‬يعرب فيها هايدغر عن تعاطفه مع النازيني يف وقت مبكر من عام ‪ ،1932‬فقد دعم‬ ‫صعود النازية من خالل عبارات واضحة تربط بينها وبني مسرية ومستقبل أملانيا‪.‬‬ ‫يف ‪ 30‬يناير ‪ 1933‬أدى أدولف هتلر اليمني الدستورية مستشارا ألملانيا‪ ،‬ويف فاتح ماي من نفس‬ ‫السنة أعلنت الصحف األملانية انضامم هايدغر للحزب القومي االشرتايك املعروف بالحزب «النازي»‪،‬‬ ‫وذلك بعد عرشة أيام من توليه رئاسة جامعة فرايبورغ‪ ،‬وتم ذلك بناء عىل توصية من سلفه فون‬ ‫مولندورف‪ ،‬الذي أجرب عىل التخيل عن منصبه‪ .‬وهذه اللحظة بالذات متثل النقطة السوداء يف تاريخه‬ ‫املهني‪ ،‬فقد تحول الفيلسوف هايدغر ذو الشهرة العاملية فجأة اىل هايدغر النازي‪ ،‬الذي يحمل‬ ‫بطاقة عضوية الحزب الحاكم‪ .‬إنه الحدث الذي رافق هايدغر إىل األبد‪ ،‬وذلك بالرغم من أنه توقف‬ ‫عن املشاركة يف اجتامعات الحزب ابتداء من أواخر يونيو ‪ ،1934‬بعدما وقع له خالف مع السلطات‪،‬‬ ‫حيث رفض طلبهم بشأن فصل اثنني من العمداء يف جامعة فرايبورج‪ ،‬وهناك من يربط هذا الخالف‬ ‫بحادث «ليلة السكاكني الطويلة»‪ ،‬التي انتهت بتصفية هتلر لكتيبة العاصفة‪ ،‬وزعيمها إيرنست‬ ‫روم (‪ )1934-1887‬مؤيده يف حمالت تصفية الخصوم‪ ،‬وقد قام هايدغر بتقديم استقالته بعدها‬ ‫من منصبه‪ ،‬بعد أن تحطمت آماله يف إنجاز إصالح النظام الجامعي مبساعدة النازية باعتبارها متثل‬ ‫حالة ثورة‪ ،‬ومن هنا صار هدفاً للمضايقات كام قيل‪ ،‬غري أنه بقي عضوا يف الحزب حتى نهاية الحرب‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬واظب عىل أداء املستحقات الشهرية خالل كامل الفرتة ما بني ‪ ،1945-1933‬وبالرغم‬ ‫من فك ارتباطه بالنازية بعدها‪ ،‬إال أنه عوقب جراء تورطه‪ ،‬ومل يعف من تهمة التواطؤ بصفته وكيال‬ ‫عىل تنفيذ املراسيم النازية ضد اليهود يف الجامعة‪ ،‬مراسيم كان أن لديها أثر مدمر عىل األصدقاء‬ ‫والزمالء السابقني له‪ ،‬وعىل رأسهم أستاذه ادموند هورسل‪ ،‬والفيلسوف الكبري ياسربس‪.‬‬ ‫وابتدا ًء من الخمسينيات بدأ تدريجيا فك الحظر عن أنشطة هايدغر الثقافية‪ ،‬لكن الجدل بشأن‬ ‫تورطه مع النازية والعالقة بني فلسفته و اإلشرتاكية القومية ظل مثار جدل ونقاش‪ .‬خاصة أنه مل‬ ‫يقدم أي اعتذار رصيح‪ ،‬كام أنه مل يدافع عن نفسه ضد اإلفرتاءات التي توجهت علنا ضده‪ ،‬إذ اختار‬ ‫العدد‬

‫(‪171 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫من جانبه التزام الصمت‪ ،‬بعد الحرب حول التهم املتعلقة بأنشطته لصالح النازيني‪ .‬ومات سنةا‬ ‫‪ 1976‬دون أن يقر بخطئه ولو يف كلمة‪ ،‬ومل يعرب يوما عن ندمه‪ ،‬والترصيح الوحيد الذي ناقش فيه‬ ‫باستحياء هذه الفرتة من حياته السياسية‪ ،‬كانت يف حوار نادر خص به مجلة دير شبيغل األملانية‬ ‫سنة ‪ ،1966‬ومل ينرش نص املقابلة إال يف العام ‪ ،1976‬أي بعد سنة من وفاته‪ ،‬وذلك بناءا عىل طلبه‪،‬‬ ‫ويف هذه املقابلة التي تحمل عنوان «لن ينقذنا سوى الله»‪ ،‬تناول بعبارات غامضة عالقته بالحزب‬ ‫النازي والرايخ خالل الثالثينيات‪ ،‬لكنه مل يقدم أي اعتذار‪ ،‬وهذا ما جعل اإلتهامات تالحقه من‬ ‫قبل كثري من الفالسفة واملؤرخني‪ ،‬الذين اتهموه مبعاداة السامية أو عىل األقل يلومونه عىل انتامئه‬ ‫خالل فرتة معينة‪  ‬للحزب النازي‪ .‬إذ ليس هناك ما يربر متلص فيلسوف يف حجم هايدغر من تأنيب‬ ‫الضمري عىل انتامئه إىل نظام يتحمل املسؤولية عن القتل‪.‬‬ ‫ما تزال حدود العالقة بني هايدغر والحزب النازي غامضة‪ ،‬فقد رفض مثل سلفه عرض ملصق‬ ‫معادي لليهود يف الجامعة التي كان يرأسها‪ ،‬كام أنه استقال من منصبه عام ‪ ،1934‬ويف سنوات‬ ‫‪ 1936‬و‪ ،1937‬ابتعد بشكل كبري عن مجال السياسة وكرس حياته للفلسفة‪ .‬ومن املعلوم أن‬ ‫عالقات متينة قد جمعته مع حنة أرندت (‪ ،)Hannah Arendt‬التي كانت تنتمي إىل الديانة‬ ‫اليهودية‪ ،‬وقد استمرت عالقتهام حتى عام ‪ ،1933‬ورغم انتامئه إىل الحزب النازي‪ ،‬فقد ظلت‬ ‫متعلقة به؛ ففي سنة ‪ ،1950‬وأثناء عودتها من املنفى‪ ،‬قامت بزيارته‪ ،‬وعادت عالقتهام إىل سابق‬ ‫عهدها‪ ،‬وتعتقد أرندت أن هايدغر مل يكن نازيا أبدا‪ ،‬وإمنا كان يتظاهر بذلك‪ ،‬وقد قامت بالتوسط‬ ‫لنرش أعامله يف الواليات املتحدة‪ ،24‬بل وأجهدت نفسها من أجل إزاحة هذه «التهمة» عنه‪ .‬ومل‬ ‫يكن هذا املوقف الوحيد املساند له‪ ،‬فقد جادل عدد من أتباعه بعد الحرب أنه انضم إىل الحزب‬ ‫لتجنب الطرد من الجامعة‪ .‬ويؤكد ذلك تخلفه عن حضور تشييع جنازة أستاذه ادموند هورسل‬ ‫الذي تويف سنة ‪ 1938‬بعد مرض أمل به‪ ،‬وكان النظام‪ ‬النازي قد جرده من مكانته ومزاياه األكادميية‪،‬‬ ‫فعالقات املرء بأصدقائه اليهود آنذاك كانت دليال عىل اإلدانة‪.‬‬ ‫‪ - 24‬يف نص شهري لها بعنوان‪" :‬هايدغر يف عيد ميالده الثامنني" أشارت حنا ارندت إىل أن هايدغر قد استسلم إلغراء استبدال مقامه‬ ‫كمفكر واالنخراط يف عامل الشؤون االنسانية وذلك بقبوله تقلد منصب رئاسة جامعة فيورباخ ما بني سنتي ‪ 1933‬و‪ ،1934‬فهذا‬ ‫االنخراط عىل مدى عرشة شهور قصرية ومحمومة‪ ،‬أدى به إىل منارصة الحزب النازي وإىل تقديم مربرات فكرية وايديولوجية ‪ ،‬تزيك‬ ‫استحواذ هذا الحزب عىل السلطة وعرب مقارنة طريفة بني لجوء أفالطون إىل طاغية رساكوزة‪..‬خلصت إىل القول‪ :‬نحن الذين نريد‬ ‫تكريم املفكرين ‪ ،‬رغم أن مقامنا يوجد وسط العامل‪ ،‬ال ميكننا أن مننع أنفسنا من اإلقرار بالطابع املدهش ‪ ،‬بل ورمبا الفاضح لواقع كون‬ ‫أفالطون كام هايدغر ‪ ،‬قد لجآ إىل املستبدين حينام انخرطا يف الشؤون اإلنسانية" ‪ ،‬راجع يورغن هابرماس‪ ،‬هايدغر والنازية‪ :‬التأويل‬ ‫الفلسفي وااللتزام السيايس‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪6‬‬ ‫العدد‬

‫(‪172 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫هل كانت عالقة هايدغر مع النازية عالقة عرضية؛ فهو استقال يف ‪ 23‬أبريل ‪ ،1934‬بعد اثني‬ ‫عرش شهرا من التعاون مع السلطة النازية‪ ،‬لكن بعد استقالته‪ ،‬هناك عرش سنوات من الصمت‬ ‫السيايس‪ .‬إذ مل يعط أي إشارة تؤكد معارضته للنظام الرسمي‪ ،‬فام رس صمت الفيلسوف بعد‬ ‫الحرب‪ ،‬إنها النقطة العمياء يف كل القضايا كام عرب دافيد رابوين‪ ،‬فام الذي جعله ال يقول أي كلمة‬ ‫عن املحرقة بشكل مبارش‪ ،‬وملاذا مل يتنكر بشكل واضح ملاضيه‪ ،‬وملاذا رفض املصالحة التي قامت بها‬ ‫حنة ارندت بينه وبني ياسربس‪ .25‬إنها أسئلة تحرج من ُه ْم تحت تأثري الهايدغريية‪.‬‬ ‫الروابط بني هايدغر والنازية أثارت الكثري من النقاش؛ فهي قضية متعددة‪ ،‬نطاقها التأويل‬ ‫والتفسري‪ .‬فال تكمن إشكالية عالقات هايدغر بالنازية يف إقامة وجرد وقائع بقدر ما تتأىت املسألة‬ ‫يف تأويل صالتها بعمل الفيلسوف‪ ،‬صعوبة يغذيها صمت هايدغر‪ ،26‬ومازال البحث مستمر عن‬ ‫الصلة املحتملة بني موضوعات عمله وإيديولوجية اإلشرتاكية القومية‪ ،‬وبالخصوص يف فرنسا‪،‬‬ ‫حيث تستيقظ «حالة هايدغر» بها بني الحني واآلخر‪ ،‬ويحتد النقاش بني منارصيه من جهة‪ ،‬وبني‬ ‫مناهضيه من جهة ثانية؛ ففي كل مرة يصدر فيها كتاب عن سريته‪ ،‬تعود القضية إىل الواجهة‬ ‫ويتأجج اإلنقسام‪.‬‬ ‫تخلق «حالة هايدغر» يف فرنسا معارك فكرية وسياسية ساخنة‪ ،‬فلفرتة طويلة ظل ينظر إليه‬ ‫باعتباره من «أتباع النازية»‪ ،‬وقد رسخت املقاالت التي نرشت عنه هذا االتهام‪.‬‬ ‫يف سنة ‪ ،1987‬أصدر الباحث التشييل الجذور فيكتور فريياس (‪ )Victor Farias‬كتابا بعنوان‬ ‫هايدغر والنازية‪ ،27‬يحاول فيه الكشف عن الروابط بني الفيلسوف هايدغر واالشرتاكية القومية من‬ ‫خالل تحقيق دام عرش سنوات اعتمد فيه جميع السجالت والوثائق ذات الصلة بأنشطة هايدغر‬ ‫يف السنوات ما بني ‪ ،1945-1933‬والتي أتاحتها له آنذاك مراكز التوثيق بأملانيا الرشقية والغربية‪،‬‬ ‫من صحافة الرايخ‪ ،‬ومجالت الحزب النازي‪ ،‬والجمعيات التابعة لها‪ ،‬والتقارير الداخلية للجامعات‪.‬‬ ‫وقد خلق الكتاب جدال واسعا يف عدد من البلدان ومن ضمنها‪ :‬ايطاليا‪ ،‬وأملانيا‪ ،‬واسبانيا‪ ،‬بل امتد‬ ‫النقاش إىل القارة األمريكية‪ ،‬وأصبح موضوع كتاب النازية وهايدغر أحد أفضل املواضيع لعدد من‬ ‫‪- 25‬تحدث بول ريكور يف حواره أن حنا أرندت "حاولت التدخل للمصالحة بينه وبني هيدغر‪ ،‬وقد توفقت يف إقناع ياسربز‪ ،‬الذي أبدى‬ ‫كرماً كبريا ً لكنها اصطدمت مبقاومة رشسة من هيدغر ‪ .‬حوار مع بول ريكور ‪ :‬من فاالنس إىل نانتري‪،‬م س‪ ،‬ص ‪250‬‬ ‫‪ - 26‬دافيد رابوين‪ ،‬هيدغر والنازية‪ :‬أية قضية؟ ترجمة سعيد بوخليط‪ ،‬مجلة فكر ونقد‪ ،‬شهرية‪ ،‬العدد ‪ ،98‬مايو‪ ،‬يونيو‪ ،2008 ،‬ص‪116‬‬ ‫)‪27 - Victor Farias, Heidegger et le nazisme, Verdier (1987‬‬ ‫العدد‬

‫(‪173 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫صفحات املجالت العلمية و أصبحت القضية الشغل الشاغل للصحافة الشعبية ووسائل اإلعالم‪.‬‬ ‫غري أن صدى الكتاب يف فرنسا كان له وقع القنبلة املوقوتة‪ ،‬وهو أمر ال يثري الدهشة‪ ،‬نظرا لالنتشار‬ ‫الكبري الذي عرفته فلسفة هايدغر يف الحياة الفكرية املعارصة بعد الحرب‪ ،‬فقد ألهمت كتبه‬ ‫العديد من التيارات الفرنسية التي استمدت مبارشة من أعامله‪ .‬وميكن أن نذكر منها الوجودية‪،‬‬ ‫التأويلية‪ ،‬التفكيكية‪ ،‬وبعض االتجاهات املختلفة يف علم النفس والالهوت واألدب‪ .‬فقد تأثر به‬ ‫كل من الفيلسوف جون بول سارتر ‪ ، Jean-Paul Sartre‬الذي اعرتف بالجميل اتجاه هايدغر‪،‬‬ ‫إذ بعد قراءته للوجود والزمان نجده يكتب له‪ :‬ألول مرة أصادف مفكرا مستقال دخل إىل عمق‬ ‫مجال التجربة التي أفكر انطالقا منها‪ ،‬يظهر كتابك فهام مبارشا لفلسفتي األمر الذي مل أصادفه‬ ‫حتى اآلن»‪ .28‬وكتب بول ريكور»وشيئاً فشيئاً ركبت املوجة الهايدغرية‪ ،‬بسبب امللل الذي أصابني‬ ‫جراء الطابع التفخيمي‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬املكرور واملطنب الذي اتسمت به الكتب الكبرية التي ألفها‬ ‫يسربز‪..‬لقد انبهرت بعبقرية هايدغر أكرث مام أبهرتني املوهبة العظيمة لياسربس «‪ ،29‬وتأثر به‬ ‫باقي املثقفني الفرنسيني‪ ،‬الذين قد وقعوا يف حبال السحر الذي مارسه الفيلسوف األملاين عليهم؛‬ ‫ونذكر منهم‪ :‬هربرت ماركوز‪ ،‬واميانويل لوفيناس‪ ،‬وجاك الكان‪ ،‬وبول سيالنكلهم‪ ،‬وميشل فوكو‪،‬‬ ‫وجاك دريدا‪...‬‬ ‫تعرض كتاب النازية وهايدغر للنقد من قبل العديد من الفالسفة‪ ،‬إذ اعتربوه محاولة موجهة من‬ ‫املؤلف لهدم فكر هايدغر‪ ،‬فالصورة التي رسمها عنه قامتة‪ ،‬وال تخرج عن إطار التشويه‪ ،‬وتكرسه‬ ‫فيلسوفا للنازية وهتلر‪ ،‬فالكتاب يظهر أن هذا األخري آمن بأن الوطنية االشرتاكية هي السبيل‬ ‫املحدد ألملانيا‪ ،‬وأنه أيد الفوهلرر‪ ،‬و ساند سياساته العنرصية بشكل مطلق‪ ،‬وأنه ظل حتى نهاية‬ ‫الحرب واحدا من املثقفني الذين كانوا يحظون بتقدير كبري من قبل الحزب النازي‪.‬‬ ‫ومنذ نرش فارياس كتابه الشهري‪ ،‬تناسلت املقاالت والتعليقات التي خاضت يف مسألة النازية‬ ‫وهايدغر‪ ،30‬وكلها تسعى إىل فك ما غمض يف حياة هذا الفيلسوف‪ ،‬ومعرفة الحقائق عن حدود‬ ‫عالقاته الفعلية مع النازيني‪ .‬هل كان هايدغر بالفعل معاديا للسامية؟ هل ساند سياسة „املجال‬ ‫الحيوي“ و“الحل النهايئ“؟ وهل كان يعلم شيئا عن اإلبادات الجامعية؟ هل من الصحيح أن‬ ‫هايدغر بدأ ينأى بنفسه عن النازية منذ سنة ‪1934‬؟ هل حطم عالقاته بشكل نهايئ مع األفكار‬ ‫‪ - 28‬آين كوهن سوالل‪ ،‬جان بول سارتر‪ ،‬ترجمة جورج كتورة‪ ،‬سلسلة نصوص‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2008 ،‬ص‪69‬‬ ‫‪ - 29‬حوار مع بول ريكور ‪ :‬من فاالنس إىل نانتري‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪251‬‬ ‫‪ - 30‬من أشهر الذين ساندوا كتاب هايدغر والنازية الفيلسوف بيار بورديو الذي شن يف العام ‪ 1988‬هجوما عنيفا عىل هايدغر‪ ،‬معتربا‬ ‫إياه هتلرييا بكل ما تحمله الكلمة من معنى‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪174 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫النازية بعد سقوط الرايخ الثالث؟ وهل ميكن تفسري صمته املريب اتجاه هذا املوضوع تحديدا‬ ‫بالتعايل الذي ميز شخصيته أم أن هناك أسبابا خفية تتعلق بقناعات مرتسخة خفية؟‬ ‫ما كاد النقاش يفرت حتى تأجج النقاش بشكل أكرث حدة سنة ‪ 2005‬مع صدور كتاب „هايدغر‪،‬‬ ‫إقحام النازية يف الفلسفة“‪ ،31‬للمؤلف اميانويل فاي (‪ )Emmanuel Faye‬عن «دار ألبان ميشال»‪،‬‬ ‫فقد تجدد الرصاع حول مايض هايدغر‪ ،‬مع اتهام فاي صاحب „رسالة حول اإلنسانية“‪ ،‬بالرتويج‬ ‫لاليديولوجيا النازية يف محارضاته قبل انخراطه يف الحزب النازي‪ .‬وبتأييده التطهري العرقي ضد‬ ‫اليهود‪ ،‬وبعمله عىل بث مثل هذه األفكار بني مؤلفاته الفلسفية“ جاعال منه „املرشد الروحي“‬ ‫للنازية‪ ،‬بل ذهب اىل حد الزعم بأن هايدغر من كان يكتب خطب هتلر يف السنة األوىل من‬ ‫اعتالئه السلطة‪ .‬واستند املؤلف إىل عبارات واردة يف محارضات غري منشورة لهايدغر‪ ،‬قدمها أمام‬ ‫الطلبة يف جامعة فريبورغ بني ‪ 1933‬و‪ ،1935‬لالدعاء بأنها ألهمت الحل النهايئ‪ ،‬وأنها ساهمت يف‬ ‫توقد األفكار العنرصية‪ ،‬لذلك ينبغي ‪-‬يف نظره‪ -‬تصنيف أعامله كجزء من تاريخ النازية بدال من‬ ‫اعتبارها فلسفة‪ ،‬ودعا الدولة الفرنسية إىل منع تداولها‪ ،‬باعتبارها تخفي الفكر النازي بني سطورها‪.‬‬ ‫وهو ما أثار خالفا كبريا يف دائرة النقاش الثقايف يف فرنسا وأملانيا‪ ،‬خصوصا وأن الكاتب شن هجوما‬ ‫باملوازاة عىل جاك دريدا‪ ،‬الذي يعتربه متهام ألنه ساهم يف نرش أفكار شميت وهايدغر‪ ،32‬ومل يسلم‬ ‫من لذعته كل الفالسفة الذين تأثروا به‪ ،‬ومنهم اميانويل لوفيناس الذي اعترب كتاب هايدغر الوجود‬ ‫والزمان من أهم املؤلفات العظيمة يف تاريخ الفلسفة‪ ،‬ومل يسلم حتى هابرماس من انتقاداته‪،‬‬ ‫ألنه مجد الكتاب السابق الذكر‪ ،‬إذ اعتربه الحدث األكرث أهمية يف الفلسفة منذ فينومينولوجيا‬ ‫فريديريك هيغل (‪.)Friedrich Hegel‬‬ ‫أثار كتاب „اميانويل فاي“ موجة غضب شديدة يف صفوف مجموعة من املتخصصني الفرنسيني‬ ‫يف فلسفة هايدغر‪ ،‬والذين تجمعوا حول فرانسيس فيديي (‪ ،)François Fédier‬وقاموا بتأليف‬ ‫كتاب جامعي مضاد‪ ،‬بعنوان «هايدغر من باب أوىل»‪ ،33‬وهو الكتاب الذي عرف طريقه إىل النرش‬ ‫‪31 - Emmanuel Faye Heidegger, l'introduction du nazisme dans la philosophie : Autour des séminaires inédits de‬‬ ‫)‪1933-1935 Albin Michel; Achève D'imprimer édition, France, (April 1, 2005‬‬ ‫‪ - 32‬سبق أن قام جان بيار فاي والد اميانويل بنرش سلسلة من املقاالت الهجومية ضد الفيلسوف جاك دريدا متهام إياه بالرتويج‬ ‫لفلسفة هايدغر يف الجامعات الفرنسية دون األخذ بعني االعتبار ماضيه ال ّنازي‪ ،‬إن االتهام شمل املنهج التفكييك الذي اشتهر به دريدا‬ ‫اذ اعتربه فاي مستوحى من فلسفة هايدغر‪ ،‬ذات الجذور النازية‪.‬‬ ‫‪33 - François Fédier :  Heidegger, à plus forte raison, Fayard, Paris, 2007‬‬ ‫العدد‬

‫(‪175 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫بصعوبة‪ ،‬فقد بذلت جهود كبرية من طرف „فاي“ للحيلولة دون طبعه‪ ،‬حتى إن دار النرش غاليامر‬ ‫املتخصصة يف نرش أعامل هايدغر يف فرنسا قررت الرتاجع عن نرش الكتاب‪ ،‬إال أن دار النرش فايار‬ ‫أنقذت املوقف‪ ،‬وبادرت بجرأة إىل نرش الكتاب‪ ،‬وبعد نرشه‪ ،‬انقسم املشهد الثقايف الفرنيس‪ ‬بني‬ ‫مؤيد ومنتقد ملا جاء فيه‪.‬‬ ‫إن هذا الكتاب الجامعي يدحض القراءة «النازية» لفلسفة هايدغر‪ ،‬ويسعى من خالله فرانسوا‬ ‫فيديي املرشف عىل العمل ورفاقه إىل تربئة فلسفة هايدغر من تهمة النازية‪ ،‬ومن تأثري ذلك عليه‪.‬‬ ‫وقد استهدفت محاولتهم أيضا تغيري النظرة األحادية التي يتم تداولها يف اإلعالم الفرنيس واملستقاة‬ ‫من الحملة العدائية التي يقودها فاي‪ ،‬والتي تستهدف اغتيال فكره وشخصه يف فرنسا‪.‬‬ ‫مل ينف املؤلف الجامعي انتامء هايدغر للحزب النازي خالل فرتة معينة من حياته‪ ،‬وإمنا قام‬ ‫بتقديم قراءة تستند إىل فهم هذا االنتامء‪ ،‬ضمن استحضار سياق فرتة صعود النازية وتحكمها املطلق‬ ‫يف الحياة الجامعية‪ ،‬أما بخصوص اإلدانة التي تتعرض لها أعامله الفلسفية‪ ،‬لحد وصفها باألعامل‬ ‫النازية؛ فهي يف نظرهم كتابة سطحية تستند إىل تأويالت مشوهة يف قراءة عمل الفيلسوف‪ ،‬فال‬ ‫توجد أي إشارات حقيقية تشكل الدليل القاطع‪ ،‬فأي محاولة للربط بني فلسفة هايدغر والنازية‬ ‫إمنا هي ‪-‬يف نظرهم‪ -‬محاولة سخيفة‪ ،‬وال تقوم عىل أي أساس متني سوى التأويل املوجه لبعض‬ ‫نصوصه‪ .‬فال توجد يف كتابات هايدغر الشهرية أية أفكار واضحة بشأن معاداته للسامية‪.‬‬ ‫إذا كان «فاي» قد فشل يف تقديم أدلة دامغة عىل وجود عبارات تؤيد أطروحته بشأن معاداة‬ ‫هتلر للسامية؛ فإن مفاجأة من العيار الثقيل ستحصل مع قيام بيرت تراوين‪)Peter Trawny( ،‬‬ ‫وهو أحد املختصني يف دراسة هايدغر يف أملانيا‪ ،‬و املدير املؤسس ملعهد مارتن هايدغر يف جامعة‬ ‫فوبرتال‪ ،‬ببعث النقاش من جديد حول هذه القضية‪ ،‬وذلك بعد إعالنه سنة ‪ 2013‬يف مؤمتر صحفي‬ ‫عن عزمه نرش الدفاتر السوداء‪ ،‬وهي نصوص مسودات مخطوطة لهايدغر‪ ،‬ألفها بني عامي ‪1931‬‬ ‫وعام ‪ ،1946‬واحتفظ بها بشكل رسي خالل حياته‪ ،‬وهي تحتوي عىل عبارات مناهضة لليهود‪ ،‬مام‬ ‫يكشف عن وجود جذور عميقة ملعاداة السامية عند هايدغر‪ ،‬ويف دراسة استباقية لبيرت تراوين‬ ‫عن هذه الدفاتر‪ ،34‬اعترب أن بعض املقاطع الواردة فيها تتضمن معاداة للسامية بوضوح‪ ،‬غري أنها‬ ‫ليست من نفس النوع الذي روجت له اإليديولوجية النازية‪ ،‬وقد خلفت هذه الدراسة صدمة يف‬ ‫فرنسا‪ ،‬فام تحتويه الدفاتر السوداء كاف لزعزعة أكرث مؤيديه والء‪ ،‬فام كان محط شك يف السابق‬ ‫أصبح شيئا مؤكدا‪ ،‬وهذا ما وضع أنصاره واملدافعني السابقني عن براءته‪ ،‬يف موقف حرج للغاية‪،‬‬ ‫‪34 - Peter Trawny Heidegger et l’antisémitisme, Sur les "cahiers noirs" Editeur Seuil, France. 11 /9/ 2014.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪176 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫لدرجة االرتباك الذي ميز ترصيحات أشد املوالني لهايدغر سابقا أمثال فرانسوا فيديي وفرانسوا‬ ‫النورد‪.‬‬ ‫فهل ستُنهي الدفاتر السوداء جدال عمر أزيد من خمسة عقود‪ ،‬وهل ميكن القول أن اللغز املحري‬ ‫للصمت الطويل الذي اتخذه هايدغر طيلة حياته من هذه القضية قد كُشف‪ ،‬أم أن الحياة ستظل‬ ‫غامضة‪ ،‬يلفها الضباب كام عرب يف نص حواره مع مجلة ديل شبيغل قبل وفاته‪.‬‬

‫خالصة‪:‬‬

‫هناك عالقة وطيدة تربط‪ ‬التاريخ الفكري بتاريخ األفكار‪ ،‬حيث األفكار ال تتطور مبعزل عن‬ ‫األفراد الذين أنتجوها‪ ،‬ولذا وجب دراسة‪ ‬األفكار باستحضار السياقات االجتامعية والتاريخية‬ ‫والثقافية التي أفرزتها‪ ،‬ومن ثم تأيت أهمية البيوغرافيات الثقافية‪ ،‬فال ميكن تناول التاريخ الثقايف‬ ‫والفكري دون معرفة املثقفني الذين أنتجوا هذه األفكار‪.‬‬ ‫استطاع جورج غادامري يف سريته الثقافية تبيان أهم تحوالته الفكرية موازاة مع ِس َي حياة‬ ‫أساتذته‪ ،‬وزمالئه‪ ،‬مستحرضا األمكنة والتقلبات السياسية واإلجتامعية لتاريخ بلده‪ ،‬بدءا من الحرب‬ ‫العاملية األوىل‪ ،‬وإىل غاية انهيار حائط برلني‪ ،‬إذ مييض بنا الكتاب معرجا عىل تاريخ أملانيا خالل‬ ‫القرن العرشين من خالل سريته‪ ،‬التي تعترب وثيقة تاريخية فكرية‪ ،‬تفصل لنا املناخ الفكري السائد‬ ‫آنذاك‪ ،‬وهي أيضا وثيقة اجتامعية بامتياز‪ ،‬وثيقة كتبها مفكر كبري‪ ،‬تعيننا عىل فهم مجتمعه الذي‬ ‫عاىن من القهر والتسلط وخراب النفوس والعقول يف ظل هيمنة الفكر النازي املتطرف‪ ،‬يقول‬ ‫غادامري عن التوازن يف الحقبة النازية‪« :‬كان من الصعب آنذاك الحفاظ عىل توازن صحيح بني‬ ‫أال يقبل املرء بتسوية فيفقد عمله‪ ،‬ويظل مع ذلك معرتفا به من زمالئه وطلبته‪ ،‬أما نحن الذين‬ ‫وجدنا توازنا صحيحا‪ ،‬فلقد قيل عنا ذات يوم إننا كان لدينا تعاطف مهلهل مع اليقظة الجديدة»‪.35‬‬ ‫يبدو البحث يف السرية أحيانا وكأنه ثانوي بالنسبة لقضايا عرصه‪ ،‬غري أنه يندرج تحت كنف ما هو‬ ‫أعمق من الشخصيات‪ ،‬وهو التفكري يف القضايا واإلشكاليات‪ ،‬ومحاولة الخروج بإجابات عملية عن قضايا‬ ‫العرص والوقوف عندها‪ ،‬ففهم هايدغر يعترب أحد أهم مفاتيح فهم البنية الثقافية والسياسية ألملانيا؛‬ ‫فحياته‪ ،‬وكتاباته‪ ،‬تسلط الضوء عىل بعض الجوانب الخفية من مواقف السلطة‪ ،‬وعالقة السلطة باألفراد‪،‬‬ ‫كام ميكن من خالله تتبع سرية حياته تلمس الفروقات الفردية بني الفالسفة خالل الفرتة املدروسة‪.‬‬ ‫‪ - 35‬هانز جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية ‪ ،‬م س‪ ،‬من تقديم املرتجم‪ ،‬ص‪9‬‬ ‫العدد‬

‫(‪177 )6‬‬

‫«التلمذة الفلسفية»‬

‫إن البيوغرافيا الثقافية تقتيض إعادة الصلة للقطيعة التي سادت طويال بني الفكر والوجود‪،‬؛‬ ‫فالفهم العميق ألفكار الفالسفة ينطلق من تتبع حياتهم‪ ،‬والتقييم النقدي ألعاملهم البد أن مير من‬ ‫العالقة املعقدة بني ما هو من صميم عمل املفكر وبني واقعه اليومي‪ ،‬من هنا تأيت أهمية حياة‬ ‫الفالسفة‪ ،‬إذ البد من مقارنة الفكر والتصور بالواقع املعاش‪ ،‬ألن القارئ يطالب بنوع من االنسجام‬ ‫بني الفكر والعمل‪ .36‬لذلك فمن املفيد جدا املطابقة بني السرية االجتامعية والسرية الفكرية‪ ،‬حتى‬ ‫ال ننىس الفكرة التي تؤكد أن الوقائع ال توجد خارج سياق نشوئها‪ ،‬وال خارج املعنى الذي نضفيه‬ ‫عليها‪ ،‬كام ينبغي أن نتذكر اإلطار السوسيو‪ -‬تاريخي الذي عاش يف كنفه الفيلسوف أو املثقف‬ ‫لنعرف دقة ارتباط األسئلة التي طرحها بزمانه‪ ،‬ولنحدد عوامل التأثر الفكري األساسية‪ ،‬ومدى‬ ‫الجرأة واألصالة التي ميزت فكره‪.37‬‬

‫مرسد املراجع والهوامش‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫•جاك لوغوف ‪.‬التاريخ الجديد‪ .‬ترجمة وتقديم محمد الطاهر املنصوري‪ ،‬مراجعة عبد‬ ‫الحميد هنية‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬الطبعة األوىل‪2007 ،‬‬ ‫•خالد طحطح‪ ،‬البيوغرافيا والتاريخ‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2004 ،‬‬ ‫•التحية الهتلرية كانت حوار مع بول ريكور‪ :‬من فاالنس إىل نانتري‪ ،‬أنجزه فرانسوا أزويف‪،‬‬ ‫ومارك دولوين‪ ،‬ترجمة حسن العمراين‪ ،‬مجلة يتفكرون‪ ،‬فصلية ثقافية‪ ،‬فكرية‪ ،‬العدد‬ ‫الثالث‪ ،‬شتاء ‪.2014‬‬ ‫•جورج غادامري‪ ،‬التلمذة الفلسفية‪ ،‬سرية ذاتية‪ ،‬ترجمة حسن ناظم‪ ،‬عيل حاكم صالح‪،‬‬ ‫الكتاب الجديد‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.2013‬‬ ‫•يورغن هابرماس‪ ،‬هايدغر والنازية‪ ،‬التأويل الفلسفي وااللتزام السيايس‪ ،‬ترجمة عز الدين‬ ‫الخطايب‪ ،‬تقديم ‪ ،‬منشورات عامل الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2005 ،‬‬ ‫•هانز جورج غادامري‪ ،‬طرق هايدغر‪ ،‬ترجمة حسن ناظم‪ ،‬عيل حاكم صالح‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫الجديد‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2007.‬‬ ‫•محمد مطواع ‪ ،‬شعرية هايدغر‪-‬مقاربة انطولوجية ملفهوم الشعر‪ ،-‬تقديم عبد الكريم‬ ‫غريب‪ ،‬منشورات عامل الرتبية‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2010 ،‬‬ ‫•دافيد رابوين‪ ،‬هايدغر والنازية‪ :‬أية قضية؟ ترجمة سعيد بوخليط‪ ،‬مجلة فكر ونقد‪،‬‬ ‫شهرية‪ ،‬العدد ‪ ،98‬مايو‪ ،‬يونيو‪2008 ،‬‬

‫‪ - 36‬خالد طحطح‪ ،‬البيوغرافيا والتاريخ‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪.96‬‬ ‫‪ - 37‬لوران فلوري‪ .‬ماكس فيرب‪ .‬ترجمة محمد عيل مقلد‪ ،‬سلسلة نصوص‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪2008‬م‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫العدد‬

‫(‪178 )6‬‬

‫خالد طحطح‬

‫ دار الكتاب‬،‫ سلسلة نصوص‬،‫ ترجمة جورج كتورة‬،‫ جان بول سارتر‬،‫ •آين كوهن سوالل‬ 2008 ،‫ الطبعة األوىل‬،‫ بريوت‬،‫الجديد‬ ‫ دار الكتاب الجديد‬،‫ سلسلة نصوص‬،‫ ترجمة محمد عيل مقلد‬.‫ ماكس فيرب‬.‫ •لوران فلوري‬ ‫م‬2008 ‫ الطبعة األوىل‬،‫املتحدة‬ • François Fédier :  Heidegger, à plus forte raison, Fayard, Paris, 2007 • Peter Trawny Heidegger et l’antisémitisme, Sur les „cahiers noirs“ Editeur Seuil, France • Emmanuel Faye Heidegger, l‘introduction du nazisme dans la philosophie : Autour des séminaires iné Victor Farias, Heidegger et le nazisme, Verdier (1987) • dits de 19331935- Albin Michel; Achève D‘imprimer édition, France, (April 1, 2005) • L‘Histoire en miettes. Des «Annales» à la «nouvelle histoire», Paris, la découverte, 1987 (2e édition Presses Pocket, «Agora», 1997

‫العدد‬

179 )6(

‫محنة الفحولة يف املجتمعات العربية املعارصة‬ ‫الكتاب‪« :‬الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬ ‫تأليف‪ :‬مي غصوب وإميا سنكلري‬ ‫النارش‪ :‬بريوت دار الساقي ‪.2002‬‬ ‫*‬ ‫قراءة‪ :‬هاجر خنفري‬ ‫مازال الخطاب النسوي العريب عاجزا عن تخطي ذلك املأزق اإليديولوجي املتمثل يف تبنيه‬ ‫مقوالت أرساها التوظيف السيايس الغريب ملسألة املرأة يف املجتمعات العربية‪ ،1‬فهو خطاب موصوم‬ ‫بالعاملة أو الخيانة أو االنبتات أو االستهالك الفكري وخاصة برشوعه يف االنفتاح عىل املقاربات‬ ‫النسوية الغربية منذ الستينات من القرن الفارط وتفاعله مع الدراسات الجندرية األمريكية‪ .‬وقد‬ ‫بات هذا التفاعل مصدر قلق لدعاة الخصوصية الثقافية ورعاة الهوية العربية اإلسالمية باعتبار‬ ‫ما أحدثه من اتساع يف مدارات الخطاب النسوي العريب‪ ،‬ولعل أهم ملمح لهذا االتساع هو‬ ‫اتجاه الخطاب نحو دراسة املكونات النفسية واالجتامعية للهوية الذكرية وطبيعة األدوار النوعية‬ ‫املنمطة ملوقعه االجتامعي‪ .2‬وقد منح هذا االتجاه نفسا جديدا للنسوية العربية شهدنا أثره‬ ‫*جامعية تونسيّة‪.‬‬ ‫‪ - 1‬لقد كان وضع املرأة أداة تربير وضغط تل ّوح بها الثقافات املستعمرة قبل اإلقدام عىل االجتياح العسكري‪ ،‬فقد ندّد اللورد كرومر مثال برتدي‬ ‫الوضع االجتامعي للمرأة املرصية وأكد رضورة التعجيل بإجراء تغيري يف املنظومة القانونية لتحرير املرأة من ربقة التقاليد البالية‪ ،‬وقد بينت‬ ‫ليىل أحمد تضارب هذا املوقف مع تحفظ بل معاداة كرومر للحركة النسائية اإلنقليزية ‪ .‬ميكن النظر يف كتابها ‪:‬‬ ‫‪.women and Gender in Islam The Roots of a Modern Debate , New Heaven Yale University Press 1992‬‬ ‫‪ 2‬ـ كان صدور كتاب "الرجل والجنس" لنوال السعداوي سنة ‪ 1973‬وهو تاريخ يزامن ظهور الدراسات األمريكية املتعلقة بالرجل‪ .‬غري‬ ‫أنها تفتتح الكتاب بضبط دواعي تأليفه لتجعله استجابة ملطلب قرائها من الرجال واملحتاجني إىل املساعدة عىل تجاوز املشاكل الجنسية‬ ‫والنفسية التي ترهق عالقته باملرأة‪ .‬وكأنها بهذا التوضيح تقدم املربر األخالقي لتناولها مسائل تتعلق بجوهر الدراسات عن الرجل مثل‬ ‫األبوية والجسد الذكوري وجنسانية الرجل ‪"..‬وإذا كنت يف هذا البحث أحاول دراسة مشاكل الرجل الجنسية وخوفه من فقدان القدرة‬ ‫الجنسية أو خوفه من الجنس بصفة عامة فإنني بالرضورة ال أستطيع أن أفصل األسباب عن ظواهرها‪ ".‬دراسات عن املرأة والرجل يف‬ ‫املجتمع العريب ‪ ،‬ص ‪ ،340‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬ط‪.1990 ،2‬‬ ‫العدد‬

‫(‪180 )6‬‬

‫هاجر خنفري‬

‫يف دراسات وقراءات جمعتها مي غصوب وإميا سنكلري ويب ‪ )Emma Sinclair Webb( ‬تحت‬ ‫عنوان «الرجولة املتخيلة الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط» وتم نرشها سنة ‪.20023‬‬ ‫وقد أدرجها األستاذ العادل خرض ضمن الدراسات املتعلقة بالرجل ‪ )Men’s studies(:‬املعنية‬ ‫بـ«كيفيات تشييد الذكورة والفحولة»‪ .4‬ويف متهيدها للكتاب تربر غصوب اختيارها لهذا املبحث‬ ‫برغبتها يف اقتفاء أثر خلخلة الحركة النسوية البالغة نصف قرن للرتكيبة االجتامعية يف املجتمعات‬ ‫الرشقية ال سيام ما تعلق برصح الذكورة أو الرجولية يحدوها يف ذلك تساؤل طرحته الباحثة الرتكية‬ ‫دنيس كانديويت ‪« :Deniz Candiyoti‬إىل أي حد كان الخطاب الذي يعلن أنه موضوع إلصالح‬ ‫املرأة [‪ ]..‬هو أيضا إلعادة صوغ الجندر عرب تأسيس موديالت جديدة للذكرية والنسائية بهدف‬ ‫تحسني متاسك العائلة النواة؟»‪5‬ولعل رشعية هذا السؤال مستمدة من خلفيته الفكرية الرشقية‬ ‫أوال واكتسابه حصانة مستم ّدة من مفهوم األرسة ثانيا‪ ،‬وهو ما يخفف وطأة اتهامات العاملة‬ ‫للغرب والتآمر الفكري ضد الهوية العربية اإلسالمية التي طاملا الحقت كل مهتم مبسألة الجندر‬ ‫يف املجتمعات العربية‪ .‬ثم إن اعتامد الكاتبتني عىل مقاالت تتنوع مشاربها ومقارباتها ويهيمن‬ ‫فيها قلم الرجل (عرشة مقاالت من جملة أربع عرشة مقاال) يبدو مظلة فكرية منيعة تتقي بها‬ ‫الكاتبتان ما ميكن أن يرتتب عن تقديم مشهد محنة الفحل‪ .‬وبني احتضار الفحولة والرجولة‬ ‫املتخيلة يتخذ الرجل كذات عارفة موقعا جديدا يف عملية إنتاج املعرفة فموضوع املعرفة يف‬ ‫هذه الحالة يقتيض الجهر بالهوية الجندرية التي تسعى الذات العارفة عادة إىل التظاهر بالتجرد‬ ‫منها‪ ،‬وال نبالغ إن اعتربنا هذا املوضع الجديد للذات الذكورية يف مسار إنتاج املعرفة من الرشوخ‬ ‫العميقة يف رصح االبستيمولوجيا التقليدية ‪ ،6‬إذ نزلت الذات العارفة من عليائها وقد تبنت رؤية‬ ‫‪ 3‬ـ صدر الكتاب ببريوت‪ ،‬دار الساقي‪ .‬ومي غصوب (‪1952‬ـ‪ )2007‬كاتبة وفنانة وناشطة حقوقية لبنانية من مؤسيس دار الساقي للنرش‬ ‫من أهم مؤلفاتها "مغادرة بريوت‪ :‬النساء والحروب من الداخل"‪ .‬أما سنكلري ويبفهي باحثة تركية تهتم باملسألة الدينية والسياسية وقد‬ ‫أصبحت عضوا يف منظمة هيومرنايتسواتش منذ سنة ‪.2007‬‬ ‫‪ 4‬ـ بنيان الفحولة‪ :‬تقديم العادل خرض‪ ،‬ص‪ .10‬تونس‪ ،‬دار املعرفة للنرش‪.2006 ،‬‬ ‫‪ 5‬ـ الرجولة املتخيلة ‪ :‬ص‪ .11‬وقد اهتمت ‪ DenizKandiyoty‬بدراسة العالقات بني األنواع االجتامعية والسياسات التنموية يف الرشق‬ ‫األوسط‪ ،‬ويف كتابها الصادر يف العفد األخري من القرن الفارط "النساء‪ ،‬اإلسالم والدولة" تقدم الكاتبة مقاربة تجمع فيها بني التحليل‬ ‫لتبي موقع النساء يف املجتمعات اإلسالمية‪.‬‬ ‫التاريخي للحكومات اإلسالمية املعارصة والدراسة املفصلة ملشاريعها السياسية ّ‬ ‫‪ 6‬ـ تحت عنوان"تأنيث االبستمولوجيا" يحلل عادل ضاهر خصائص االبستمولوجيا املوضوعانية‪FoundationalistEpistemology‬‬ ‫باعتبارها مدار نقد من قبل طائفة من املفكرين والفالسفة منذ العرشينية األخرية من القرن الفارط ومنهم عىل سبيل الذكر جاك دريدا‬ ‫وميشال فوكو وهابرماس وغريهم‪ .‬ويؤكد الكاتب عىل أن"االبستمولوجيا السائدة تخدم هذه املصلحة ـ الذكورية ـ عن طريق تكريسها‬ ‫النتائج التي أوصلتنا إليها سريورات إنتاج املعرفة ـ هذه النتائج التي تعكس املنظور االجتامعي املصلحي للذكورـ ‪ .‬وهي تكرس هذه‬ ‫العدد‬

‫(‪181 )6‬‬

‫«الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬

‫جوانية إضافة إىل أنها تخلت عن املصلحة الذكورية وقد انكبّت عىل فضحها باعتبارها األساس‬ ‫االجتامعي املتحكم يف البنى الثقافية‪.‬‬ ‫وبذلك تفتح هذه الدراسات املجال أمام تفكيك الخلفيات الدافعة نحو إنتاج املعرفة املجوهرة‬ ‫للذكورة وهو ما أكدت سنكلري عىل أهميته يف تحديد توجهات الخطاب النسوي‪« :‬ينبغي أال‬ ‫ينظر إىل الرتكيز عىل الذكورية بوصفه ابتعادا عن املشاريع النسوية بل باعتباره مسعى مكمال‬ ‫بل مسعى يرتبط بها ارتباطا عضويا»‪ ،7‬فالذكورة املطروحة يف جملة املقاربات تخلت عن هالة‬ ‫القداسة وهي تستعرض مراحل تبلورها وتجربة عبورها للبنى االجتامعية والثقافية والسياسية‬ ‫التي تؤسسها فإذا هي مقلوب صورة األنوثة املنبوذة‪ .‬وترتسم مالمح هذه الصورة يف القسم األول‬ ‫من الكتاب عرب إبراز أهم املؤسسات واملامرسات االجتامعيةالتي ساهمت يف صنع الرجال‪،‬بينام‬ ‫جمع القسم التاين مقاالت تعكس التمثالت الثقافية للذكورة داخل «الرسود والصور واأليقونات»‪،‬‬ ‫وشمل القسم األخري ثالثة نصوص تعكس شهادات دقيقة عن عالقة الذكر ببعض محددات جندره‬ ‫كالشنب والخيص‪.‬‬

‫‪ .1‬الختان والتجنيد‪ :‬شحذ أم شطب للذكورة؟‬

‫ركز القسم األول عىل اسرتاتيجيتني أساسيتني من اسرتاتيجيات التجنيس‪:‬‬ ‫طقس الختان‪ :‬وهو طقس مروري لدى املسلمني واليهود‪ 8‬يحفظ عملية الفصل بني الجنسني‪،‬‬ ‫وهو يجعل من املختون ممتحنا مشحونا رهبة ومدفوعا للتظاهر بالشجاعة ومعتدا بنفسه إذ هو‬ ‫مركز الطقوس االحتفالية وقَلقا من فقدان هذه « االمتيازات الباهظة التي تقرتن بكونه ذكرا»‪.9‬‬ ‫لكن هذا الطقس مينح جسد الذكر رمزية قدسية يف اليهودية فهو طقس قرباين يرقى بالذكر عن‬ ‫الجسد األنثوي املوبوء بالنجاسة ‪ ،‬إذ يذكر عبد الوهاب بوحديبة ‪« :‬إن الختان اليهودي عهد مع‬ ‫النتائج عن طريق تحجيب األساس االجتامعي ملامرسات إنتاج املعرفة‪ .‬هنا تبدو املعرفة‪ ،‬عن طريق هذا التمويه وكأنها نتاج الفرد‬ ‫املجرد أو الذات الكنطيةالرتنسندنتالية‪ ".‬مواقف‪ ،‬قضايا املرأة العربية ص‪ ،25‬العددان ‪73‬ـ‪ ، 74‬دار الساقي‪ ،‬سنة ‪.1993‬‬ ‫‪ 7‬ـ م‪.‬ن‪ :‬ص‪.14‬‬ ‫‪ 8‬ـ من الجيل اختالف عبد الوهاب بوحديبة عن يورامبيلو يف تناول مسألة الختان‪ ،‬فبقدر ما توخى األول يف دراسته لهذا الطقس مقاربة‬ ‫مقارنية بني اليهودية واإلسالم كانت الرؤية أحادية شديدة الخصوصية يف دراسة بيلو ملراسم الختان لدى اليهود األرثوذوكس‪.‬ولعل‬ ‫تنصيص األستاذ بوحديبة عىل الطابع القرباين للختان اليهودي مقارنة بالدالالت االجتامعية والنفسية والجنسية للختان اإلسالمي يرمي‬ ‫إىل رفع اللبس عن هذه العادة لدى املسلمني بخلع طابع القداسة عنها‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ م‪.‬ن ‪ :‬ص ‪.37‬‬ ‫العدد‬

‫(‪182 )6‬‬

‫هاجر خنفري‬

‫الرب مبعنى أنه طقس وتضحية يراد بهام رفع درجة الوعي بني املجموعة ويف الجامعة «‪ .10‬أما‬ ‫يف اإلسالم فال يعدو الداللة السوسيولوجية والوظيفة الجنسانية فهو تحقيق لالنتامء إىل جامعة‬ ‫وهو أيضا شحذ وشحن للذكر بحيوية جنسية تؤهله للزواج‪ ،‬وكأن األستاذ بوحديبة يسعى إىل‬ ‫شطب صفة املقدس الثقايف عن هذه املامرسة التي تن ّمط الذوات الذكورية وتنحت عالقة جديدة‬ ‫بالعضو الذكري فيغدو البؤرة التي منها تتحدد مالمح الهوية الجنسية وعالقة الذات باآلخر ال سيام‬ ‫املغاير‪ .‬ويف روايته «مدن تأكل العشب» رصد عبده الخال أهمية هذا الطقس يف نفخ الذكورة‬ ‫لدى الطفل ورفع منسوب الحب الجنيس يف عالقته باألنثى األقرب إليه أي األم‪ ،‬فقد اقرتنت لحظة‬ ‫استعداد الراوي لتوديع أمه قاصدا مكّة بذكريات الختان فكالهام ابتعاد عن املرأة األم وكالهام‬ ‫مشبع بأويقات حميمية ولهفة عاطفية تذيك إحساسه بذكورته‪ « :‬خطفتني لحضنها وبكت‪ ..‬كنت‬ ‫أحس بها ترتجف وتلتهمني بقبل محمومة [‪ ]..‬اخنت يا ختان واقطع من شغايف ألمي ‪ ..‬وجدت أم‬ ‫‪11‬‬ ‫تحضنني وتشهق بصوت مكتوم تغالبه بحة أحرقها نشيجها [‪ ]..‬تحضنني ومتسد عىل شعري‪»..‬‬ ‫من الواضح إذن خطورة اسرتاتيجية الختان يف املجتمعات الرشقية خاصة بتأليفها بني الرمزيتني‬ ‫الدينية والجنسية مام يبوئها مرتبة الخطاب املحظور ويجعل محاوالت تفكيكها عصفا حقيقيا‬ ‫باملركزية الالهوتية القضيبية التي ترتهن إليها كل بنى املنظومة االجتامعية‪ .12‬وقد كشف يورامبيلو‬ ‫هذه الثنائية من خالل مقاربة انرتوبولوجية لطقوس الختان لدى أرثوذوكس اليهود باعتبارها‬ ‫مرحلة رضورية لتلقي تعاليم التوراة األشبه بتلقني األرسار يف بعض املجتمعات البدائية‪ .‬غري أن‬ ‫اإلجحاف يف االلتزام مبراسم هذا الطقس يفيض إىل درجة قصوى من الذكورة ويح ّدها داخل دائرة‬ ‫أقلية من املجتمع اليهودي (الحريديم ميثلون ‪ 10‬باملائة من سكان إرسائيل)‪ 13‬فإذا هم ذكور من‬ ‫نوع خاص أو هم ذكور أكرث ذكورة‪ :‬وإذا هو رشخ جديد يف مجتمع الذكور رغم أنه يهدف إىل‬ ‫‪ 10‬ـ م‪.‬ن‪ :‬ص‪.34‬‬ ‫‪ 11‬ـ م‪.‬ن ‪ :‬ص‪42‬ـ‪.43‬نرشت دار الساقي هذه الرواية سنة‪ ،1999‬وقد جعل الكاتب السعودي بطله "يحي" مركز شبكة عالقات محبطة‬ ‫مع النساء بدءا من جدته ومرشوع األم البديلة وصوال إىل حبيبته "حياة" املتمنعة وعاشقته "عواطف"‪ .‬فالحب الناجح الوحيد يف تجربة‬ ‫يحي هو ذلك الذي أيقظته األم يف قلبه الصغري ونفخت فيه بإذكاء ذكورته وهي ترشف عىل مراسم ختانه‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ يستعيض املسيحيون عن الختان بطقس التعميد‪ .‬وقد نقل األستاذ بوحديبة مقطعا من رسالة بولس إىل أهل غالطيّة يوضح اختالف داللة‬ ‫الختان مبا هو تجميل وافتخار بالجسد عن التعميد مبا هو احتفاء بالخلق الجديد ومتجيد لفعل صلب املسيح‪ .‬ميكن العودة للمصدر ص‪.34:‬‬ ‫‪ 13‬ـ وردت كلمة حريديم يف التوراة سفر "أشيعيا" ‪" : 5/66‬اسمعوا كالم الرب أيها املرتعدون (ها حريديم) من كلمته"‪ .‬وتتمسك هذه‬ ‫الفئة بتطبيق تعاليم التلمود والوفاء لصورة اليهودي املحافظ مظهرا وسلوكا وأخالقا مام يجعلهم يف قطيعة مستمرة مع مقتضيات‬ ‫التحديث االجتامعي ويف عزلة عن الشعوب‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪183 )6‬‬

‫«الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬

‫إعداد «صبي كامل النمو مجهز بعالمات الهوية اليهودية الذكورية إىل نسخة مصغرة بال ذقن من‬ ‫أبيه»‪.14‬‬ ‫وما يستوقفنا يف هذا السياق هو هذه الوظيفة املزدوجة التي يلعبها الختان يف بعض املجتمعات‬ ‫للحس الجنيس لديها‪.‬‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬فبقدر ما كان نفخا يف ذكورة الذكر كان استيالبا ألنوثة األنثى أو إعداما ّ‬ ‫ولنئ كان النقد املسلط عىل ختان الذكور محفوفا بعوائق فقهية قوية األثر يف الخطاب املحافظ فإن ما‬ ‫تعلق بختان اإلناثصار من القضايا النسوية األساسية نظرا إىل نسبية الدعامة الفقهية التي يقوم عليها‪.‬‬ ‫واجب التجنيد‪ :‬إذا كان طقس الختان محل اختالف بني األديان من حيث مراسمه ورمزيتهفقد‬ ‫مثّلت الخدمة العسكرية اسرتاتيجية تتقاطع عندها سياسات املجتمعات الذكورية‪ ،‬ولذلك كانت‬ ‫مدار بحث أغلب مقاالت الكتاب باعتبار دور املؤسسة العسكرية يف إنتاج رجال مميزين عن‬ ‫غريهم ممن مل يخضع إىل الخدمة العسكرية‪ .‬غري أن اإلعداد العسكري لنموذج الرجل الوطني‬ ‫الشجاع والقوي يصطدم بعقبة الهويات املضطربة التي عجز املجتمع عن احتوائها داخل منوال‬ ‫الهويات الجندرية الثابتة‪ ،‬وقد تعطّله أيضا تحديات الهويات الجندرية املعيارية مثل عمل جمعية‬ ‫مناهضة الحرب يف مجال االعرتاض الضمريي‪ .15‬ولنئ أقرت إميا سنكلري بأن الذكورية النازعة للهيمنة‬ ‫تنترص باستمرار ملا تجده من مساندة اجتامعية وتزكية سياسية فإنها تختم تحليلها بأن تلك‬ ‫الذكورية ليست مطلقة أو أنها تص ّنف وفق مراتبية النظام العسكري مام يجعل الذكورية ذكوريات‬ ‫‪ .‬وقد قدمت سنكلري شهادة أحد الجنود األتراك تحت عنوان «الخدمة العسكرية رغم أنفي» وفيها‬ ‫اسرتجع أمل مرحلة التجنيد وأشكال اإلهانة وقسوة املعاملة مام يعدم فيه احرتامه لهويته الذكورية‬ ‫فهي ذكورة من درجة ثانية واالرتقاء عنها يكون باإلمعان يف تبخيس شأنها‪ ،‬ورغم حرصه عىل‬ ‫الرضوخ ملعايري الذكر املج ّند فقد كان عاجزا عن التخلص من التوتر الناتج عن تأرجحه بني ما كان‬ ‫عليه وما يجب عليه أن يكون وهو ما دفع غريه من الجنود إىل تعاطي الحشيش والحبوب والكحول‬ ‫بينام استمرت معاناته النفسية وكانت نهايته مأسوية يف حادث سري يرجح فيه دافع االنتحار‪.‬‬ ‫وتطالعنا هذه الوظيفة التجنيسية يف املؤسسة العسكرية اإلرسائيلية وإن كانت النساء مشموالت‬ ‫بهذا الواجب‪ ،‬وهو ما وسم به داين كابالن‪ Danny Kaplan‬مقاله‪« :‬الخدمة العسكرية كتأهيل‬ ‫‪ 14‬ـ م‪.‬ن‪ :‬ص‪ .75‬إن مقارنة بسيطة بني أولوية طقس الختان وواجب التجنيد الذي ال يلقى اهتامما لدى هذه الطائفة تكشفعن تطابق‬ ‫بني الهوية الجندرية الذكورية والهوية اليهودية‪ ،‬أو مبعنى أوضح تقع النساء يف هذا املجتمع خارج متثيل الهوية اليهودية‪.‬‬ ‫‪ 15‬ـ نشأت جمعية مناهيض الحرب" يف أزمري سنة ‪ 1994‬ملناهضة الحرب والنزعة العسكرية والعرقية وقد بينت الكاتبة ظروف تأسيس‬ ‫الجمعية وما لقيته من عرقلة قانونية وهي تطالب باالعرتاض الضمرييعىل العمل العسكري‪ .‬م‪,‬ن ‪ :‬ص‪102‬ـ ‪.105‬‬ ‫العدد‬

‫(‪184 )6‬‬

‫هاجر خنفري‬

‫للذكورية الصهيونية»‪ .16‬فهو طقس عبور الكتساب الهوية اإلرسائيلية واتخاذ موقع جديد داخل‬ ‫املجتمع الصهيوين ولذلك وضح الكاتب تلك العالقة بني املصطلحات العسكرية والتوراتية مثل‬ ‫تحمل عبء الفروض للتعبري عن الوالء ملؤسسات الدولة أو اعتبار الجيش حارسا وهو مرادف الله‬ ‫يف التعاليم التلمودية ‪ .‬ونظرا إىل هذا االلتباس بني اإليديولوجي الديني واإليديولوجي الصهيوين يف‬ ‫الخدمة العسكرية متيس الهوية مسألة ذاتية وشديدة الحميمية مهام كان درجة توافقها والذكورية‬ ‫الصهيونية املتخيلة ‪ ،‬إذ يذكر «نري» الجندي املثيل يف مقامني متباعدين‪« :‬لعل من يحدد هويته‬ ‫بوصفه مثليا منذ البداية لن يؤدي الخدمة الفعلية ‪ .‬والحق أين أديتها لكن أبحث عن أي ذكورية‬ ‫فلقد كنت هكذا قبل الجيش وسأكون نفيس بعده وأنا مل أعتمد سلوكا أنثويا ملجرد أين مثيل[‪]..‬‬ ‫‪17‬‬ ‫أشعر بأن الخدمة جعلتني أنضج وليست هذه مجرد فحولة خالصة إنها عملية إنضاج‪».‬‬ ‫وإذا كان املعسكر اإلرسائييل هو فضاء التدريب عىل الذكورية الصهيونية املتخيلة فإن‬ ‫معتقالتهم هي فضاء مهم ليامرس الفلسطيني املعتقل طقوس العبور إىل الهوية الجندرية للمقاوم‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬أي االستعداد ملوقع جديد يف املجتمع مثلام أوضحت جويل بيتيت‪ .‬فالرضب والسجن‬ ‫هام طقسا العبور يؤديان وظيفتني تجنيسيتني متقابلتني ‪ :‬هام إفقار للمعتدي من رجولته وإثراء‬ ‫للمعتدى عليه برجولة تعجز الجامعات القرابية عن توفريها‪ .‬وتشري الكاتبة أن إدراك سلطات‬ ‫االحتالل لهذه املفارقة دفعتها إىل استعامل التعنيف الجنيس إلجهاض العبور مام جعل الروح‬ ‫النضالية والشجاعة والتضحية معايري ثانوية يف تأكيد الهوية الذكورية‪.‬‬ ‫ويتجسد التعنيف يف مامرسات جنسية تناوئ أخالق الفحولة الجنسية‪،‬فيسكت عنها املفعول به‬ ‫ويعرضها الفاعل يف صلف وعنجهية‪ .‬وهو ما يدفعنا إىل التساؤل عن العوامل التي تجيز لهم الجهر‬ ‫مبا هو مسكوت عنه يف األنظمة األخالقية الجنسية‪ .‬ثم ما عالقة االحتالل بالهويات الجندرية واألدوار‬ ‫االجتامعية املوكولة لألفراد‪ ،‬هل تكون مساهمته فيفرقعة النظام الجندري السائد يف البلد املحتل‬ ‫ورضب معايريه سالحا للفتك بالنسيج االجتامعي وتفكيك عراه؟ أليس التعنيف الجنيس مامرسة‬ ‫معهودة يف جل السجون السياسية مهام كانت طبيعة السلطة القامئة وبالتايل يصبح خطر املامرسة‬ ‫االستعامرية متجسدا يف االنتهاك اإلعالمي لحرمة اإلنسان؟ يبدو أننا يف هذا اإلطار إزاء حرب هويات‬ ‫وتنافس عىل التمثيل األفضل للنوع االجتامعي‪ .‬إال أن النظر إىل املسألة من واجهة واحدة قد يغمط‬ ‫‪ 16‬ـ ألف داين كابالن كتابا بعنوان "الرجال الذين أحببناهم‪ :‬عالقات الصداقة الذكورية والقومية يف إرسائيل" سنة ‪ ،2006‬وينضوي ذلك‬ ‫يف صميم اهتامماته بالدراسات الذكورية انطالقا من العالقات بني الرجال يف املجتمع اإلرسائييل‪.‬‬ ‫‪ 17‬ـ م‪.‬ن‪ :‬ص‪159‬ـ‪.160‬‬ ‫العدد‬

‫(‪185 )6‬‬

‫«الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬

‫دور واجهات أخرى يف إحداث صدع يهدد موقع الرجل الفلسطيني الراعي ـ الحامي لوطنه وأرسته‬ ‫‪18‬‬ ‫ـ وتدفعه إىل االستمرار يف مقاومة املستعمر وإثبات أهليته بامتيازات الرجولة‪.‬‬

‫‪ .2‬املربكات االجتامعية والثقافية للذكورة‬

‫‪19‬‬

‫قد يكون يف تحديد فريديريك الغرانج (‪ )Frédéric Lagrange‬ألنواع التلميحات إىل املثلية الجنسية‬ ‫يف األدب العريب الحديث ما يكشف عن هذا االرتباك الذي يشهده النظام األخالقي الجنيس حاليا‪ ،‬فخرق‬ ‫اآلليات االنضباطية املنظمة للعالقات الجنسية بشكل رصيح داخل السجون السياسية يتفق مع تلك‬ ‫العالقة ال ُجرحيةالنفسية باآلخر ويكون عادة األجنبي الغريب مثلام ّبي الغرانج خالل تحليلهرواية «رشف»‬ ‫لصنع الله ابراهيم‪ ،‬وقد علق عليها بقوله ‪« :‬إن الغرب ببساطة ينكح مرص التي عندما تتحرك دفاعا عن‬ ‫نفسها توضع يف السجن»‪.20‬وميكن تنزيلها يف نطاق تلك املقايسة التي تجعل الفاعل يف العالقة املثلية‬ ‫مشبعا بالفحولة واملفعول به نظري األنثى املحتاجة إىل الوطء‪ .‬وقد استنتج الغرانج أن هذا الصمت‬ ‫الحاف بالعالقات املثلية يف املجتمعات العربية ال يعني امتناع شيوعها بل هو إمعان يف التسرت عليها مبا‬ ‫هي معصية‪ ،‬ومبا هي تهديد لهوية ذكورية رشقية متخيلة‪ .‬ومع عدم إرادة املعرفة مل ّح الغرانج أن هذا‬ ‫السكوت يفضح انتظارا ملا ميكن ان تحدثه الثقافة الغربية من تجاوز للهويات املنجزة ولعل املؤلف يلوح‬ ‫إىل انفراده مبثل هذا املقال املركز عىل املثلية من جملة مقاالت الكتاب‪.‬‬ ‫لكن تأكيد الغرانج علىأن املثلية يف املدونة األدبية الحديثة مل تتجاوز حد الهمس يدفعنا إىل‬ ‫التساؤل عن عدم بحث الكاتب يف دوافع هذا الصمت املفاجئ فمن نافلة الحديث عن املثلية انها‬ ‫احتلت مساحة هامة من أمهات املتون األدبية القدمية‪ ،‬وشكلت أخبار املثليني وأشعارهم مصدر‬ ‫جاملية مختلفة مبا تحمله من إيقاعات جديدة يخلقها الجسد وهو يتحرك يف مدارات مغايرة‬ ‫للأملوف‪، ‬ولنا يف املأثور عن أيب نواس وصفي الدين الحيل وأخبار املاجنني الواردة يف «نرث الدر»‬ ‫‪ 18‬ـ تحلل ليزا تريك الباحثة الفلسطينية دوافع التغريات السلوكية الطارئة عىل املجتمع الفلسطيني ومن بينها ضعف السلطة األبوية‬ ‫فتتحدث عن هجرة الذكور وتهميش الزراعة وبداية تاليش األرسة املمتدة ‪ ..‬وتخلص بالتايل إىل نسبية دور االحتالل يف إحداث انخرام‬ ‫النظام األبوي‪" :‬ليس معقوال إذن أن يجري الرتكيز عىل عامل واحد فقط وحرص االهتامم به هو العنف الذي ميارسه الجنود اإلرسائيليني‬ ‫تجاه الرجال الفلسطينيني لتفسري ما يرى من تفتت للسلطة البطريركية داخل العائلة‪ ».‬املجتمع والنوع يف فلسطني" ‪،‬ص‪ 192‬ورد بالعدد‬ ‫التاسع من باحثات‪2003‬ـ‪ 2004‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬ ‫‪ 19‬ـ ولد الغرانج بباريس سنة ‪ ،1964‬أستاذ جامعي يرشف عىل قسم الدراسات العربية والعربية بجامعة باريس ـ السوربون‪ .‬وقد اهتم‬ ‫يف هذه املقالة ب "النظر إىل متثيل العالقات االجتامعية والحميمية يف اإلنتاج الثقايف"‪ .‬م‪.‬ن‪ :‬ص‪.185‬‬ ‫‪ 20‬ـ م‪.‬ن‪ :‬ص‪.207‬‬ ‫العدد‬

‫(‪186 )6‬‬

‫هاجر خنفري‬

‫أليب سعد اآليب وغريها شواهد ثابتة عىل ما شكلته الجنسية املثلية من قيمة إبداعية وهي تتحول‬ ‫إىل تفريغ جاميل يتحدى األحكام األخالقية والسنن االجتامعية‪.‬ولذلك فإن هذا الرتاجع الذي شهده‬ ‫األدب العريب ال ميكن أن يكون انتظارا ملدد غريب بل لعله من آليات الدفاع عن النظام االجتامعي‬ ‫املبني عىل التغايرية الجنسية أي عىل متثل الرجل واملرأة لهويتهام الجنسية متثال تاما‪.‬‬ ‫وينسجم هذا التأويل مع ما أبرزته مي غصوب يف مقالها «علكة ونساء شبقات»‪21‬من انتشار‬ ‫رهاب الخصاء املرتبص بالهوية الذكرية‪ ،‬إنه كالخوف من لعنة وباء أو مرض يكتفي املرء بالتلميح‬ ‫إليه‪ .‬لقد كانت العلكة سببا يف االعرتاف بالخوف من االغتصاب عىل يد أنثى أو تدمري األعضاء‬ ‫التناسلية أو انفالت السلطة‪ .‬وهو الخوف الذي بعث بكتب الجنس القدمية إىل الحياة لالستفادة‬ ‫من نصائح التيفايش‪22‬والنفزاوي‪ 23‬وغريهام‪ .‬إنه استنجاد باملنوال القديم للفحل العريب املتخيل‬ ‫ملواجهة عدو إرسائييل يدرك نقطة ضعفه‪ ،‬وهو ما يفرس حسب غصوب ذلك التوظيف السيناميئ‬ ‫لقدرات املرأة الجنسية من خالل أدوار نادية الجندي مثال ملقاومة العدو‪ .‬غري أنه توظيف ال يخلو‬ ‫من مساس مبنظومة الرشف التي ينهض الرجل بدور حاميتها‪ .‬فهو يف مأزق عربت عنه الكاتبة بسؤال‬ ‫طريف‪ :‬من قال إن من السهل أن يكون املرء رجال؟ إن وقوع الذكورة بني خطرين أحدهام أسطوري‬ ‫واآلخر تاريخي يفرس محورية املسألة الجنسانية يف الثقافة الرشقية‪ ،‬فعملية الضبط واملراقبة التي‬ ‫تتعرض لها النساء عن طريق املنظومة األخالقية والفقهية والعرفية تعد عملية رضورية لتحصني‬ ‫اصه هو‬ ‫املراتبية والحدود الجنسية التي يقوم عليها البنيان االجتامعي‪ ،‬ومتاسك هذا البنيان وتر ّ‬ ‫رشط القدرة عىل الصمود يف وجه خطر اآلخر املرتبص به‪ .‬وعندما تصبح العلكة مصدر تهديد لهذه‬ ‫املراتبية فإن تلك عالمة هشاشة هذا البنيان الذي جعل التمييز الجنيس مقوما محوريا له‪.‬‬ ‫وبالنظر إىل معضالت استقرار البنيان االجتامعي ميكن التسليم بأنه ليس من السهل‬ ‫أن يكون الرشقي عامة والعريب خاصة رجال فعال‪ .‬فالرجولة املنشودة ترتبع عرش املتخيل‬ ‫‪ 21‬ـ تتعرض مي غصوب إىل الضجة التي عرفها اإلعالم العريب سنة ‪ 1996‬وكان مصدرها إشاعة علكة تثري نشاطا جنسيا لدى اإلناث قد يبلغ حد‬ ‫الهيجان الجنيس‪ ،‬وقد تحول هذا الخرب إىل قضية سياسية بعد أن أكدت التحقيقات الصحفية عىل أنها مؤامرة إرسائيلية لرضب املجتمعات العربية‪.‬‬ ‫‪ 22‬ـ شهاب الدين أحمد بن يوسف التيفايش (‪580‬ـ‪651‬ه)‪ :‬من مؤلفاته "نزهة األلباب فيام ال يوجد يف كتاب"‪ ،‬وفيه قدم عرضا شامال‬ ‫لكافة الظواهر الجنسية يف املجتمع اإلسالمي حتى نهاية القرن السابع هجري غري مستنث ما اعتربه املجتمع من رضوب الشذوذ‬ ‫واالنحراف مثل اللواط والسحاق والزىن‪..‬‬ ‫‪ 23‬ـ عمر بن محمد النفزاوي (القرن ‪ 8‬ه)‪ :‬فقيه وقاض ألف كتاب "الروض العاطر يف نزهة الخاطر" وهو كتاب تعليمي جنيس كان سببا‬ ‫يف تراجع السلطان الحفيص عن توليته منصب قايض القضاة‪.‬‬ ‫العدد‬

‫(‪187 )6‬‬

‫«الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬

‫الذكوري إذ يسعى الواحد منهم إىل اكتساب مكوناتها ولكنها ال متكنه من االرتقاء إىل مصاف‬ ‫املتخيل‪.‬‬ ‫وهي أيضا هوية مرتبكة لعدم قدرة صاحبها عىل االنضباط داخل معايريهامثلام تكشفت عنه‬ ‫دراسة شخصيتني شهريتني تحولتا يف املتخيل الجمعي العريب إىل رمزي فحولة ولكنهام عجزتا عن‬ ‫متثيلها يف الحياة الخاصة‪ .‬فبني فريد شوقي وصدام حسني تنشأ تخييالت للفحولة كان اإلعالم من‬ ‫أهم صانعيها ‪ ،‬ومن أهم مالمحها الدفاع عن الرشف الجمعي واالضطالع بأدوار القوة والشجاعة‬ ‫التي تؤهل صاحبها للزعامة وانكسار الجميع أمام جربوته‪ ،‬غري أن تضخيم تلك املالمح التي تجعل‬ ‫شوقي رمز الفتوة وصدام رمز الطاغية أفضت إىل وثنية جديدة ـ مثلام وصفها حازم صاغية‪ 24‬ـ مل‬ ‫تستمر طويال وقد اصطدمت بواقع وحش الشاشة الذي كان مهزوما أمام سطوة نجومية زوجته‬ ‫هدى سلطان وتبددت إثر هيمنة شعور اإلحباط والخيبة من انكسار اإلله البرشي ـ صدام حسني‬ ‫ـ يف واقعتي أم املعارك واملنازلة الكربى‪ .‬فاألحداث التاريخية والدينامية االجتامعية تحرم املجتمع‬ ‫الذكوري من مداناة هذه النامذج املتخيلة‪ ،‬ولو كان األمر مقترصا عىل رمزية األب نفسه مثلام‬ ‫أوضح أحمد بيضون‪ 25‬يف سريته الذاتية‪ .‬فال وراثة االسم وال الوفاء للغة العربية وال التعلق بثقافة‬ ‫الجامعة كان قادرا عىل متكني الكاتب من متثّل مالمح هوية أبيه‪ .‬وكذلك كان أمر الشاربني يف املقالة‬ ‫األخرية فقد عرض حسن داوود‪ 26‬بشكل مضحك التحوالت التي عرفتها هذه العالمة الذكورية‬ ‫وتراجعها من مدار القسم إىل موضع سخرية نظرا إىل تراجع قيمتها الرمزية يف رجولة الوسامة‬ ‫واإلغراء رغم حرص املؤسسة العسكرية عىل حفظ مكانة الشارب باعتباره عالمة كرامة جامعية‪.‬‬ ‫هكذا تفضح هذه املقاالت الثالثة تاريخ الرجولة امللحمي يف املجتمعات الرشقية مبا تعرتضه من‬ ‫متغريات تنسف محاوالت االصطفاف وإعادة اإلنتاج الهووي األمر الذي يفيض إىل انعدام تناسب‬ ‫بني الذات وموقعها االجتامعي‪ .‬والالفت لالنتباه هو الدور الذي تلعبه عوامل التثاقف من استعامر‬ ‫وإعالم يف تسويق الصور الجديدة سواء كانت العملية واعية أو عفوية‪ ،‬مام يجعل الحديث عن‬ ‫رجولة «رشقية» محضة فهام سطحيا للمعايري الخارجية التي تضبطها‪.‬‬ ‫‪ 24‬ـ حازم صاغية ساة ‪ 1951‬يف لبنان‪ ،‬صحفي وناقد سيايس له مؤلفات عديدة من أهمها‪" :‬العرب بني الحجر والذرة فسوخ يف ثقافة‬ ‫سائدة" ‪ 1992‬و "مأزق الفرد يف الرشق األوسط" ‪.2005‬‬ ‫‪ 25‬ـ أحمد بيضون‪ :‬سيايس وكاتب ومؤرخ لبناين (ولد سنة ‪ .)1943‬من مؤلفاته "كلمن من مفردات اللغة إىل مركبات الثقافة" ‪، 1989‬‬ ‫"الجمهوربة املتقطعة" ‪.1999‬‬ ‫‪ 26‬ـ حسن داوود‪ :‬صحفي بيومية بريوتية "املستقبل" وكاتب روايئ‪ .‬كانت رواية "ضيعة ماتيلدا" أول مؤلفاته باللغة الفرنسية وذلك سنة ‪.1998‬‬ ‫العدد‬

‫(‪188 )6‬‬

‫هاجر خنفري‬

‫ومبا أن مؤسسات الرجولة الرمزية فقدت قدرتها عىل الصمود يف وجه الديناميكية االجتامعية‪ ،‬فقد‬ ‫غدت استعادة صور الحريم مالذ الباحثني عن الفردوس املفقود وهو ما جسده موريس فارحي‪ 27‬يف‬ ‫قصة استوحاها من سريته عن سحر الحاممات الرتكية وفتنة النساء العاريات وقد أيقظن فيه ذكورته‬ ‫الفتية وشحذن حساسيته العالية إىل الجنس‪.‬ورمبا تكون استعادة الكاتب ذكريات الصبا رضبا من‬ ‫مامرسة التلصص (‪ )voyeurisme‬ليمنح الحياة للرمز األقدم واألثبت للفحولة وهو هذا القضيب‪،‬‬ ‫غري أن القارئ يكتشف ذلك الرهاب الطفويل من الخيص وقد رددت كل نساء الحامم‪« :‬الخُيص مل‬ ‫تقع» وهو الرهاب الذي يالزم الرجل وإن تنوعت أشكاله‪ .‬ورمبا يكون تشبيه طرده من الحامم‬ ‫بطرد آدم من الجنة بإدراك انخراطه يف محنة الفحولة املعرضة للمخاطر وامللعونة بق َدر العجز فإذا‬ ‫هو يف حركة ارتجاعية إىل صورة الطفل جنسيا مع فارق مريع أنه عاجز عن االستمتاع بلحظة تقع‬ ‫فيها الخيص من جديد‪ .‬وتضعنا مسرية السارد الطفل أمام تلك اللوحة األسطورية الراسخة يف أعامق‬ ‫الذاكرة البرشية عىل اختالف انتامئها‪ ،‬لوحة الرشقيات العاريات املحتفيات بذكورة الرجل األوحد‬ ‫الفحل‪ ،‬تلك اللوحة الديونيزوسية التي تؤله اللذة وتجعل من القضيب رمزا لإلله‪ ..‬ويف انقضاء فرتة‬ ‫الطفولة وانفصال السارد عن عامل النساء اللذيذ مفارقة للصورة املتخيلة والتحاق بالواقع الذي يخبو‬ ‫فيه إشعاع عضوه الذكري بانحساره يف وظيفتي اإلشباع الجنيس والتناسل‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫خلف معرض مشاهد الرجولة املتخيلة ترتاءى أخيلة صور األنوثة الكريهة يف مجتمعات تحرص عىل‬ ‫رسم الحدود بني الجنسني‪ ،‬غري أنها حدود مائعة أو هي كام قدمها جون سكوت ‪ Joan Scott‬زئبقية ال‬ ‫‪28‬‬ ‫متغية إذ لكل ذات طريقتها يف مقاربة تلك املعايري وفق‬ ‫تقبل التقيد مبعايري نهائية‪ ،‬بل هي تاريخية ‪ّ  ‬‬ ‫استعداداتها وطبيعة العوائق املطروحة أمامها‪ ،‬وهو ما يخلص بنا إىل اعتبار هذا الكتاب وثيقة تاريخية‬ ‫تساعد عىل رسم املسارات املتعرجة واملتقطعة للذوات والجامعات يف سياقات ذات أطر مرجعية مختلفة‪.‬‬ ‫ورمبا يكون العجز هو محور التقاطع بني مختلف مقاالت الكتاب‪ ،‬ونقصد العجز عن تحقيق‬ ‫صناعة رجولة يتوافق فيها املتخيل مع الواقعي ويضعنا أمام بداهة تنوع الهويات الجنسية‪ .‬ويف‬ ‫كتابها «بنيان الفحولة»‪ 29‬أوضحت األستاذة رجاء بن سالمة مظاهر إمعان النظام األخالقي الحديث‬ ‫‪ 27‬ـ موريس فارحي‪ :‬ولد سنة ‪ 1935‬بأنقرة واشتغل بالتمثيل ثم انكب عىل التأليف الروايئ‪ .‬من مؤلفاته باألنجليزية ‪ ":‬أطفال قوس‬ ‫قزح"‪ ،1999‬و"تريك شاب" ‪.2004‬‬ ‫‪ Del’utilité du genre, p 7 ;traduit de L’anglais par Claude Servan ; Paris Fayard ; 2012‬ـ ‪28‬‬ ‫‪ 29‬ـ بنيان الفحولة‪ :‬أبحاث يف املذكر واملؤنث‪ ،‬تونس‪ ،‬دار املعرفة للنرش‪.2006 ،‬‬ ‫العدد‬

‫(‪189 )6‬‬

‫«الرجولة املتخيلة‪ :‬الهوية الذكرية والثقافية يف الرشق األوسط»‬

‫يف كبت «االلتباس الجنيس» وتأثيم التبديل الجنيس وتجريم املثلية بشكل متشدد مل يشهده العرب‬ ‫من قبل‪ .‬ويتزامن هذا القمع مع تنامي ثقافة كره النساء ذات النزعة الدينية‪ ،‬وكالهام آلية ناجعة‬ ‫لتحقيق ما وسمته الكاتبة بالدفاع املهووس عن الهوية‪ .‬وتستوقفنا عبارة الهوس ذات الداللة‬ ‫النفسية والتي تعكس حالة انفعالية ال نبالغ إن وصفناها بأنها متيل إىل رضب من الذهان مبا يعنيه‬ ‫من هلوسة ووهم يف الحفاظ عىل أسطورة الفحل جنسيا واألب املقدس والزعيم املنقذ‪ ،‬ولعل‬ ‫هذه الحالة النفسية هي مثال وضع املاليخوليا‪ 30‬الذي يسيطر عىل عالقة العرب برهانات الحداثة‬ ‫عموما كام أشارت الكاتبة‪ .‬إننا ما نزال رافضني مواجهة محنة الفحولة وما يزال شبح الفحولة‬ ‫املتوحشة يخيم عىل ثقافة التعامل بني مختلف الهويات الجندرية‪ ،‬غري أننا نسري ولو بخطى وئيدة‬ ‫يف طريق الخالص من هذه الحالة الهذيانية وذلك بفضل تنوع مستويات وأمناط الخطاب النقدي‬ ‫ال سيام وقد رشع يف التخلص من آليات ومرجعيات التحليل التي توظف يف الخطابات املنافحة‬ ‫عن املركزية الذكورية (االستدالل الديني عىل مكانة املرأة‪ ،‬جوهرة األنوثة يف مقابل الذكورة استنادا‬ ‫للطبيعة‪ )..‬ولعل املرجعية الحقوقية التي استندت إليها الكاتبة يف نقدها بنيان الفحولة هي‬ ‫التي مكّنتها من تجاوز التعصب لألنثى ومنحها رؤية محايدة ومنزهة عن السخرية أو التهجم أو‬ ‫التحرس الغالب عىل املقاالت التي جمعتها الكاتبتان‪.‬‬ ‫عىل أن ذلك ال ينفيدرجة الجرأة التي وسمت مقاالت الكتاب وإن بقيتإىل حد ما وفية لجوانب‬ ‫من املسكوت عنه داخاللنظام الفحويل‪ ،‬ال سيام ما تعلق بانفالتاتاألنوثة من جديد‪ ،‬إذ ال نكاد نعرث‬ ‫عىل إضاءات تتناول الوضع االجتامعي والنفيس للمتحوالت جنسيا أو السحاقيات أو املرتجالت‬ ‫يف املجتمعات العربية‪ .‬فالخوف ما يزال يرمي بظالله خاصة بالنظر إىل ما تعنيه هذه الهويات‬ ‫املتمردة من رضب للمركزية الذكورية وقطع مع تقاليد العالقات األنثوية من تنافس وغرية بني‬ ‫النساء من أجل الظفر مبكان ما يف عامل الرجال‪ .‬ويعنينا هذا السكوت مبا هو دعم السرتاتيجيات‬ ‫تحصني السياسات الذكورية‪ ،‬أليست األنوثة صناعة وازعها إفراد الذكورة بالسلطة‪ ،‬صناعة ملعايري‬ ‫تتحكم يف صورة األنوثة املتخيلة التي تتفاوت درجات الدنو منها؟؟ وبذلك كلام متكن املرء من‬ ‫االبتعاد عن النمط املتخيل كلام تقلص منسوب التمييز الجنيس وكان الحديث عن ذاتيات متنوعة‬ ‫خارج النظام الثنايئ القرسي‪،‬ويف تلك املسافة الفاصلة عن املعايري املنتجة لفانتازم األنوثة والذكورة‬ ‫تحدث التوترات التي قد تنشأ عنها تلك الهويات املتمردة‪.‬‬

‫‪ 30‬ـ تفرس األستاذة رجاء بن سالمة مفهوم املاليخوليا بأنه رفض الحداد وقطع الصلة باملوضوع الحبيب عرب نفاس هذياين للرغبة‪ .‬بنيان‬ ‫الفحولة‪ :‬ص‪.168‬‬ ‫العدد‬

‫(‪190 )6‬‬

‫مجلة "ألباب"‪:‬‬ ‫اإلطار النظري ورشوط النرش‬ ‫مل يكن االشتباك بني الدين والسياسة واألخالق قد بلغ حدا ً كالذي بلغه يف هذه اللحظة املعارصة‬ ‫الشديدة االلتباس‪ ،‬ال سيام مع صعود تيارات اإلسالم السيايس وفصائلها الحزبية إىل سدة الحكم يف‬ ‫عدد من الدول العربية‪ ،‬يف إطار ما س ّمي بـ"ثورات الربيع العريب"‪.‬‬ ‫وقد أدى غياب الرؤية النظرية‪ ،‬واملِهادات التقعيدية‪ ،‬إىل اختالط األوراق‪ ،‬وتداخل الحقول‪،‬‬ ‫فصل املامرسة السياسية عن املرجعيات الدينية والفقهية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫بحيث أضحى من الصعب ُ‬ ‫غدت القيم األخالقية مرتهنة إلمالءات الديني الحارض يف اشرتاطاته الفقهية املسكوكة‪ ،‬واشرتاطات‬ ‫السيايس وإكراهاته‪.‬‬ ‫ويف غمرة ذلك‪ ،‬صار لزاماً أن يتصدى املفكرون واملثقفون العرب واملسلمون لهذه املعضلة‪ ،‬ال‬ ‫لنقضها وبيان تهافتها وحسب‪ ،‬بل‪ ،‬وهذا هو األهم‪ ،‬لبلورة تص ّور نظري لشكل العالقة وحدودها‬ ‫بني السلطة السياسية واملرجعية الدينية التي تدير السياسة بذهنية األحكام الرشعية التاريخية‪ ،‬أو‬ ‫بعقل املايض‪ ،‬وبني األخالق كدين فطري أويل وكعلم يرى كث ٌري من الفالسفة أنه أسبق من الدين‬ ‫التاريخي يف تنظيم عالقة الفرد بالعامل‪.‬‬ ‫ومن الحاجة املاسة والرضورة امللحة‪ ،‬انبثقت فكرة مجلة "ألباب" التي تتطلع إىل س ّد الفراغ‬ ‫خص الجهد التنظريي للعالقة امللتبسة بني‬ ‫الحاصل يف األدبيات السياسية والفكرية العربية‪ ،‬فيام ّ‬ ‫الدين والسياسة واألخالق‪ ،‬رغم أن هذا الثالوث يجد له مرجعيات يف الثقافة الفلسفية والفكرية‬ ‫العربية اإلسالمية‪ ،‬لكنها مرجعيات تحتاج إىل إعادة قراءة وتقييم ونقد من أجل وضعها يف أفق‬ ‫التحوالت العربية الراهنة؛ وبالتايل إنتاج مفاهيم مركزية تج ّنب االلتباس والصدام والهيمنة‬ ‫واالستحواذ بالسلطة‪.‬‬ ‫خص الدين والسياسة‬ ‫وتقتيض الرضورة التاريخية نقد املرياث الفكري العريب اإلسالمي فيام ّ‬ ‫واألخالق‪ ،‬يف ضوء املناهج والتصورات الفلسفية والفكرية الحديثة‪ ،‬بحثاً عن االستفادة من‬ ‫عصارات السجال يف العامل حول العالقة الجدلية بني عوامل األفكار ومتطلبات البناء املجتمعي عىل‬ ‫العدد‬

‫(‪191 )6‬‬

‫وجه التحديد‪ ،‬ال سيام أن الكثري من الحوارض الثقافية العاملية متخّض تاريخها عن أحوال عاصفة‬ ‫قبل أن تستقر مجتمعاتها ونخبها عىل مالمح تص ّور قا ّر ملاهية الحكم ودينامياته‪ ،‬وحدود الديني‬ ‫واألخالقي يف هذه املعادلة املعقدة‪.‬‬ ‫كام يتعني‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬االستعانة بالتجارب التاريخية الحيوية التي متركزت عىل فكرة التنوير‬ ‫العقيل‪ ،‬وما أسفر عنها من مرتكزات قيمية‪ ،‬بغية تأسيس عقد اجتامعي مس ّدد بالقيم اإلنسانية‬ ‫الكلية‪( :‬الحرية‪ ،‬العدالة‪ ،‬املساواة‪ ،‬السلم‪ ،‬إلخ)‪ ،‬وذلك يف محاولة لإلسهام يف التفكري والتنظري‬ ‫اإلنسانوي الكيل القابل للترصيف يف رحاب التجارب السياسية العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫وتنشُ د "ألباب"‪ ،‬التي ستكون مجلة فصلية محكّمة‪ ،‬تصدر إلكرتونياً وورقياً‪ ،‬ويرشف عىل صياغة‬ ‫تص ّوراتها ورسم مالمحها نخبة من املفكرين العرب واملشتغلني بالفلسفة والعمل األكادميي‪ ،‬أن تس ّد‬ ‫النقص الفادح يف الجهود املتواصلة والدؤوبة لصياغة عقل نظري يشخّص وجوه التناظر والتباين‪،‬‬ ‫ووجوه االلتقاء والتالقح‪ ،‬ويكشف الحدود الفاصلة بني األقانيم الثالثة‪ ،‬تجنباً للوقوع تحت طائلة‬ ‫التفكري العزيل الذي يقمع آليات التفكري العقالين والقيمي الحر حول املرجعية واملرشوعية‪ ،‬وتفادياً‬ ‫لالختناق تحت سطوة الترشيعات التفصيلية املسكوكة يف املدونات املوروثة‪.‬‬ ‫وعالوة عىل ذلك‪ ،‬فإن االشتباك التفكييك والرتكيبي مع تلك األقانيم الثالثة من شأنه أن يحول‬ ‫دون الخضوع تحت طائلة التفكري السيايس السلطوي الذي يتل ّون بحسب االحتياجات املنفعية‬ ‫ألهل السلطان‪ ،‬أو ألولئك الساعني نحوه‪ ،‬وصوالً إىل تشقيق منافذ حيوية ترصف الطريق أمام‬ ‫مناذج اجتامع سيايس تعتمد عىل توازنات الحقوق والواجبات‪ ،‬فضالً عن فتح ملفات التفكري يف‬ ‫رضورات التأهيل القيمي للفرد والجامعات واالجتامع‪ ،‬يك يصبح تواصلهم وتوافقهم موئل استصدار‬ ‫اإلجامعات والتوافقات التي يتم االحتكام وفقاً ملقتضياتها الس ّيارة واملتح ّولة‪.‬‬ ‫وال ميكن أن يتجذّر ذلك إال من خالل سجال مفعم بروح القيم النافعة للناس‪ ،‬والتي يُتداعى‬ ‫للتفكري حولها يف اجتهادات تراعي يف تأسيساتها مواكبة املصلحة العامة املستندة إىل معقولية‬ ‫قيمية إجامعية‪ ،‬كام تراعي استنهاض الجميع إلنشاء مثل هذه املعقولية كرشط لعمليات البناء‬ ‫املجتمعي ثقافياً وسياسياَ‪.‬‬ ‫ويف غضون ذلك‪ ،‬ال بد من أن يُصار إىل ترجمة هذه املعقولية يف ترصيفات متعيّنة عرب برامج‬ ‫خطابية وسياسية تحت سقف مرشوعية سياسية منفتحة عىل اإلنسان وأشواقه الوجودية من جهة‬ ‫العدد‬

‫(‪192 )6‬‬

‫التأسيس‪ ،‬واضعة نصب عينيها أولوية االلتفات إىل تحقيق احتياجاته االجتامعية واملعاشية بصفته‬ ‫فردا ً سياسياً‪.‬‬ ‫إن رسم الحدود الفاصلة بني األقانيم الثالثة‪ :‬الدين‪ ،‬والسياسة‪ ،‬واألخالق‪ ،‬يرنو للوصول‬ ‫إىل رسم معامل مخططات أ ّولية لشكل االجتامع العريب املنشود‪ ،‬ال سيام فيام يتعلق‬ ‫باستحضار التنظريات التي تدعم صيغة الدولة املدنية العربية التي تتغذى عىل املكنون‬ ‫القيمي املخبوء يف ذاكرتنا الثقافية‪ ،‬وتنمو عىل ربوع تقاطعاته العميقة مع املنجز اإلنساين‪،‬‬ ‫سعياً إىل أن يتم تطِّويرهام معاً‪ ،‬ليك تستجيب مناذجنا املجتمعية الناشئة ملرتكزات القيم‬ ‫الكلية‪ ،‬وحتى تتكيف مع حداثة الراجح راهناً‪ ،‬وتخضع لسنن التطور‪ ،‬ونواميس التح ّول‪،‬‬ ‫املؤسس عىل احرتام عقل اإلنسان‬ ‫وليك تساير ثقافتنا رغبة االنخراط يف الجهد الكوين‬ ‫ّ‬ ‫وكرامته ونشدان خري يّته‪.‬‬

‫دعوة إىل النرش‪:‬‬

‫تدعو هيئة تحرير "ألباب" الباحثني واملشتغلني بالفكر والفلسفة إىل الكتابة يف املجلة‪ ،‬يف إطار‬ ‫املحاور والحقول العامة املقرتحة التالية‪:‬‬ ‫‪1.1‬الدولة الدينية والدولة املدنية‪.‬‬ ‫‪2.2‬الحاكمية الرشيدة‪.‬‬ ‫‪3.3‬النظرية اإلسالمية املعارصة يف الحكم‪.‬‬ ‫‪4.4‬اإلسالم السيايس‪ :‬الحكم بعقل الرشيعة‪.‬‬ ‫‪5.5‬الدميقراطية التقن ّية‪ :‬رشعية صناديق االقرتاع‪.‬‬ ‫‪6.6‬النظرية األخالقية أو القانون األخالقي‪.‬‬ ‫‪7.7‬العقل واألخالق‪.‬‬ ‫‪8.8‬األخالق والدين‪.‬‬ ‫‪9.9‬الخرييّة‪.‬‬ ‫‪1010‬املق ّدس وتصور البرش للمق ّدس‪.‬‬

‫رشوط النرش يف مجلة "ألباب"‬

‫ترحب مجلة "ألباب" بنرش البحوث والدراسات األصيلة املتصلة بالدين والسياسة واألخالق‪،‬‬ ‫واملكتوبة باللغة العربية‪ ،‬ويشرتط يف البحث أال يكون قد قُ ّدم للنرش يف أية مجلة أخرى‪ ،‬سواء تم‬ ‫نرشه أو مل يتم‪ ،‬عىل أن يلتزم املؤلفون بالرشوط اآلتية‪:‬‬ ‫العدد‬

‫(‪193 )6‬‬

‫‪1.1‬أن يكون البحث مطبوعاً عىل الحاسوب عىل نظام (‪ ) Word‬وأن يرسل بالربيد اإللكرتوين‪،‬‬ ‫مبا يف ذلك الهوامش والجداول وقامئة املراجع‪ .‬ويف حال إجازة بحث طويل للنرش فمن حق‬ ‫هيئة التحرير الطلب إىل مؤلفه اختصاره‪.‬‬ ‫‪2.2‬أن ت ُعتمد األصول العلمية املتعارف عليها يف إعداد البحوث وكتابتها‪ ،‬وبخاصة يف التوثيق‪،‬‬ ‫واإلشارة إىل املصادر بحيث تتضمن‪ :‬اسم املؤلف‪ ،‬عنوان الكتاب أو املقال‪ ،‬اسم النارش أو‬ ‫املجلة‪ ،‬مكان النرش إذا كان كتاباً‪ ،‬تاريخ النرش‪ ،‬املجلد والعدد وأرقام الصفحات إذا كان‬ ‫مقاالً‪.‬‬ ‫‪3.3‬تعرض البحوث عىل محكّمني من ذوي االختصاص والخربة العالية‪ ،‬يتم انتقاؤهم برسية‬ ‫لتبي مدى أصالة البحوث املرسلة‪ ،‬وموافقتها رشوط النرش املعمول بها يف‬ ‫تامة‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫املجلة‪ ،‬ومن ثم مدى صالحيتها للنرش‪ .‬وبعد ذلك يتم إخطار املؤلفني بنتائج التقييم‪.‬‬ ‫‪4.4‬تقدم البحوث باللغة العربية‪ ،‬مرفقة بالسرية الذاتية للباحث أو الكاتب إىل رئيس التحرير‪،‬‬ ‫وذلك عن طريق الربيد اإللكرتوين فقط ‪[email protected]‬‬ ‫‪5.5‬يرفق البحث مبلخص بحدود (‪ )120‬كلمة باللغة العربية‪.‬‬ ‫‪6.6‬تكتب الحوايش بشكل متسلسل يف أسفل كل صفحة‪.‬‬ ‫‪7.7‬ترت ّب قامئة املراجع بحسب كنية املؤلف يف نهاية البحث‪ ،‬ويف حال وجود عدة مراجع‬ ‫للمؤلف نفسه‪ ،‬فإنها ت ُرتب بحسب تاريخ صدورها من األحدث إىل األقدم‪.‬‬ ‫‪ 8.8‬يف حال وجود مخططات أو أشكال أو معادالت أو ما يشبهها‪ ،‬يتم أخذها باملاسحة‬ ‫(‪ )Scanner‬وإرفاقها بامللف اإللكرتوين كصورة‪.‬‬ ‫بالنسبة لعروض الكتب‪ ،‬يرجى التقيد مبا ييل‪:‬‬ ‫ •أن تكون الكتب ذات طبيعة فكرية وفلسفية تتقاطع مع حقول املجلة‪.‬‬ ‫ •أن تكون الكتب حديثة ال يتجاوز زمن إصدارها ثالث سنوات من تاريخ صدور العدد‬ ‫األخري‪.‬‬ ‫ •يُفضّ ل أن تكون الكتب من لغات متعددة‪.‬‬ ‫ •يُفضّ ل أال تتجاوز مراجعة الكتاب ‪ 2500‬كلمة‪.‬‬

‫العدد‬

‫(‪194 )6‬‬

‫العدد‬

‫(‪195 )6‬‬

‫العدد‬

‫(‪196 )6‬‬

Lihat lebih banyak...

Comentarios

Copyright © 2017 DATOSPDF Inc.